غِذاءُ الفِكْرِ

إذا كانَ الطَّعامُ غذاءً للجسَدِ، كي ينموَ ويَحيَا ويَقْوى على الحياةِ؛ فإنَّ الثَّقافةَ غذاءٌ ملكيٌّ للفِكرِ؛ كي ينهضَ من ظلامِ الوجودِ إلى فجرِ الحرَّيّةِ والانعتاقِ والسَّعادةِ والارتقاءِ إلى الإنسانيَّةِ النَّبيلةِ في أسْمَى معانِيْها.

في هذهِ المقالةِ أقِفُ قليلاً عندَ أقوالِ المفكِّرينَ والأدباءِ وغيرِهم؛ كي أستنضِحَ آراءَهم، وأستجْليَ مذاهبَهم ورؤاهُم في الثَّقافةِ والعِلمِ والعقلِ والفكرِ، محلِّلاً ومعلِّقاً وناقِدَاً.

وإنِّي لَسَاعٍ جاهِداً إلى إبرازِ الدَّورِ الحضاريِّ الّذي تُحقِّقُه الأممُ حينَما تهتمُّ بغذاءِ الرُّوح والفِكرِ اهتِمامَها بغذاءِ أحشائِها وأبدانِها!

لكلِّ غذاءٍ لذَّةٌ ومُتعةٌ وسعادةٌ.. فإذا كانتْ لذَّةُ الأبدانِ في أحشائِها بامتزاجِ صُنوفِ الطَّعامِ والشَّرابِ، فإنَّ لذَّةَ العقلِ ومُتعتَه في امتزاجِ شتَّى ألوانِ الثَّقافةِ والمعرفةِ والعلومِ فيهِ.. فالغذاءُ البدنيُّ هو الإكسيرُ الضَّروريُّ للحياةِ، لكنَّه قد يتحوَّلُ من ضرورةٍ إلى هدفٍ بعينِه، وإذ ذاكَ يصيرُ الآدميُّ وحشاً سابِغاً، همُّهُ الأوَّلُ والأخيرُ إشباعُ غريزتِه ونهَمِه.. وحينَذاكَ يَطَّردُ الجسدُ ضَخَامةً بتضخُّمِ الأحشَاءِ، فتنقلِبُ اللَّذَّةُ وباءً يَعصِفُ بلذائذِ البَدنِ قاطِبةً، في اليقظةِ وفي الرُّقادِ، في الحَركاتِ وفي السُّكناتِ، وتَغْدو المعِدةُ بيتاً للأدواءِ دونَما مُراعاةٍ للحكمةِ القائِلةِ: “المعِدةُ بيتُ الدَّاءِ والحِميةُ رأسُ الدَّواء” ، وساعتَئذٍ أَقِمْ على سَعادتِهِ مأتمَاً وعوِيلاً..

أمّا غذاءُ العقلِ، وأنعِمْ بهِ من غذاءٍ، فإنَّه كلَّما زادَ اشتدَّت الحاجةُ إليهِ، وكلَّما تَغلْغلَ في تلابيبِ الفِكرِ، تَحوَّل من شُعورٍ بالَّلذَّةِ إلى خمرةٍ تَثْملُ منها الرُّوحُ، وتَنْتشِي بها الأحاسِيسُ، ويَسْكرُ بها الخيَالُ، فيُحلِّقُ في فضاءاتِ العالمِ الرَّحْبِ دونَما أجنحةٍ.. ووقتَئذٍ يعيشُ المرءُ التَّاريخَ برُمَّتِه والعصورَ منذُ بداءتِها إلى مسيرِها الحاضرِ وصولاً إلى المستقبلِ باستشرافِ رؤاهُ وتأمُّلِ مُنتهاهُ.. ويصيرُ نهراً منبعُهُ الماضي ومسيرُهُ الحاضِرُ ومصبُّهُ المستقبَلُ.

وإذا كانتْ لذَّةُ الأبدانِ تُفْضي إلى داءٍ، فتَعاسةٍ، فشَقاءٍ.. فإنَّ لذَّةَ الأفهامِ تُفْضي إلى دواءٍ من كلِّ داءٍ، فسَعادةٍ، فإحساسٍ وجُوديٍّ بالحياةِ، وخلودٍ تتغنَّى بمجدِهِ الأممُ، وتترنَّمُ على أنغامِهِ الكواكبُ والنُّجومُ، وتَشدُو على ألحانِه ثغورُ الدَّهرِ والأيامِ أعذبَ أناشيدِها..

لذَّةُ الأحشاءِ سُوَيعاتٌ.. ولذَّةُ المعرفةِ أبديَّةٌ..

الأُوْلى حيوانيَّةٌ، والثَّانيةُ ملائكيَّةٌ..

الأُوْلى تَقودُ إلى التُّرابِ، والثَّانيةُ تُحلِّقُ في الفضاءِ..

الأوْلى سعادةٌ آنيَّةٌ تعقبُها شَقاواتٌ وأدواءٌ.. والثَّانيةُ عَناءُ حَصادٍ يعقبُهُ خلودٌ وسمُوٌّ يلثُمُ خدودَ المجرَّاتِ معانِقاً كواكبَها ونجومَها..

وإذا كانتْ كلُّ نبوءةٍ تَقومُ على أدلَّةٍ وبراهينَ، فإنَّ كلَّ فكرةٍ حقيقيَّةٍ يُبْنى لها صَرْحٌ على صخُورِ الواقعِ!

وإليكمُ النَّبأَ اليقينَ من لسانِ الدَّهرِ، وصفحاتِ التَّاريخِ..

فهلْ من أمَّةٍ في الأرضِ خلَّد الدَّهرُ أمجادَها على جُدرانِ أمعائِها وكروشِها، أم سطَّر ملاحمَها الحضاريَّةَ على أروِقةِ تلافيفِ أدمغةِ علمائِها ومفكِّرِيها ومبدعِيها وفطَاحِلِها وفحولِها وعبقريِّيها في محاريبِ الفكرِ والثَّقافةِ؟!

فالتَّاريخُ لم يخلِّدْ أمجادَ الأممِ الحضاريَّةِ منذُ ولادةِ فجرِها على ملاعِقِ الذَّهبِ وقصعَاتِ النُّحاسِ ومراجِلِ المعادنِ الثَّمينةِ.. وإنَّما خلَّدَ الأممَ الَّتي خطَّت فكرَها على ألواحِ الطِّينِ والحجارةِ والخشَبِ وجلُودِ الحيواناتِ!

وهَأنَذَا أبسِطُ لكُم ما قالَهُ الأدباءُ والمفكِّرونَ في العقلِ والفِكرِ والثَّقافةِ محلِّلاً ومُعلِّقاً وناقِداً؛ من أجلِ الوصولِ إلى نظرةٍ شاملةٍ حولَ أهميَّةِ الثَّقافةِ والفكرِ للإنسانِ.

وإليكُم ما قالَه شاعرُنا الكبيرُ أبو الطيِّب المتنبِّي الَّذي ملأَ الدُّنيا وشَغلَ النَّاس بشعرِهِ وحِكمِه: ( )

ذو العقلِ يَشْقى في النَّعيمِ بعقلِهِ وأخُو الجَهالةِ في الشَّقاوةِ يَنْعمُ

وهذهِ الحِكمةُ تُلخِّصُ المفارقةَ الكبيرةَ بين إنسانٍ مفكِّرٍ يحيَا شَقيَّاً بالرَّغمِ من النِّعمِ الَّتي تحفُّ بهِ من كلِّ جانبٍ، وبينَ جاهلٍ شقيٍّ يعيشُ نعيماً بالرَّغمِ من كلِّ ما يُحيطُ به من مَآسي الفَقرِ والجهلِ والتخلُّفِ..

وهذه النَّتيجةُ ليستْ من خيالِ الشُّعراءِ ولا من إلهامِ الفلاسفةِ، وإنَّما حقيقةٌ يفرضُها منطقُ الحياةِ؛ لأنَّ الإنسانَ العاقلَ والمفكِّر يعيشُ الواقعَ بكلِّ آلامِهِ وهمومِهِ، وتمتدُّ بصيرتُهُ إلى المستقبلِ، وما قدْ تحمِلُه الأيَّامُ في رحِمِها من شقاءٍ..

أمَّا الجاهلُ فيَحيَا حياتَهُ الرَّاهنةَ غيرَ مبالٍ بما يَحدثُ حولَه، وليسَ لهُ من خيالٍ يتجاوزُ لقمةَ عيشِه، وتَجدُّدَ أنفاسِه شهيْقَاً وزفِيراً، وامتلاءَ معدتِهِ بما تجْنِيهِ يداهُ.

ويجِبُ ألّا نَنسَى أنَّ قوَّةَ الإنسانِ البدنيَّةَ تَخضعُ لقانونِ التَّبدُّلِ والضَّعفِ والتَّحوُّل، كلَّما تراكمَتْ عليها سنونُ العمرِ، فتنتَهيْ بها النَّضارةُ إلى ذُبولٍ، والشَّبابُ إلى شيخوخةٍ والصِّحَّةُ إلى سَقمٍ، وثورةُ الهيَجانِ إلى رمادٍ تَذْروهُ رياحُ الأيَّامِ.

أمَّا قوَّةُ المخلوقِ البشريِّ الرُّوحيَّةُ والفكريَّةُ، فهي طاقةٌ متجدِّدةٌ، لا يعتريْها داءٌ، ولا يُطفِئُ شموعَها المتَّقدةَ شيخوخَةٌ، ولا تُبدِّد قِواهَا، المتربِّعةَ جبالاً شامخةً في حنايا الفكرِ والنَّفسِ، أعاصيرُ الَّليالي الحالكاتِ مهمَا عصفَتْ بزفيرِهَا، ومهمَا زمجرَتْ بهديرِهَا، فقوَّة البدنِ إلى شيخوخةٍ، وقوَّةُ الرُّوحِ والفكرِ لا تَشيْخُ كمَا عبَّر عن ذلك مفكِّرُنا العربيُّ نجيبٌ الكيلانيّ: ” القوَّةُ الحقيقيَّةُ هي قوَّةُ الرُّوحِ والقلبِ والفكرِ، وهيَ لا تشيخُ أبداً”.

والعالِمُ أغنَى ملوكِ الأرضِ قاطبةً بفكرِه وروحِه وعقلِه ونفسِه، والأرضُ بما رحُبَت والممالكُ بما شَسَعَت والعروشُ بما حوَتْ، لا يمكنُها أن تستنْشِقَ أنفاسَ الحياةِ دونَ أن تستمدَّ نبضاتِ قلبِها من فكرِ عالِمٍ ينظِّم حركاتِها، ويوقِدُ شموعَ التجدُّدِ والانبعاثِ في حناياهَا: “فكرُ العالِمِ يجعلُهُ أغنى مَلكٍ، ومُلْكُ الأرضِ بما فيها لا يُغنِي مَلِكاً عن عالِمٍ”. (نجيب الكيلاني)

ويجبُ على العلمِ القائمِ على العقلِ أن يَحتضِنَ الرُّوحَ الَّتي تَمدُّهُ بالقيمِ والأخلاقِ والمُثُلِ، وألَّا يتنكَّر لهَا، مهمَا بلغَ من القوَّةِ؛ لأنَّهُ جسَدٌ وروحُهُ الدِّينُ والإيمانُ القائِمانِ على تجديدِ فكرِ الإنسانِ وطاقاتِهِ النَّفسيَّةِ والرُّوحيَّةِ البعيدانِ عن الخُطبِ والشِّعاراتِ والتَّفسيراتِ الطُّوباويَّة والمظاهرِ الدراميَّةِ الحزينةِ الَّتي تَصْهرُ خسيسَ المعادنِ لتصُبَّهُ في بوتقةِ الجوهرِ المَصُوغِ من الإبريزِ الخالي من كلِّ شوائبِ الحياةِ الفكريَّةِ والاجتماعيَّة الباليةِ .

كمَا أنَّ الدِّينَ دونَ علمٍ هَرْطقةٌ لا يقبلُها عقلٌ، فثمَّةَ علاقةٌ جدليَّةٌ تاريخيَّةٌ بينَهُما، وهذا مَا عبَّرَ عنهُ كبيرُ علماءِ الفيزياءِ في العالمِ على مرِّ عصورِه، ألبِرت إنشْتايْن، صاحبُ نظريَّتَي النِّسبيَّة الخاصَّةِ والعامَّةِ، بالرَّغمِ من أنَّه لم يكُن متديِّناً: (العلمُ بدونِ دينٍ أَعْرجُ، والدِّينُ بدونِ علمٍ أَعْمى).

والعلمُ نورٌ والجهلُ ظلامٌ كما قالُوا، فحِينَ تُشرِقُ شمسُ العلمِ، يتَوارى ليلُ الجهلِ، وبإشراقةِ الشَّمسِ تبدأُ الحرَّيةُ، وحينَها ينتَهيْ الجهلُ، فلا يُمكنُ لجاهلٍ أن يكونَ حُرَّاً، ولا يُمكنُ أنْ يُمنحَ سلاحَ الحرِّيَّة؛ لأنَّ حالتَهُ تُشبهُ حالَ مَن يَمنحُ مجنوناً سلاحاً، على حدِّ تعبيرِ الرِّوائيِّ الأمريكيِّ آرنِسْت هُمنْغواي: “تبدأُ الحريَّةُ حينَ يَنْتهيْ الجهلُ؛ لأنَّ منحَ الحريَّةِ لجاهلٍ كمنحِ سلاحٍ لمجنونٍ”.

والعلمُ يرفعُ صاحبَهُ درجاتٍ، مثلمَا يرفعُ الإيمانُ المؤمنينَ درجاتٍ، قالَ تعالى: ﴿يرفعُ اللهُ الَّذين آمنُوا منكم والَّذين أوتُوا العلمَ درجات﴾. (سورة المجادلة، الآية 11).

وكذلكَ طلَبُ العلمِ سبيلٌ لولُوجِ نعيمِ الجنَّةِ، قالَ النَّبيُّ محمَّدٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَن سلكَ طريقاً يلتمِسُ فيه عِلماً سهَّل اللهُ له طريقاً إلى الجنَّة).

وذو العقلِ العالِمِ ليسَ شقيَّاً حتَّى لو كانَتْ أفكارُه تُبحِرُ في مُحيطاتِ الجهلِ والأميَّةِ، وإنَّما هو ملِكٌ يَحكُمُ عالماً من الفكرِ والخيالِ يَعجزُ جبابرةُ الأرضِ عن إدراكِ بنتٍ من بناتِ عقلِهِ، كما أنَّهُ يعيشُ عالماً سحريَّاً ترفلُ السَّعادةُ مُتهاديةً بجناحَيْها على أروقةِ فكرهِ وروحِه المنتشيةِ بالخيالِ الملائكيِّ، فتهبطُ السَّعادةُ إلى وجدانِهِ وكيانِه كلَّما وُلدَتْ من رحمِ عقلِهِ فكرةٌ أو كلِمةٌ أو مقولَةٌ أو بيتٌ من الشِّعرِ أو اختراعٌ أو اكتشافٌ أو إبداعٌ..

وثمَّةَ بَوْنٌ شاسِعٌ بينَ الثَّرى والثُّريَّا كمَا قالُوا، والعلمُ يُكتسَبُ، وليس مُلكاً متوارَثاً يرثُه الأبناءُ عن آبائِهم وأجدادِهم، وبهِ يَعلُو المرءُ، ويَغدو سيِّدَ القومِ، ودونَه يصغُرُ كبيرُ القومِ مهمَا عَلَا شأنُهُ، يقولُ الإمامُ الشَّافعيُّ ( ):

تعلَّمْ فليسَ المــــــــــرءُ يُولــــــــدُ عالِماً وليس أخُو علمٍ كمَنْ هوَ جاهِـــــــــلُ

وإنَّ كبيرَ القَـــومِ لا عِلْــــــــــمَ عنـدَهُ صغيرٌ إذا التفَّتْ عليهِ الجَحافلُ

وإنَّ صغيرَ القَـــومِ إنْ كانَ عالِماً كبـــــــــــــــــيرٌ إذا رُدَّت إليــــــــــــــهِ المحَـــــــــــافلُ

ولكنَّ نيلَ العلمِ وجنيَ الفكرِ ليسَ نُزهةً ترفيهيَّةً في جِنانِ الأرضِ، وإنَّما هوَ جهادٌ وسعيٌ مرُّ المَذاقِ، إلَّا أنَّ ثمراتِهِ شهيَّةٌ حينَ القِطافِ، يقولُ الشَّافعيُّ ( ):

ومَنْ لم يذُقْ مرَّ التَّعلُّمِ ســــــاعةً تجرَّعَ ذلَّ الجهلِ طــــــولَ حياتِهِ

ومَن فاتَهُ التَّعليمُ وقتَ شــبابِه فكبِّر عليـــــــــــــهِ أربعــــــــــــــــاً لوفـــــــــــــــاتِـهِ

فمَن لا يتعلَّمُ يظلُّ يتجرَّعُ ذلَّ الجهلِ طوالَ حياتِه، ومَن فاتَه قطارُ المعرفةِ أقِمْ على روحِه صلاةَ الغائبينَ. والعلمُ مَطلبُ كلِّ كائنٍ بشريٍّ، وهذا المطلَبُ لا يَتحقَّقُ بالتَّمنِّي، وإنَّما بالجِدِّ والمثابرةِ والاجتهادِ، قالَ أميرُ الشُّعراءِ أحمدُ شوقي: ( )

وما نيلُ المطالِبِ بالتَّمنِّي ولكنْ تُؤخَــــــــــذُ الدُّنْيا غِلابَا

ومهمَا سَمَا العالِمُ بعلومِه، فإنَّه لن يُدركَ إلَّا قطرةً من بحرٍ، وكلَّما حلَّق عالياً شعرَ بصِغرِ حجْمهِ وضيقِ علمِهِ، قال الشَّافعيُّ: ( )

كلَّمَــــــــــا أدَّبني الـــــــــدَّهْــــــــــ ـــرُ أرانِي نقــــــصَ عقـــــلِي

وإذا ما ازدَدْتُ علــــماً زادنِي عِلمَـــــــــــــــــــــاً بِجَهْــــلي

ممَّا تقدَّم نُدرِكُ أنَّ العَقلَ والعِلمَ والفِكرَ والثَّقافةَ سِمفونيَّةٌ رباعيَّةُ الأنْغامِ، تَعزِفُ على أوتارِهَا الأممُ أنشودةَ حضَارتِها؛ لتَسْعدَ وتَرقَى لا لتَشقَى وتتَردَّى، وتُعانِقَ فجرَ الحُريَّةِ وتلثُمَ خدودَ الشُّهبِ، وتُمزِّقَ عباءةَ الجهلِ، وتُوصِدَ أبوابَ العُبوديَّةِ والتَّخلُّفِ والانحِطاطِ..

الأمَّةُ الّتي تَقرأُ هي الأقْوى والأبْقى..

الأمَّة الَّتي تُطلِقُ العنانَ للفِكرِ راسخةٌ على صدرِ التَّاريخِ رسُوخَ الجِبالِ أمامَ البِحارِ..

الأمَّةُ الّتي تَصوغُ أفكارَها سبائِكَ من عَسْجدٍ، لا تَخْشى على نفسِها من صَدأِ الأيَّامِ..

الأمَّةُ الّتي لا تَخْشى أبناءَها حينَما يُقبِّلُون أشعَّةَ الشَّمسِ ويُعانِقُون الكواكِبَ والنُّجومَ بأفكارِهِم، لا يُمكنُ أن يتَصدَّع بنيانُها، فيعتَرِيْها الانهِيارُ والسُّقوطُ بينَ براثِنِ المتربِّصِين بها..

الأمَّةُ الّتي لا تَجترُّ ماضِيَها اجترارَ المواشِي للطَّعامِ، لا تَخشَى على أضراسِها من التَّسوُّسِ والتَّصدُّعِ والانكِسارِ..

الأمَّة الّتي يتبوَّأُ فيها علَماؤُها مقاعِدَهُم بينَ النُّجومِ، قادرةٌ على خوضِ غِمارِ معاركِها على سطحِ الكواكِبِ..

الأمَّةُ الّتي تَحرِصُ على إيصالِ نُورِ العِلمِ إلى عُيونِ أبنائِها، تتَحدَّى كلَّ البراقِعِ والسُّدولِ، ولا تَهابُ البتَّةَ غياهِبَ الظُّلُماتِ..

الأمَّةُ الّتي يَرى قادتُها أفكارَ أبنائِها شُعَلاً متأجِّجةً لتجديدِ الحياةِ، لا يُمكنُ أنْ تنالَ من عزيمتِها وساوِسُ شياطينِ الإنسِ ولا الجِنِّ..

الأمَّةُ الّتي تُعْنَى بغذاءِ عقولِ أبنائِهَا عنايتَها بغذاءِ أبدانِهم، لا يُمكنُ أنْ تُصابَ بهِيسْتيريا الجُنونِ، ولا هَلْوسةِ المَنُونِ..

الأمَّةُ الّتي تُقدِّم مجلَّداتِ الثَّقافةِ والفكرِ لأبنائِهَا، تَبنِي صُروحَ حضارتِها لبِنةً لبِنةً، وتُناطِحُ السُّحُبَ وتُسابقُ الشُّهُبَ..

عندَما يحرِصُ قادةُ الأممِ على خلودِهم، يَبنونَ قصُوراً للثَّقافةِ تُضاهِي قصورَهم..

عندَما يقودُ الأممَ رجالٌ يتسلَّحُون بالعلمِ والفكرِ والفضيلةِ، فأكبِرْ بتلكَ الأممِ، وهلِّلْ لعظمتِها وشُموخِ صُروحِها..

الأمَّةُ الّتي تَحْتفِي بالقراءةِ، وتفتحُ لهَا ميادينَ المنافسةِ والسِّباقِ والتَّحدِّي الحقيقيِّ، وتمنحُ أبطالَها أوسِمةَ المجدِ والشَّرفِ، فإنَّها تبنِي جُيوشاً من القَادةِ في شتَّى ميادينِ الصِّراعِ والتَّحدِّي والبقاءِ..

في إحْدى مدارسِ الفتَياتِ في دبيّ (مدرسةُ العَذْبة) رأيْتُ أمَّةً تَقرأُ، وأبصرْتُ نحلاتٍ تَجنِي رحيقَ الأفكارِ؛ لتصنعَ شَهداً من عصارةِ الفكرِ والثَّقافةِ.

شاهدْتُ مع كلِّ نحلةٍ أزهاراً من كلِّ بستانٍ.. رأيتُ حافِلةً تحمِلُ سِلالَ الأزهارِ من الشَّارقةِ؛ لتَجنيَ رحيقَها نحلاتٌ من دبيّ.

فأكبِرْ بأمَّةٍ تقرأُ و بمدارِسَ تَغرِسُ فسائِلَ الفكرِ في صحراءِ الحياةِ!

وفي الخِتامِ أقولُ لكلِّ مَنْ يُضيءُ التَّاريخَ بكتابِ علمٍ حقيقيٍّ غيرِ مُبَرقَعٍ ببراقِعِ التَّطبيلِ والتَّزميرِ والتَّمجيدِ والتَّكبيرِ لتجَّارٍ يَشترُون عصارةَ العُقولِ، كما يبتاعُون المَواشِي في حقولِهم.. وأقولُ لكلِّ عالِم وهبَ نورَ عينَيهِ البشرِيَّةَ من أجلِ نهضةِ الإنسانيَّةِ ورُقيِّها وسعادتِها: أنتُم نورُ الحياةِ وبلسمُ الجراحِ وخمرةُ الرُّوحِ التي تستَمِدُّ منْها الأممُ طاقاتِهَا وأسبابَ بقائِها واستمرارِهَا.

دبي – في مكتبة متنقلة داخل حافلة (ثقافة بلا حدود) 1/11/2017

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات