قصة كانت أياما جميلة(1)

يا رب انها نفس الطريق الطويلة التى طالما سرت عليها فى الماضى البعيد لم تتغير كثيرا . لا اكاد اصدق نفسى ها هى ذى البيوت عن يسارى لم تفقد رواءها القديم كثيـــــرا ، و هذا هو ” الرياح التوفيقى ” عن يمينى لا زال يتدفق بمائه بين ضفتيه الضيقتين ، طيبا حنونا كما عهدته قبلا ، ثم لا شىء بعد ذلك جديدا سوى تلك الاكشاك الخشبية الغريبة التى بنيت على الجانبين كالحشائش الشيطانية ، تخز أعين السائرين كالقذى …على اية حال لا بأس بها مع ذلك رغم منظرها الفقير الكئيب ، فهى قليلة و متناثرة و ليس فى مقدورها حجب النهر الجميل عنى

قلت له ملاحظاً و الفرحة السكرى تعربد فى قلبى

– لا زال ” الرياح ” كما تركته ، طويلاً ، وديعاً ، ضيقاً ، فياضاً بالماء كما كان . اكاد احس ان كل شىء احتفظ بنفسه حتى اعود اليه و اراك مرة اخرى

نظر الى متعجبا ، تضاحك مسرورا . زعق بصوته ساخرا :

– يا ســـــــلام ….ذاك قول شاعر ، شفه الوجد و الحنين . و لكنك اخطأت يا سيدى الشاعر تمام الخطأ

– و فيم اخطأت ؟

– يا صاح …كان يجب عليك ان تلاحظ ” انك لا تنزل الى نفس الماء فى النهر مرتين ” اضحكنى قوله ، و تذكرت طريقته المفحمة فى الحوار قلت اغيظه فى مداعبة :

– ارايت.حتى طريقتك فى الحوار لم تزل – اقسم لك – كما كانت …. لم تتغير . ثم انحدارنا قليلا الى اليمين كان كوبرى المشاة الصغير مزدحما بالسيارات و الــــدراجات و عربات الكارو و خلق كثيرون يعبرون عليه بلا انقطاع

– ياه نفس الازدحام القديم

عند نهايته رايت كشك المرور القديم ، لا زال عن يساره قابعاً . تطلعت اليه مشغوفاً كأثر عزيز قديم و حملتنا الاقدام نحو اليسار الى الطريق الزراعى الطويل . اخذت نفساً طويلا كأنى استاف عبير الماضى كله و حملتنى الذاكرة تطير بى الى سنين بعيدة كانت عنى قد تولت ….أحسست فجاة و كانى سرت على هذه الطريق بالامس فقط . قلت له وحنينى الى كل الاشياء يتوهج فى اعماقى كجذوة .

– سرنا على هذه الطريق مئات المرات ….أتذكر ؟

– طبعاً

و تهادت خطواته و كأنه يستمتع بمشهد الماضى البعيد يتراىء امامه مثلى … استطردت و قلبى يخفق بالحـــب و الحنين

– عندما عدت هنا – صدقنى – كانى عدت و الله الى الصبا و الشباب ….الا تحس بذلك مثلى ؟

هز راسه محزونا . وضع يديه خلف ظهره

– أتريد الصدق ؟

ابتسمت . شعرت انه بدأ يناكفنى كعادته التى احفظها عنه منذ أيام الصبا

– نعم

– انا من ناحيتى ….لا احس بأى روعة لاى شىء هنا …هذه هى حقيقة شعورى ان اردت ان تعرف

ثم رزح صمت ثقيل بيننا كالنكبة . نفخت فى حسرة كلماته اسقطت فى قلبى قطرة حزن اسود . قلت فى نفسى ليته ما نطق …استمر فى كلماته بعد هنيهة كأنه يركل نشوتى بصراحته الحجرية . !

– لا تغضب من الحقيقة …سأحاول اقناعك الان …أنت تحس بالحنين لكل شىء هنا لانك انقطعت عن زيارة المدينة سنين طويلة . صح

– ربما ….كلامك معقول مع ذلك

– طيب ….هناك شىء اخر ….اود ان تذكره و تعيه لقد عشت كل شبابك فى هذه المدينة …هل احسست يومها و انت تعيش فيها بثقل كل هذا الحنين ؟

تطلعت اليه ساكتا و طيور الاسى تحلق فوقى ….استمر يدوس بكلماته الصاخبة كل حنينى و اشتياقى

– مطلقا لم تحس ، و لطالما شكوت لى من الملل الفتاك و حياتك تمضى هنا رتيبة بلا تجديد ….اتذكر ؟ ….و كم تمنيت ان ترحل الى البعيد عن هذه البلدة التى انت الان تحترق فيها باللوعة و الاشتياق

– كل ما قلته هو الصح بعينه و لا انكره ابدا

و ابتلعت ريقى كغصة ….كان الغضب فى اعماقى يتمرد على ان اثور فى وجهه …قلت له بعد لحظات و انا التقط حجرا القى به فى الماء بعيدا

– لا تحاول ان تكون قاتلا لاى سعادة ….اذا لم تستطع ان تخلص الناس من الشقاء ….فاحجم عن طعناتك للقلوب ابتسم فى حرارة :

– حتى …..لو كانت السعادة التى يستمسكون بها وهماً

– نعم ….فالسعادة هى وهم البشر الجميل و زادهم فى رحلة المعاناة و الشقاء

قال معاندا :

– حين اعيش الواقع ، و اتعايش معه بحلوه و مره احس بالقوة و من ثم السعادة قلت احاوره :

– كلنا نعيش الواقع مثلك و لكن السعادة التى تسميها وهماً هى امل الحياة و جناحاها

هز راسه و اخلد الى الصمت . اعرف انه لم يقتنع ….لقد سكت حتى لا يغضبنى و انا النزيل عليه ضيفاً …كانت اقدامنا تدق على الارض لحنا هادئا ، رزينا ، و عيناى المشتاقتان تنطلقان

خلف الاشياء تحنانا و انعطافا …نفس الاشجار القديمة ما زالت تصطف كما العماليق على جانبى الطريق رؤوسها الشوامخ تتمايل مع النسيم نشوى او غضبى ، كروحى السكرى التى عكر بعض صفوها صديقى اللدود . تذكرت كل القرى التى وصلت اليها يوما مع نفس هذا الصديق المشاكس سيرا على الاقدام : ” منية السباع ” شبلنجة ” ثم القطيفة ” ….اه ….لو تتخلى عن نقاشك العقيم و تخلع عنك قناعك السئيم ، و تعود الى ماضيك التليد و تمشى معى حتى شبلنجة ….لاشم هناك ذاك العبير الذى عتقته لابد تلك السنين

قلت له مبتسماً و اعماقى ترتعش خوفاً من رفضه :

– ما رايك – يا بطل – لو وصلنا الى شبلنجة سائرين على الاقدام ….انتظر قليلا سأحس لو فعلنا اننا عدنا الى الصبى من جديد

تنهد . مصمص بشفتيه متحسراً و ابتسم

– و ما جدوى الاحساس بالشىء و انت لست منه و ليس فيك

ابتسمت متخاذلا :

– فلنحاول يا اخى ….ما بالك اليوم مناكداً

– نحاول ….

و قلب شفتيه ساخرا :

– اتحداك ….لو استطعت ان تصل اليها وحدك سيرا على الاقدام

يا رب …كنت احس من اعماقى انه سيرفض فلماذا بالله سألته ؟

استطرد يطعن حنينى ، بنصال كلماته

– انا عارف لماذا تريد الوصول الى شبلنجه ؟……

و لكن ارجوك ….اطرد عنك هذه الاوهام التى تطن فى راسك طنين الذباب …فكل شىء قد تغير ، و لن يعرفك فيها احد مهما صرخت فى ارجائها بأسمك

تمنيت من اعماقى المغتاظة ان يكف عنى كلماته اكاد احس بالذنب لانى حطمت احلامى بأرجل فيل . سأنعت نفسى بالغباء لانى سلمت له اوراق احلامى كلها . انه الان يحرقها – و ااسفا – و لا يبالى ، و لكنى – و الله – معذور . غبت عن مدينتى كل تلك السنين فنما لروحى جناحان رقيقان هائلان نسيجهما مع الايام من حبى و اشتياقى و حنينى ….وظننت اننى لو عدت ستحملاننى لاحلق بهما طائرا عبر الماضى الجميل كله و لكنه – يا حسرتى – امسك بيده الغليظة سكينا و فصلهما عنى من غير رحمة ، و دون ان يحترم لهفتى او شعورى ..انا لم اكلفه شيئا سوى هذه النزهة التى طلبتها منه كصديق قديم …شاركنى فى يوم من الايام الامى و امالى لم انظر اليه باخت نزهتى . لماذا بحق الله اسير معه الان ؟ و هو قد اطفأ كل مصابيح شوقى…….تابع

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات