قصة ذبح الدجاج(2)
– يا سلام على الهيام ….يا سلام
و قلبت الصورة على وجهها فظهر فى التو قلب كبير كتب فوق قمته ( معا الى الابد ) كان القلب مرسوما بعناية و فى دخيلته رسم ايضا قلبان صغيران قد وشيت حوافيهما بالاحمر …. كتب على احدهما ( احسان ) و على الاخر ( محمود ) و عرفت خط اختها فى كلمة محمود ، و خط حبيبها فى ( احسان ) لقد تبادلا كتابة اسميهما معا فيالهما من عاشقين و ابتسمت من اعماقها و قالت فى سخرية :
– معا الى الابد …..لا ايها المدنفان بحبهما لن تكونا معا الى الابد . وضحكت .
– لا …يا ابا حنفى ….ابحث لك عن عروس اخرى تكون معك الى الابد….
و امسكت بالكتب ، و رفعتها قليلا و اعادتها الى مكانها تحت اخر الكتب كما كانت ….بحيث ظهر طرف منها لا باس به يدل عليها و يظهرها بوضوح و دقت على المكتب براحة يمناها و قالت فى انتشاء :
– عاشت المساواة بعد اليوم
*3 *
وكرت الى المطبخ عائدة ، و قلبها يخفق بين جوانحها جذلانا ، و لكنها أحست فجاة فى دخيلتها انها فعلت شيئا ادا و انها اجرمت فى حق اختها فتعالت دقات قلبها مسرعة و قد اجتاحها خوف لم تدر مأتاه ، و جمدت فى رأسها الافكار فلم تتبين من فرط عصبيتها الطارئة أخيراً فعلت أم شراً ، بل ظل ذهنها مشغولا فى اللحظة الحاضرة بما فعلته ، و اثاره التى ستحدث فى الساعات القليلة القادمة .
كان الموقد ما زال مشتعلا ، و صوته الرتيب يفيض فى اعماقها خدرا لطيفا ، بيد ان الخوف – مع ذلك – عصف بسكينتها – فنهضت واقفة ، و سارت فى الصالة الى غير ما هدف و قد وقر فى عقلها ان تخفى الصورة فى مكان أمين حتى تسكت تلك الريح العاصفة من الالم التى عصفت بأمنها و ارعشت اعماقها ، و اهتز قلبها هائجا …. لقد وقعت الواقعة و قضى الامر …و لا فائدة ، و رأت اباها بعينيها الزائغتين يجلس على المكتب ، و لم تلحظ عيناها – بعد ذلك – اذا كانت يمناه تكتب ، او تمسك بالصورة ، و ارتدت الى المطبخ بجزع هائل ، و جلست بتراخ ويداها ترتعشان جميعا ، و صارت تحملق فى الزيت الساخن . و قطع البطاطس البيضاء التى تهبط فى أتونه و يفرقع منها الزيت ، و كادت تحرق اصابعها أكثر من مرة ….فهتفت من أعماقها متألمة :
– آه يا رب ….لماذا فعلت ما فعلت ؟
و طفقت تدعو ربها الا ينكشف أمرها ، و صارت تعد الكلمات فى نفسها لتقابل بها اختها بعد ذلك ، و اخذ خيالها المحموم بالفزع يتخيل مجىء أختها و ما سوف يحدث لها و هى من تعرف اباها عند الغضب
– اجل انا اعرفه فهو رجل عنيد ، عصبى المزاج ، لا يمكن التفاهم معه ابدا و اذا اصر على شىء فهو يصر عليه بعناد و اصرار ، اغلب الظن انه سيقسم الا تذهب ابدا الى المدرسة و ربما زوجها لاول قادم حتى و لو لم يكن ندا لها …هذا اذا لم يحدث بالطبع شىء اخر
و احست بالرهبة تسرى و تلدغها فى كيانها كالكهرباء و لم تدر ماذا تفعل بل كل ما هنالك انها راحت تدعو الله من كل اعماقها الا يعرف ابوها ، انها كانت تتستر على اختها ، و ترشدها بنصائح الحب و ارشاداته
اما ( احسان ) فكانت تخشى امرها تماما وودت من صميمها لو مرت الحوادث هادئة دون ان تعلم شيئا عما فعلته و قالت فى دخيلتها مخادعة :
– طبعا لابد لابى ان يعرف ، فهو وحده الذى يستطيع شفاءها من حبها المريض اما انا فقد نصحتها فى اول الامر و لكنها لم ترعو ، و من يدرى ربما يتطور الامر فتخرج من تجربتها محطمة شر تحطيم ، و هى شقيقتى على كل حال ، و امرها يهمنى كأخت كبيرة لها ، و بذلك أكون مسئولة عما حدث لها …ألست الطرف الثالث فى حكايتها ؟
و صمتت برهة لكنها أحست مع ذلك ، انها لم تخمد صوت الشك فى قلبها تماما
– كان واجبى ان أخبر أبى أو أمى ….و لكن ليست هذه هى الطريقة الصحيحة كما اعتقد ، لقد أخبرت ابى بطريقة غير مباشرة ….و هذا عين الحكمة كما ارى . و ابتسمت ….فتحت فمها ثم اغلقته ، و كأنها تبتسم حقاً ، و عاودتها الرعشة من جديد فنهضت متثاقلة و الخوف يثقل ركبتيها جميعاً ….و بخطوات متلصصة خرجت ، و بحذر شديد نظرت ….فرأت اباها ما زال منحنيا بمرفقيه على المكتب ….فجرت الى مكانها مسرعة خشية ان يراها و قلبها يخفق بين اضلعها خفق طائر ذبيح راحت تسلى نفسها من جديد بالنظر الى الزيت الذى يغلى ، و قطع البطاطس و هى تتلون و تحترق فى اتونه و يبدو ان النظر الى هذه الاشياء جميعا قد ابعدها عن التركيز فى افكارها و لكنها لم تلبث الا قليلا ، حتى نهضت مرة اخرى ، و بخطوات نعمها الخوف و الترقب بصرت بحجرتها من الصالة فلم تر اباها …كان المقعد شاغرا من ابيها ، فشملها فزع مفاجىء و اسرعت تجلس على المقعد من جديد و قد احست كأن اغماء سيشملها فى التو ، فخفضت من صوت الموقد حتى تهدىء من اعصابها الثائرة و عندما امتدت يمناها ، و اطفأته بعد قليل ، رأت نفسها تسبح فى ضياع عميق ، ماذا عليها ان تفعل بعد ذلك ؟ ….ووقفت برهة تغسل يديها ، و تفكر و لم يسعفها التفكير السديد ، فتشجعت و تماسكت قليلا و خطت الى الصالة و دخلت غرفتها و نظرت بقلب واجف الى موضع الصورة فلم ترها ايضا ، و فتشت بين الكتب ، و تحتها بيدين عصبيتين ، مرتعشتين فلم تجدها ايضا فاتجهت الى النافذة و اطلت منها ، و بأعصاب مرتخية واجفة ، هتفت من اعماقها :
– يا رب …اجعل هذه الليلة تمر بخير و سلام ….يا رب
و اغرورقت عيناها بدموع الخوف ، ثم انتابها رعب مفاجىء ، فماذا لو دخل عليها ابوها يستنفر امر الصورة و عندئذ راحت تدير فى راسها حوارا ، خياليا بينها و بين ابيها و اخذت تترقب دخوله بين لحظة و اخرى و بدأت تحادث نفسها :
– لو كان يريد استفسارا ، لنادى على و انا فى المطبخ و لكن …..و لم تدر كيف تفكر
– ربما يدفعها لامى لتتأمل صورة ابنتها …..
وودت لو ترى أباها فى هذه اللحظة ، حتى تهدأ اعصابها فأرهفت اذنيها ناحية الباب ، تتصنت فلم تسمع شيئا فتشجعت قليلا و أطلت برأسها فى حذر حاذر فلم تر شيئا ايضا فتشجعت اكثر ووقفت فى الصالة ، فلمحت اباها يجلس فى الشرفة ساهما كعادته حين يهمه التفكير فى شىء ما ، بينما جلست امها على الاريكة ترفو شيئا فى يدها ، و اطمأنت قليلا ، و تراجعت ، ودخلت غرفتها هادئة الاعصاب ، تبتسم لنفسها :
– يا خبر لماذا انا خائفة ، و هل هى صورتى حتى تتحطم اعصابى على هذا النحو و هل انا التى أحببت ؟
و تماسكت أكثر و قالت تحادث نفسها :
– لو فرض مثلا ، و جاءنى ابى و سألنى لقلت اننى لا ادرى عن الموضوع شيئاً و لانتهى الامر
و مرت الدقائق عليها ثقيلة كما الصخور ، بطيئة كالدهور و تاقت نفسها الى الهروب : بالنوم او بالخروج و من ثم استلقت على سريرها و راحت تنظر السقف فى شرود هائم ، و لكنها مع ذلك أحست بأنياب السأم من جديد تقضم روحها فنهضت متثاقلة و راحت تعيد تنظيم بعض الاشياء فى غرفتها ، بيد انها لم تلق فى ذلك ايضا عزاء ، لاعصابها المشدودة فأخذت تتسلى بالنظر الى الشارع المزدحم ، و اخذت تنظر الى كل شىء فيه بعينين زائغتين لا تبصران شيئا ابدا و طالت وقفتها دقائق كثيرة و هى مستندة بمرفقيها على قاعدة النافذة . نظرت الى السماء . فرأت العتمة تنزلق واهنة ، صامتة على افق الشرق القريب ، و تبتلع كالمجهول بعض المدينة البعيدة ….هزت راسها لقد حل المساء و اوشكت ” احسان ان تعود ” ….و نفخت فى ضيق و اعتمدت راسها بكفها محزونة
كان ضجيج العربات ، و صوت مذياع المقهى التى تقع امامهم مباشرة يملأ الجو بضوضاء سخيفة …لم ترنح له نفسها كثيرا ….و تبعثرت الاحداث فى راسها ، فراحت تفكر فى اشياء كثيرة فى وقت واحد ، حتى تنبهت على صوت جرس الباب الذى تتابعت زناته فى جلجلة مثيرة فأجفلت و قالت فى نفسها ( انها هى ) …ثم جرت الى الباب تفتحه هاتفة :
– طيب ….طيب
*4*
و فتحت الباب ، فاندفعت اليها احسان فى فرح غامر ظاهر و الابتسامة السعيدة ، تستقر على شفتيها فى سرور طاغ ، و مدت راحتيها فى سعادة تربت وجنتى اختها فى رقة حبيبة بينما وقفت هذه ساكنة ، شاردة تعالج على فيها ابتسامة شاحبة ، محزونة لم تلحظها احسان بين مرحها الهائل و عتمة الماء و برز ابوها فى غرفته و كأن الارض انشقت عنه فجأة و نادى بصوته الجهورى الاجش
– احسان …..تعالى هنا
– حاضر يا بابا
و مدت يسراها فى مداعبة مرحة ، وقرصتها فى ردفها و انفلتت برشاقة تسرع نحو ابيها الذى وقف فى غرفته متحفزا ، و ارتبكت فوزية فى هلع خائف كنبت تتلاعب به الرياح ، و اسرعت تدخل المطبخ دون ما هدف واضح فى ذهنها، بينما ظلت خطوات اختها المنتظمة الرشيقة تتابع فى اذنيها عبر الصالة حتى تلاشت تماما …و حدثت نفسها متنهدة :
– آه …لقد انفجرت القنبلة …النجدة يا رب ….النجدة ….
و سمعت اباها يقول لها فى نبرات تتفجر بالوعيد :
– اقفلى باب الشرفة
و سمعت فى نفس الوقت صرير باب الغرفة يغلق فى عصبية شديدة فأدركت فى التو ان اباها يحوطها بأبواب مغلقة حتى تنال جزاءها العادل . فخرجت الى الصالة متلصصة فرأت غرفة أبيها قد اغلقت فعلا كما حذرت فى نفسها ، و سمعت ….فتمتمت فى هدوء ساخر و البسمة السعيدة ترف على شفتيها
– تلقى الجزاء يا ست احسان …..و اذا اردت الحب ، فلتحبى بإذن الاسرة
و استوقفتها كلمات مرعدة من ابيها :
– يا مجرمة …يا قذرة ….
و سمعت بعد ذلك صوت أمها الجازع الهالع :
– لماذا فعلت ذلك يا بنتى ؟
ثم تعالت صيحات ابيها بكلمات سريعة غضبى ، لحقتها فى التو ، اصوات استغاثة صارخة ، و انين و نشيج حزين ، ثم سمعت كوبا يتحطم بقوة ، و فتح الباب فجأة فى ثورة هائلة أشبه شىء بالانفجار فتوارت فوزية خلف غرفتها و تعالت الضجة اكثر مما سمعت و جرت احسان فى الصالة مهوشة الشعر ، تبحث بعينيها عن ملجأ يحميها أو شىء تختبى فيه ، و دموعها تتساقط بغزارة فى نشيج عنيف و رداؤها الازرق الجميل قد قد من دبر ، فبان قميصها النايلون الابيض و أظهر ساقيها الرقيقتين ، و لحقها أبوها و عندئذ أمسكها يشدها من شعرها ، فأختل فى التو توازنها ، و انطرحت على وجهها بقوة جسدها فأنبثق الدم غزيرا من أنفها ، فغطى فمها و ذقنها و سال على نحرها خيوطا سائلة متتابعة فبلل قميصها ، و رداءها بينما كانت يداها تضربان فى الهواء كالغريق بين الامواج ….و تصرخ فى بكاء مكلوم :
– سامحنى يا بابا ….انا اسفة و النبى ….( أبوس رجليك ) يا بابا ….عمرى ( ما انا ) خارجة مرة ثانية …..انا غلطانة ….غلطانة و النبى ….اتركنى فى ( عرضك ) يا بابا ….
كان المنظر مثيرا ، و حزينا ، بينما ظل ابوها يشد شعرها و يلطم رأسها بجمع يده و يركل ظهرها ، و ساقيها ركلات مجنونة على حين وقفت امها فى ذعر هالع ، تدق على صدرها فى جزع حزين ، و دموعها تنهمر من عينيها و لا تستطيع حراكا خوفا من بطش زوجها و عصبيته ….و كانت فوزية تقف فى مدخل غرفتها و لا تتكلم و تشاهد المعركة دون حراك
صرخ الرجل فى غيظ متأجج و قد نال منه الجهد تماماً ، فحرر قبضته من شعرها بعد ما تعلقت فى يده خصلة كبيرة من شعرها الجميل كان قد انتزعها من رأسها :
– على الطلاق بالثلاثة من بيتى ….عمرك ( ما أنت ) داخلة المدرسة و لا اى مدرسة بعد اليوم ….الاعدادية حصلت عليها ….عظيم كل ( الحلل ) فى المطبخ تنادى عليك بالغسيل ….
ثم دهمه سعال مفاجىء ، فراح يسعل بشدة
– الله ينكد عليك ، و يلعنك فى كل كتاب يا مجرمة
و قاطعه السعال من جديد ، حتى اذا خفت حدته ، قال مهددا :
– المريلة ساقطعها ، و الكتب كذلك ….و كل ما يخصك للمدرسة ….و لا مدرسة بعد اليوم انت فاهمة يا فاجرة
– ثم اندفع كما الثور الهائج الى غرفتها ، فتنحت له فوزية عن طريقه ، و خرج بعد دقائق يحمل حقيبتها ، و كراساتها ، و كل كتبها التى كانت على المكتب و مريلتها ايضا ، و راح يعمل فيها التمزيق و التقطيع امام بصرهم جميعاً ، و كأنه غول خرافى قد مسه الجنون ، بينما كانت احسان ترنو اليه فى خوف ، و غضب و قد انكمشت على نفسها ، و دموعها تهطل من عينيها بغزارة .
*5*
و كانت ليلة رهيبة ، لم تشهدها عيناها قط ….كانت فيها الدموع و الاحزان و الغضب و اليأس و الكراهية ، أصدقاء ليلتها التعيسة ، و عندما جمعهما المساء الحزين ، سألت اختها بين دموعها :
– من دله على مكان الصورة يا فوزية ؟
– أنت يا احسان
– انا ….مستحيل !!
قالتها فى ذلة و استغراب :
– نعم ….هل كنت تعتقدين ان صورة خطرة مثل هذه مكانها الصحيح تحت الكتب و الكراسات ….دون ان تأخذى حذرك لاى موقف تتعرضين له
– لقد كنت اريها لك يا فوزية
Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء
تعليقات