قصة كانت أياما جميلة(2)

 و نشر الحقيقة المفزعة ذات الاشواك امامى . احس الان بساقى تؤلمانى . ألتوت بنا الطريق قليلا تجاه اليمين و بدا ” الرياح ” يفارق صحبتنا مختفيا كلما زاد انحناء الطريق نحو المشرق . كان يمضى بجوارى صامتا ، تعيسا . انكرت فيه صديق الماضى الحبيب …خالسته النظر و هو يمضى معى مذهولا . كان وجهه الهضيم كئيبا فى صمته و شفتاه الرقيقتان مزمومتان فى اصرار و عناد و كأنهما تحبسان كلاماً قديماً انحبس فى القلب منذ زمن بعيد فوداه اكل الشيب منهما السواد . راح ينفخ من منخريه بين الحين و الحين هواء مسموعا كمن يضيق بكل الاشياء و بى ….اردت ان امزح معه لانفض عنا هذا الغضب الصامت الذى تراكم علينا كغبار كثيف خبطته على كتفه و انا اضحك :

– هيه . صح النوم لا اسكت الله منك حسا

افاق من شروده . نظر الى و ابتسم :

– الحقيقة ان مرض الولد هدنى

تعجبت من قولته التى اطلقها بلا مقدمات هل ود ان يبوح لى بهموم قلبه انتظرته يتكلم . بيد ان كلماته انتهت عند هذا التصريح المبتور و لم تزد . عاد يحتمى برقة الصمت من جديد . قلت له مهوناً :

– يا اخى لست وحدك . ابنائى ايضا ارونى فى أمراضهم كل النجوم فى عز الظهر فأصبر

لكنه – مع ذلك – لم يتكلم ، و لم يعلق ظلت خطواته المستأنية تتناسق مع خطواتى الهادئة و يداه الطويلتان تتشابك راحتاهما خلف ظهره بلا مبالاة …اترانى عرفت الان سبب حزنه و مشاكسته لى ربما …اعماق الانسان تبدو كبحيرة رقراقة بالماء ….كلما هبت عليها ريح عاصف ترسبت فى اعماقها الطين و الحصى و كل نبت و حيوان يموت …فهل نلوم الماء بعد ذلك ، اذا اخضر سطحه ، و اعتكر ….تبدد غضبى عليه ارثى لك يا صديقى . نسيت عادتك القديمة حين كنت تطل على بوجه محزون فأعرف عنك انك جئتنى لتشكو الى أوصاب نفسك …انا – فى الحقيقة – أقدس حزنك و لن افرض نفسى عليك الا اذا بحت بالامك لى

بدأ الكوبرى الاسمنتى كقوس رهيب متعاليا فى شموخ فوق الطريق الزراعى ، و طرفاه يتصلان بالطريق المرصوف الذى يمتد بلا نهاية …كانت السيارات العجلى تنهبه فى تلك اللحظات جرياً الى طرفيه …تمنيت من اعماقى ان ادور حول طرفه الايمن المندس بين احضان الحقول و اصعد اليه

رفعت وجهى اليه اقرأ فيه سطور أيام غوابر

– كم سرنا كثيراً ….اتذكر ؟

– نعم كثيرا جداً

و عاد يخفى لسانه فى حلقه من جديد ضحكت له و انا اشفق عليه

– اسمع انت تقيل الدم جداً

– حرر يديه ، و ابتسم

– نفس الكلمات – و الله – قالتها لى ، زوجتى منذ يومين

هللت ضاحكا . امسكت بكتفه القريب منى

– أرايت ….لست وحدى اذن الذى حكم عليك زوجتك سبقتنى فى الحكم عليك …فما السبب ؟

– ليس هناك من سبب …صدقنى

– مستحيل …فكل شىء لوجوده سبب

– صحيح

و مع ذلك لم يتكلم . هز رأسه ، ثم سكت ارغمنى صمته الحزين على لقائه بمثل صمته . قلت فى نفسى : ” دعه يستريح فى سكوته ، لعله يرى فيه هناءته ولاتسلى انا بالنظر الى الاشياء التى ما غبرت قدمى فى هذا السير الطويل الا لها كانت السيارات تتسارع على الطريق بجوارنا كالشياطين و ما زال الطريق ممتدا بلا نهاية . ضيقا – رماديا – لامعا تحنو عليه الاشجار و تتهامس فوقه مع النسيم و الاطيار

اختفى الرياح التوفيقى تماما ، و تغير المنظر جدا استبدل يسار الطريق بالنهر ضفة عالية ، واسعة . انتصبت على جانبيها اعمدة التليفون ، و نامت فوقها قضبان السكك الحديدية ….بينما تزاحم على منحدرها الضيق الطويل نباتات التين الشوكى و البوص الاخضر ،

و الحشيش …من بعيد عن يمين الطريق ووسط الحقول الخضراء التى تمضى نحو الافق البعيد ربضت الفناطيس البيضاء . الاسطوانية . المهيبة لاحدى شركات البترول

– اسمع . لنرجع ….لقد تعبت

باغتنى قراره . كنت احس احساسا صادقا انه سيباغتنى به بين لحظة و اخرى فنظره ينبىء عنه ألتفت اليه لمحت صفحة وجهه المتعب ، و هو يقف استعداداً لان يعود

– هيا نرجع

قالها برقة و كانه يرجونى شعرت بحزن ثقيل يغشى اعماقى كدخان كثيف كنت اتمنى لو سار معى الى ( منية السباع ) القريبة . قلت له فى مداعبة و انا استدير مستسلما للعودة

– انسيت يا بطل انك كنت تسير معى حتى الواحدة صباحا

مصمص بشفتيه قال فى برود اغاظنى جدا

– يا اخى ….انت تعيش فى الماضى بشكل عنيف تذكر انها ايام مضت و لن تعود ابدا

ثم صمت فجاة كما بدا ثورته و ابتلع ريقه بصعوبة كانما يبتلع عصا

قابلت صمته الثقيل بصمت اثقل قلت فى نفسى

( لا حول و لا قوة الا بالله جت الحزينة تفرح مالقتلهاش مطرح .. ما علهش يا زهر )

و كانه احس ان كلماته قد انطلقت من فيه كالبارود و اننى ربما غضبت منه بدأ فى الاعتذار

– انا اسف ….ارجوك لا تحمل كلماتى اكثر مما تطيق فانا لسوء حظى و حظك ثقيل الدم جدا كما لاحظت لمتاعب فى البيت و العمل انت فى غنى عن سماعها وقفت قليلا اخذت احدق فيه مبتسما كان الرثاء لحاله يملانى اكثر من الغضب عليه تضاحك فجأة بلا مقدمات

– و المدام كما تعرف ….تنتظرنى و اذا غبت عنها جلدتنى بسوط لسانها الطويل

امسكت بيده

– هيا يا اخى نرجع …انت محق تماما فيما قلت ….فما معنى ان اسير فى طريق لا تسلية به و لا فيه شىء مثير

و اشحت بيدى بعيدا كأنى اؤكد له كلماتى بالاشارة

كانت خطوات العودة هادئة مستأنية كما بدأناها بدت الطريق طويلة . مملة . مع اننا لم نتوغل فيها كثيراً …حتى الاشجار على الجانبين وقفت صامدة بلا معنى كانها تنتظر شيئاً ابدا لا يجىء قلت له و نحن نقترب من كشك المرور ، و الكوبرى من جديد

– لقد تعبت ….سأستريح قليلا فى هذه المقهى

و اشرت بيدى الى مقهى صغير ، صفت كراسيها البلدية بجوار الرياح

– طيب …اسمح لى ان استاذن بالانصراف ….و انا اسف جدا لانى كدرت عليك نزهتك

ثم مد لى يدا ضخمة سمراء لمصافحتى ، و ابتسم فى تأثر عميق :

– فيم الاسف ؟ …انا احس بك . انت صديق قديم مع سلامة الله . اراك دائما بخير

– الله يسلمك

و سار قليلا ثم استدار فجاة كما لو كان قد نسى شيئا معى

– اسمع …ارجو ان اراك مرة اخرى قبل ان تسافر

– ان شاء الله افعل

و رفع يده بالتحية و مضى يخب فى طريقه بأرجل طويلة نحيلة ….جلست منهوكا على اقرب كرسى صادفنى . ارحت ذراعى على منضدة خشبية . صغيرة محل لونها و تزاحمت البقع البنية على سطحها . اطلقت نظراتى خلفه تتلصص عليه … فى ظهره انحناء قليل ، لايبدو الا من بعيد …ترى ما الذى حدث له حتى تغير ؟ ! . اختفى الان تماما . تنهدت . شردت عيناى الى البعيد . ” فعلا انت اصدق منى ….اننى اعيش فى وهم كبير اسمه الماضى . حسبت اننى اذ اعود . سأعود الى الصبا و الشباب ، و العجيبة يا اخى اننى اكابر ، و اعاند و اود ان اسير الى ( منية السباع ) …طيب و النتيجة . أنا احس الان بتعب شديد ، و نشر فى ساقى مع اننا

لم نسر – بالكاد – الا ثلاثة كيلو مترات ….يا خبر …انا كبرت بالفعل . تناسيت الزمن …فذكرنى الزمن الذى لا يرحم بالتعب لم اعد كما كنت ، و لم تعد الاشياء هى الاشياء كما تقول و هذا الصديق – كان هو افضل ، و اروع اصدقائى – كان مرحا ، و مخلصا و صادقا ….تغير هو الاخر ، و تزاحم الشيب فى راسه و انحنى ظهره ، و صار اشد عنادا و اهتياجا …. ظروف …ظروف يا اخى و ايام ….يا سلام على الدنيا …يا سلام

و عدت اشرد من جديد و نظراتى تنسكب فى خواء سئيم على العربات و الناس و باعة الفاكهة المتزاحمون على الرصيف و النادل العجوز ، و هو ينتقل بصينياته المستديرة ، الصغيرة عبر رواد المقهى الصغير كالالعبان …..ياه ….اين طفولتى و صباى بيتنا الكبير الذى بيع بعد موت ابى . المدرسة الثانوية التى هدمت و بنيت على ارضها مساكن شعبية . سفرى يوميا الى شبلنجة طيلة خمسة اعوام …اهذا معقول ؟ …لابد انها تزوجت الان و انجبت طبعا …لابد اتراها تعرفنى لو راتنى بعد كل هاته السنين . ايام القلق . اليأس من كل شىء . الملل من الحياة . افترقت و اياها لظروف اصعب منى و منها ….الصديق الوحيد الذى كان لا يفارقنى ، كان كتابا لى اقراه و قتما اشاء ….اتراها تذكرنى ؟ …ام ان الزمن اللعين انساها صورتى فيما انساها ….نصيحته لى بالزواج …..يتزوج قبلى

بعام . اتزوج انا بعده انجب خمسة اولاد ….لا ينجب هو الا ولدا وحيدا مريضا . فرقتنا الايام . اهجر المدينة الى مدينة بعيدة ، و الخطابات بيننا مستمرة مع انها شحيحة . اه ….لو رايتها فجأة امامى الان ….ترى ماذا كنت أفعل ؟ …كيف سأتصرف ؟ و ماذا لو كان معها زوجها ؟ و اعود بعد ان امرضنى الحنين فلا اجد شيئا يرحمنى ، و يعود بى الى ايامى الغابرات فى قلبى الان غصة ، و بكاء على شىء لا اعرفه . احسه و لا اراه …ضاع أنظر بعيداً تجاه السماء …هذا هو المساء قد اقبل ، و تغطى الشرق بوشاح العتمة . نسمة صيفية تهب على الطريق . تكنس الاوراق و القش تحت الرصيف استرحت الان قليلاً …فلاعد الى بيت أخى ….اه لو اراك مرة واحدة . مرة واحدة لاتحمل مرارة الحاضر ، و اتزود منه بزاد أعيش به فى الايام التالية . انهض . اين انت الان ؟ أتأوه . ركبتاى تؤلمانى . أمشى وحيداً . انحنى الى الكوبرى . اصوات اجهزة الراديو و الكاسيت تتعالى و تتشابك فى انزعاج مريع 

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات