قصة المال و الرجل(2)
– اعطها لصاحبها – اعمل معروف – و لا تكثر من التفكير …ربنا قادر يعطينا من حيث لا نعلم و لا ندرى
و اغلقت خلفها الباب . تركته وحده دون ان تسمع كلمته الاخيرة . هز راسه اسفا . امسك بالمبلغ مع البطاقة ووضعهما فى الحافظة . اتجه الى السروال المعلق على المشجب
– لا حول و لا قوة الا بالله ….اللهم اهدنا سواء السبيل يا رب
-3-
انهى صلاة العصر ، بسجدتى السهو . ادرك انه صلى بقلب مشغول و فكر مبعثر
جلس على المصلى شاردا ، مهموما . اسند ظهره الى الحائط . كان يحس بطحن صاخب فى اعماقه ، تردد دويه فى راسه كضربات المطارق
لوى شفتيه متالما ….امعقول هذا ؟! …انها و الله حرب حقيقية ، و الصراع فيها قاس ، و مفزع ، و مرير …هل يضحك الشيطان على يا رب ، و انا الانسان طاهر اليد
جلس القرفصاء . مسح على انفه بعصبية
– طيب …اذا انا سلمت المبلغ الى صاحبه ، فان الفرصة التى حانت لك يا ولد ، ستضيع عليك الى الابد ….صحيح ساكون انسانا فاضلا ،
و الرزق الحلال كما تعرف مهما ضؤل فان الله يباركه ….و يمنيه …يا رب اعنى
و مد رجليه بطولهما على سجادة الصلاة . كان الاولاد يمرحون من حوله و يتصارخون
تابعتهم عيناه القلقتان بنظرات خاوية ، لم يصرخ فيهم يامرهم بالسكوت . كان يحس – واعجبا !! – فى صخبهم المريع راحة لاعصابه المستوفزة ….انه صخب – مع ذلك – لذيذ اجمل ما فيه الان انه لا يجعله مع نفسه وحيدا
– و لكن لو فرض مثلا ، و كان المبلغ لك ….لاستطعت ان تتحرك فى الحياة حركة اوسع يعنى المهم تعيش ….فاهم تعيش يعنى ( ايه ) ؟
و اشعل سيجارة ، نفث دخانها بعيدا عن فمه
– اه لو لم تكن البطاقة موجودة …..يا سلام …. كان صاحبها اللعين يصر فى صمت عنيد على ان يدفعنى الى تعب ملعون مثله . يا رب اعنى ….انا غلبان ، و تعبان ، و لا ينقصنى ابدا تعب جديد
اشاح بيده . تمتم بصوت سمعته اذناه :
– يا شيخ بلا وجع قلب . اسمع اعطها لصاحبها احسن و ما يحدث يحدث يعنى يا سيدى كنت قبل هذا تعيش شحاذا قم يا عم ، و سلمها لصاحبها ….ربنا يرزقك بالحلال ….فمن كان رزقه على الله فلا يحزن
و نهض متعبا ….لكنه مع ذلك احس فى اعماقه ، ببرد الراحة تهب عليه كنسمة رقيقة فى قيظ مستعر . طوى سجادة الصلاة فى تان و شرود ….القاها فى ركن من الصالة كيفما اتفق خطى الى غرفته و هو يزفر . تمنى من اعماق صادقة لو لم يكن هو الذى عثر عليها . ارتدى ملابسه بفكر يحترق لاحظته زوجته
اقتربت منه
– اين انت ذاهب ؟
– ساقابل صاحب الحافظة ، و اسلمها له
و انتظر قليلا ، و ابتلع ريقه
– ام ان لك رايا اخر ؟
ابتسمت – هزت راسها :
– لا …..هذا هو رايى ايضا
– طيب على بركة الله ، ساذهب و اسلمها له .
لكنها تلكات حواليه مفكرة . شغلت نفسها باشياء لا معنى لها . ساوت الملاءة . و عدلت من وضع الوسائد . جلست على حافة السرير . قالت له و هى تحاوره :
– يا ترى هل سيعطيك الحلاوة التى قلت عنها
اشاح بيده يائسا
– و الله يا ست انا لا اريد حلاوة و لا مرارة …..صدقينى
نهضت . ابتعدت عنه قليلا ، اولته ظهرها . تشاغلت عنه بتسوية الفراش من جديد
احس ان عدوى القلق تنتابها هى الاخرى
– انت تقول ان احدا لم يرك حين وجدتها
ثم صمتت قليلا ، و التفتت اليه بوجهها ، كانما تفرغ معاناتها كلها بين يديه
– طيب ….انا يعنى ….قلت فى نفسى . يعنى لا داعى لان تسلمها له ….انت عارف حالنا تعبان ، و المعيشة ….يعنى ….انت عارف طبعا
ابتسم . لانت كلماته . فاض على وجهه حزن كئيب :
– اسمعى …انا فكرت اكثر منك فى هذا الموضوع و لكن ضميرى – منه لله – لم يسمح لى …المهم انا وصلت فى النهاية الى ان اسلمها له حتى استريح
ثم فى نبرات مستسلمة تماما
– و انت طبعا عارفة ان القرش الحلال افضل الف مرة من القرش الحرام
زفزت بصوت مسموع . عادت الى السرير . جلست عليه متعبة
– على رايك . ربنا كبير ، و قادر ، و يرزقنا بالحلال …الحمد لله …مستورة . و حلوة …و ان زادت عن ( كده ) تمسخ
و قبلت يدها ظهرا لبطن
– 4 –
وقف امام الحانوت ، بعد ان كلت قدماه ، و تعب لسانه من السؤال عن الشارع . اخيرا يا رب وصلنا . حدق فى اللافتة المعلقة فوق الحانوت . قرا اسم صاحبه ثلاث مرات ، ليتاكد باليقين ان اسمه المكتوب على اللافتة ، هو نفس الاسم المكتوب فى البطاقة . تامل داخل الحانوت . كان ثمة انابيب ، و احواض كثيرة ذات الوان ،
و احجام مختلفة تملا جوانبه الضيقة . كان الحانوت شاغرا الا من صبى صغير يرتدى قميصا بنيا ، و سروالا واسعا ، متسخا ، يجلس فى الشارع ، و يستند بظهره النحيل الى باب المحل . لمح رجلا بجلباب بلدى يدخل من المقهى الذى يقع عن يمين الحانوت . وقف الصبى له فجاة . تنحى عن طريقه قليلا . امعن فيه النظر . يا رب . نفس الوجه المطهم الحليق ، و الطاقية فوق راسه . احس فجاة بخوف يعتريه ، و يرعش منه الاعماق كارتعاشات الحمى .
– يا للمصيبة ….ماذا حدث لى ؟ لماذا انا خائف بهذا الشكل المريع ؟!!
و صكت مسامعه شتائم عنيفة ، كان الرجل يوجهها للصبى ثم راى كفه الضخمة ، و هى تهوى كما المطرقة على وجنة الصغير . نظر حواليه محاذرا ، و اختراق الشارع بساقين مهزوزتين
وقف امام الحانوت لحظات خالها دهرا . مسح صاحبه بنظرات سريعة وجلى ، و كانه يحتسيه مرة واحدة منظرا مرهوبا لا ينسى . عاود السير على افريز الطريق ، عائدا كما بدا ، و قلبه يخفق بين اضلاعه ملتاثا . مد يده الى جيبه و امسك بالحافظة ، كما لو كان يخشى ان تقع عليها عينا صاحبها الفظيع
– يا خبر …..ما هذا الذى حدث ؟! ….انا ….انا خائف بالفعل ، لقد نظر الى الرجل نظرة عميقة ارعبتنى ….هل تراه عرفنى ؟ …يا خبر اسود ، و مهبب …لو كان يعرفنى .
– استحالت خطواته هرولة . نظر خلفه مبتعدا ….الحمد لله على كل حال ….يا سلام ….
اه لو عرف اننى انا الذى معى حافظته ….انحنى الى شارع جانبى . التفت خلفه مرة اخرى استانف خطواته بهدوء اكثر
– منك لله يا زوجتى العزيزة …انت السبب …اخرتها اصبح لص يا اولاد
امعقول هذا ؟!! . انا الرجل الذى عشت طول عمرى شريف و لا اعرف غير اللقمة الحلال ….اسرق
كان يجمجم لنفسه مؤنبا ، بيد ان اعماقه كانت مع ذلك مطمئنة ، و احساس بالنشوة يتراقص مخمورا فى قلبه تعجب من نفسه . ان ضميره لم يشتغل ابدا فى راسه كما كان يتوقع . كان يظن و هو فى البيت انه اذا فعلها ستمرض نفسه دوما و تتعذب عذاب السعير….
– يا رب . انا اعتذر اليك . اخطات . انا اعترف فارحمنى ، فانت عالم بالحال ، و غنى عن السؤال . يا رب …انا اعرف ان صاحب المال اولى به منى ….يكفى انه صاحبه . لكن يا رب انت تعلم انى فقير ، و محتاج ، و لولا رحمتك على لكنت حقا من الهالكين
كان الشارع مزدحما جدا بالعربات و الناس ….سار ساعة حتى كلت قدماه ….
احس برغبة لا تقاوم فى الجلوس . تخير كرسيا فى زاوية من مقهى شبه خاوية ، سقط عليه متهالكا . وضع مرفقيه على المنضدة الرخامية . تمتم مفكرا
صحيح كان على ان اسلمه المبلغ ، و لكن يا اخى – علم الله – لا اعرف كيف كرهت الرجل ، ربما كرهته لقسوته ، و هو يصفع الولد . ربما كرهته لمنظره الذى لم ارتح اليه . انا لا اعرف بالضبط …المهم يا عم نفذنا بجلدنا …يا اخى ماذا افعل ؟!
طيب . اسمع . اسمع . هو يستطيع بخبطة واحدة ان يكسب الالاف ….اما انا ….
انا الذى لا حول و لا قوة ، فكيف اصل بربك الى مبلغ مثل هذا ، و انت سيد العارفين ، و عارف البئر و غطاه لا ورث و لا تجارة يا حسرة . يا اخى – اعمل معروف ….
نفسى اعيش ….هل اموت يعنى ؟ من يرضى بذلك ؟….مرة واحدة يا اخى نخطىء من نفسنا . كفاية فضيلة . شبعنا يا اخى فضيلة . ربنا كريم و عنده العفو
– طيب – استحلفك بالله – ماذا تفعل لو كنت فى مكانى و فى مثل ظروفى ؟
يا رجل – صلى على النبى – طيب و الله العظيم لكنت شربتهم ، و بلعتهم . يا رجل ( حد ماشى ) على الدين . اسمع ، بلا فلسفة على الفاضى . اخذناهم ، و انتهى الامر ، و ربنا غافر الذنب ، قابل التوب ….زوجتى ؟ . تقول : زوجتك ….
و النبى ستفرح . انا عارفها …دعك من كلامها الفاضى . يا عم – اسكت ….و الله لو كان مال النبى لاكلته . تسالنى عنها . صلى على النبى . صلى . يا سلام . الحمد لله احمدك يا رب ، و اشكرك على نعمتك …فعلا يا اخى …..ربنا يرزق من حيث لا نعلم ، و لا ندرى . يا سلام ….يا سلام يا اولاد.
Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء
تعليقات