قصة الموت و الميعاد

– 1 –

أمسكت بمعصمه لحظات….يا الهى ….لا فائدة …ثم تركت يده تسقط وحدها بجواره كما تشاء . تأملته برهة و هو يرقد رقدته الاخيرة فى هدوء مخيف أسمر نحيل قامته القصيرة تستلقى على المنضدة كعود قصب ملقى من غير اعتناء شفتاه الرقيقتان كشفتى فتاة ، تنفرجان قليلا ، كما لو كان يبتسم لشىء غامض لا يبين . رأسه المائلة الطويلة يعلوها جرح غائر مديد يتوسط الجبهة ، أشبه شىء بثعبان صغير راقد ، و الدم المتجلط يختلط بالتراب فى لون رمادى داكن و يرتفع مهيبـــــــــــــــــــــــا على جانبى الاخدود الرهيب كضفتين صغيرتين مرعبتين ” مات الشاب اذن ” فلا حول و لا قوة الا بالله ” و اسرعت ملهوفا الى الدكتــور ( ع ) ابلغه باكتشافى الحزين .

كان الدكتور ( ع) يجلس فى حجرته الفخمة و مرفقاه الضخمان يستندان على مكتبه الخشبى العتيق بينما حبست انامله اليسرى سيجارة راح دخانها يتصاعد حول وجهه الشحيم كساحر فى الاساطير

– و انا كرمتك جداً و الله يا حاج

طرقت سمعى كلماته أحسست فى التو بالامتهاض يسرى فى دمائى حدقت فى الرجل الذى يجلس معه ملياً رأيته طويلاً نحيلاً و جلبابه البلدى البنى الذى يرتديه ، يبدو واسعا على جسده كانه قد فصل على واحد غيره اما راسه الطويلة فقد تربعت فوقها طاقية صوفية تزحزحت قليلا عن جبهته العريضة فكشفت عن شعر اشهب قصير تلالا فوق راسه فى جلال رزين . كان وجهه الهضيم و ملامحه الحادة تنبىء عن رجل حازم جاد يجلس امام الطبيب حزرت فى نفسى انه والد الفتى القتيل فالتماثل بين وجهيهما و طولهما شديد و عجيب

زفر الرجل فى حرارة و قال فى صوت هادىء و قور :

– موافق سيادتك يا دكتور ….موافق….

ثم سكت قليلاً و قد غلبه التأثر و عاد يقول فى أسى :

– من أجله تهون ….

و لم يستكمل هز راسه فى حزن بالغ و كأن الكلمات ضاعت من فمه و ابتلع ريقه فى صعوبة بالغة كما لو كان يبلع معه شوكا سعلت فى تكلف :

– اذا سمحت يا دكتور …كلمة من فضلك …

قلت ذلك و انا لا ازال واقفا بالقرب من الباب قابضا على مقبضه النحاسى

اشار الدكتور نحوى بيده الممسكة بالسيجارة

– و هذا هو الاستاذ الذى عمل له صورة الاشعة على الجمجمة فأطمئن .

و نهض متثاقلا و اتجه نحوى فى خطوات وئيدة

– نعم يا محمد ( فيه ) حاجة

– الاشعة سليمة يا دكتور و النبى

و كان هو الرجل ابوه سالنى و هو يقف متلهفا من مقعده و نظرات عينيه تسكب علينا خوفا و ترقبا ..شعرت بالاحراج يملؤنى و يخنقنى

– اطمئن يا حاج لم تكشف الاشعة اى شىء ،الجمجمة سليمة و الحمد لله

كذبة بيضاء اطلقتها كحمامة سلام لترفرف على الرجل المسكين امنا و اطمئنانا الى حين

– عن اذنك ( خمسة ) يا حاج

و امسك الدكتور بذراعى و خرج بى الى حجرة الكشف و كفه الضخمة العريضة تشد الباب و تغلقه من ورائه

– خير يا محمد . عملت صورة الاشعة على الجمجمة

– لا

و هززت راسى نافيا و نظرت الى عينيه فى تحد

– لقد مات يا دكتور ( ع )

– مات …مستحيل…

ظلت عيناى تحدقان فيه بشماته و الغيظ و الاسى يملان صدرى أطرق برأسه هنيهة و امسك بذقنه و راح يحكها بابهامه و سبابته الغليظتين القى بسيجارته تحت حذائه و سحقها كان وجهه الملتمع و ذقنه العريضة و شفتاه الضخمتان تبدو كلها و كانها تفكر معه فى امر خطير

وضعت يدى فى جيبى قلت فى نفسى ” انه يفكر و يدبر ، يا ثعلب الطب ، يا وحشاً فى ثياب طبيب ارنى كيف تتخلص من ورطتك ” اخيرا اتانى صوته هادئا خفيضاً

– لى رجاء واحد يا محمد

– تفضل يا دكتور

– ابوه هو الذى يجلس فى الحجرة معى

– هذا واضح تماما

– نعم . و اعتقد انك لن تقول له الحقيقة

– لقد سمعتنى يا دكتور و انا اقول له ان صورة الاشعة سليمة

– متشكر جداً يا محمد ….أنا عارفك لبق و ذكى جداً فى مثل هذه الاشياء

صمت قليلا وضع كفه على كتفى – ابتسم .

– عارف ، لو انك اخبرته لصدمته صدمة الله وحده يعلم كيف سيستفيق منها

ابتسمت ساخراً يحسبنى اننى زرعت الاطمئنان فى قلب الرجل من اجله

– انت تفهمنى يا محمد

ثم فتح باب الحجرة فى هدوء و دخل على الرجل فى وثوق

– صورة الاشعة سليمة تماماً …ألف مبروك يا حاج أما العملية فستجرى له حالا فاطمئن و انسحبت اخرج فى صمت و خطواتى تحملنى – لست ادرى لماذا – الى حجرة الاشعة من جديد

كان الشاب ممددا فوق المضدة جثة صامتة متخشبة لا حول لها و لا قوة و جهاز الاشعة يطل عليه من فوق راسه المحموم و كانه يتعجب له من طول رقدته تحته

اشحت بوجهى عنه …” اه يا رب . ستظل رؤية الموت معنا شىء مخيف مهما تعودنا على رؤياه ” .

صك سمعى صوت الدكتور ( ع ) و هو يجلجل فى الصالة :

يا سلام حضر حجرة العمليات بسرعة

– 2 –

لو ان الفتى قتل فى طريقه لما عرف بوليس المركز قصة موته او قتله و لدفن كما تدفن كل الاموات ممن اماتهم الله بمشيئته …ثم الويل كل الويل لقاتله و كل رجل فى اسرته فأنه مقتول …مقتول لا محالة حتى و لو اختفى فى بروج مشيدة لكن الضربة الرهيبة لم تقتله سريعا…اتته كالصاعقة من خلفه فى المساء على الطريق الزراعى فسقط بعدها مغشيا عليه حتى اذا راه البعض منطرحا على ظهره فوق التراب كان يتنفس و يرد على سائليه ببطء شديد و راسه ترقد مائلة كصخرة ثقيلة على تربة الطريق بين دم متخثر معجون بالطين

حملته الاسعاف الى مستشفى المركز بالامس بعد اذان العشاء و حوله جمهرة كبيرة من ذويه و عارفيه و كانت وجوههم الصامتة تكبت غضبا عنيفا يكاد يفجر صدورهم بالغل و الحقد و كل شىء فيهم يتوعد فى صمت مهيب بثأر لهم هو ات عن قريب

سألوا عن طبيب المستشفى ( النوباتشى ) فأجابهم اسماعيل ( التمورجى ) و كان هو الذى قابل جمعهم الذى يغلى

– فى البيت

صرخ أحدهم فى وجهه :

– كيف يكون فى البيت و يترك المستشفى فى هذه الساعة ؟

رد اسماعيل ساخراً :

– حكمة ربنا …أسالوه هو و لا تسألونى

جمجم بعضهم بالفاظ تشتعل بالسباب طار وفد منهم الى الطبيب بأسرع ما تحملهم ارجلهم و كان الجرح الغائر فى جبهة الشاب قد انتقل الى راس كل منهم

قال لهم الدكتور ( ع ) حين قابلهم :

– لا يمكننى الخروج الان …الصباح رباح

تأثر واحد منهم قال بضراعة أشبه بالنحيب :

– أعمل معروف يا دكتور …الولد نزف دمه اعمل معروف الله يعمر بيتك

– لا استطيع قلت لكم

برز ابوه نحيلا …مضعوفاً …

– ابنى الوحيد يا دكتور …مستعد افديه بكل ما تريد

تحت ضغط الالحاح الشديد جاء استاجروا له عربة حملته الى المستشفى حملاً و كان الوقت قد اوغل بقاربه بعيدا فى بحر المساء الحزين نظر فى وجه الشاب هز راسه و قلب شفتيه و فى هدوء ابرد من ماء الثلج ، امر ( التمورجى ) باعطائه حقنة مخدرة حتى الصباح

– 3 –

دخلت حجرة مكتبى وقفت امام النافذة كانت الحقول تبدو خلف المستشفى باعواد قصبها النحيلة و كانها تستجمع نفسها لترحل فى جمع حاشد حتى الافق البعيد بينما سجى الصمت ثقيلا فى كل الانحاء مخدرا كل الاشياء و الشمس هناك فى مرقدها البعيد من السماء تنفث على الارض شواظا تتلظى بالجحيم

” اف لى . اعصابى تكاد تنفلت ..لماذا انا صامت ؟ جبان أنا ؟ نعم …حتى الكلمات التى هى اضعف الايمان لا استطيع النطق بها ” : هززت راسى الذى يكاد ينفجر يقولون عن حالتى وصمتى ( لقمة العيش ) خطوت بضع خطوات فى الحجرة لم اتحمل صبرا دخلت حجرة الاشعة ، فاذا بجثة الشاب قد حملت منذ دقائق …ابتسمت …رغما عنى ابتسمت لماذا ابتسمت ؟ لا ادرى ” مبروك و سلام ” هذان الشيطانان ذراعا الدكتور ( ع) الاخطبوطية تكفلتا بنقلها الى حجرة العمليات بالتروللى

– 4 –

خرج الدكتور ( ع ) بعد نصف ساعة من غرفة العمليات خرج بمعطفه الابيض و من خلفه الشريران ( مبروك و سلام ) تماماً كما حزرت فى نفسى منذ دقائق هرع الى الدكتور جمع من الرجال ذوى الجلاليب البلدية يتحلقون حوله سبقهم فى الحديث و ابتسم :

– الحمد لله …الف مبروك …العملية نجحت مئة فى المئة

– الحمد لله البركة فى ( ايدك ) يا دكتور

قالتها القلوب قبل الشفاه و هى تزفر زفرة الارتياح و السعادة مسح الدكتور على وجهه بالمنديل

– كله بامر الله . العبد لا يشفى …الله هو الشافى

تمتمت الشفاه المتوترة :

– و نعم بالله

حينئذ جلجل فى الردهة صوت عجلات التروللى يدفعه امامهما ” مبروك و سلام ”

جرى البعض نحو التروللى هتف الدكتور ( ع ) بصوت صارخ مبحوح :

– لا …لا من فضلكم حالته لا تسمح بان يقترب منه اى واحد . دعوه الان يستريح حتى يفيق من البنج تماما

– و لكن يا دكتور…

– و لا لكن …و لا حاجة …الساعة الخامسة ممكن تطمئنوا عليه ارجوكم دعوه الان

انفض الجمع المسكين من حوله و قد عشش على ملامحهم طائر الاقناع الجميل

– الحمد لله

و جلس منهم من جلس و كانهم يستريحون بعد عناء طويل

– الف مبروك يا حاج ..الف مبروك…

و تكاثر الجمع حول الرجل الاسمر ( ابوه ) يشدون على يديه و يتمسحون به و يقبلونه فى وجنتيه و الرجل الطيب يبتسم و افراح الدنيا كلها تتراقص بين شفتيه .. و دموع الحمد تخضل عينيه

– 5 –

– اسمع يا محمد

و التفت الى مصدر الصوت الذى باغتنى من خلفى فاذا …

– تعال معى اذا سمحت

و دخل بى حجرته و هو يتقدمنى بخطوات مهرولة ثقيلة

– اقفل الباب

اغلقت الباب فى تكاسل فلنسمع و لنرى التدبير الاخر لقد بانت الان اصول اللعبة

– اجلس

– لا شكرا

– اجلس يا استاذ محمد اجلس

و تبسم لى ابتسامة ثعلبية :

– تفضل سيجارة

– شكراً يا دكتور …ألف شكر

– امسك السيجارة عليك عفريت اسمه شكراً

تناولت السيجارة

– الحمد لله

و انحط كالبرميل جالسا على كرسيه حدقت فى عينيه سعل فى تكلف

– غمة و انزاحت يا ستار

و دس يده فى جيبه متنهدا متأففاً

– تعرف يا استاذ محمد انك انقذت الموقف انقاذا لا مثيل له و لا يسعنى – و الله – الا ان اهنئك عليه

لم اتكلم …ظللت فى منزل الصمت متحصنا خلف جدرانه

– يا سلام يا محمد يا سلام …انت رجل ذكى جدا…اتفضل

– ماذا يا دكتور ؟

– عشرة جنيهات

– حد الله يا دكتور .. حد الله

نهض واقفا ” امسك بكتفى ”

– انت احسن منى مثلاً …خذها خذها و لا تكن عبيطا

– ربنا سترها يا دكتور بالحلال ….الحمد لله

و قبلت يدى ظهراً لبطن

– يا محمد يا حبيبى لا تكن حنبليا هكذا

و امسك بيمناى فى قوة لكنى خلصتها منه بشدة و تراجعت عنه خطوتين :

– مستحيل

– مستحيل !

و ارتسمت على محياه خيبة امل غير متوقعة لكنه تماسك و امسك بكتفى

– انت يا محمد شاب . و محتاج الى تكوين نفسك

– اكون نفسى بالشرف يا دكتور

– تقصد يعنى اننى غير شريف

و تعقدت اساريره و ساد بيننا صمت واجم كان قلبى يتخبط بين اضلاعى ملتاثا و صوت مخبول يهيب بى ان اصرخ من اعماقى لاكشف الحقيقة …كل الحقيقة باعلى صوتى

– انا اتكلم عن نفسى يا دكتور

– انزل يده واجهنى بظهره العريض يكتم غيظه المتأجج نحوى جاءنى صوته مع ذلك هادئا بعد قليل يا لك من بطل يا دكتور تسيطر على نفسى فى كل المواقف …” برافو”

– محمد …هذا العناد لا يفيد …لا ترفض رزقا ساقه الله اليك

لم اتمالك نفسى ضحكت الغيظ اضحكنى شر البلية ما يضحك

تسميه رزقا …واعجبا …!!

و هززت راسى هازئا

– لا تحاول معى يا دكتور …ارجوك

استدار نحوى انفكت اساريره و ابتسامة واسعة جدا تلتصق بشفتيه

– طيب يا محمد …اذا كنت ترغب فى ذلك فانا احترم رغبتك …و لكن .. و اقترب منى اكثر

– لى رجاء واحد و انا أعتمد على الله ثم عليك …الا تذكر شيئا مما رأيت أو عرفت …انت عارف طبعا كلام الناس …انك اذا فعلت فسوف تجاملنى بعمل لن انساه لك طول الحياة

– اطمئن يا سعادة البيه اطمئن و لكن هناك سؤال واحد ارجو الا تبخل باجابته على ماذا سيفعل ابوه حين يكتشف الحقيقة ؟

– لن يفعل شيئا صدقنى سوف يدخل الحجرة فى الساعة الخامسة فيرى الجرح قد خيط و هكذا يكتشف الحقيقة بنفسه صحيح انها حقيقة مرة و مؤلمة و لكن هل هناك احد يمنع الموت ؟

ثم ابتسم و اشعل سيجارته التى تناولها من على مكتبه

– فالموت على رقاب العباد….و كل شىء الى ميعاد.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات