جبران خليل جبران 

من أينَ أبدأُ؟

(الأديبُ والفيلسوفُ العالميُّ في ذكْرى رحيلِه 10 إبريل عام 1931م)

منْ أينَ أبدأُ؟ لا أدرِي! لأنَّني لا أعرفُ مَكاني في هَذا العالَمِ!! وكيفَ أبدأُ؟ لا أدْري! لأنَّ البدايةَ مَخاضٌ عسيرٌ!! وبمَ أبدأُ؟ لا أدريْ! لأنَّ مَركَبي تائِهٌ في محيطٍ شاسعٍ بدايتُه كنهايتِه، وشواطِئُه مثلَ أعماقِه!!

وماذا أقُولُ؟ لا أدريْ! لأنَّ كلِماتي تَخْتنِقُ قبلَ أن تَرى النُّورَ منَ المَخاضِ!!

يئِسَ يَراعي قبلَ أنْ أخُطَّ كلِمةً واحدةً.. وأوْراقي تَبعْثرتْ قبلَ أنْ تَضمَّها أنامِلي بحَنانٍ.. وفِكري تبدَّدَ مثلَ أوراقِ الخريفِ قبلَ أنْ تعصِفَ بهِ أفْكارِي ونظَراتِي في الحياةِ.. وروحِي تحطَّمَتْ في صحراءِ الحياةِ قبلَ أنْ تُلامسَ روحَكَ أيُّها الفيلسُوفُ العبْقريُّ..

وكيَاني تَمزَّقَ إرْباً إرْباً قبلَ أن تتأمَّلَ عيْنايَ فلسفةَ نظراتِكَ وتأمُّلاتِكَ في الكونِ والخَلْقِ والحياةِ.. كلُّ كلمةٍ من كلماتِكَ تُغرِقُني في بِحارِ الفِكْرِ والتَّأمُّلِ، فلا أعرِفُ كيفَ أَغُوصُ، ولا كيفَ أنْجُو منَ الغَرقِ؟!

كلُّ عبارةٍ من عباراتِكَ تَقتلُني حينَما أَراني تلْميذاً أبحثُ عن تفسيرٍ لهَا في معاجِمِ اللُّغةِ والفلسفةِ، فلا تَصْطادُ شِباكي إلّا في الماءِ العكِرِ.. لسْتَ إنساناً واحداً اسمُهُ جُبرانُ! أنتَ الإنسانيَّةُ بكلِّ حروفِها ومَعانِيها!

لسْتَ مُعْجماً فلسفيَّاً يَتِيماً، يُمكِنُ الغَوصُ في معانيهِ في حِقبةٍ زمنيَّةٍ مُعيَّنةٍ.. بلْ أنتَ فلسفةُ كلِّ المعاجمِ الإنسانيَّةِ.. ستَظلُّ لُغزاً يُحيِّرُ جهابِذةَ الفكرِ منْ أفلاطونَ وأرسْطو وسُقْراطَ عبرَ كلِّ بحارِ الفلْسفةِ والفلاسِفةِ والمفكِّرينَ.. لسْتَ إنساناً بروحٍ تحمِلُ هُويَّةَ جُبرانَ.. بل أنتَ إنسانيَّةٌ بكلِّ ما تَحْبَلُ بهِ منْ رجالِ الفكرِ والفلسفةِ والإنسانيَّةِ..

لستَ مفكِّراً لُبْنانيَّاً عربيَّاً، يحمِلُ بطاقةَ جبرانِ خليلِ جبرانَ.. بل أنتَ تاريخُ فكرٍ إنسانيٍّ يحملُ في طيَّاتِه عُصارةَ فكرِ العالمِ منْ مَهدِ الإنسانيَّةِ إلى مُنْتهى الكَونِ..

لستَ عبقريَّاً صقلَ فكرَ العالَمِ وجَلَا صدأَهُ في زمانٍ يمتَدُّ منْ بصِيصِ النُّورِ في عينَيْكَ إلى خُبُوِّ شُموعِ الحياةِ في جسدِكَ وروحِكَ.. بل أنتَ العبقريَّةُ الّتي وُلِدتْ وما زالتْ أنوارُها تزحَفُ إلى العالَمِ مع إشراقَةِ الشَّمسِ كلَّ صباحٍ على الكَونِ والكائِناتِ..

لستَ نبيَّاً يَعتصِرُ رسالةً سماويَّةً في أحشاءِ فكرِه ووجْدانِه وخيالِهِ.. بل أنتَ فيلسوفٌ ينبُضُ فكرُكَ بكلِّ أنواعِ الهِدايةِ على امتِدادِ أزمِنةِ التَّاريخِ.. وإنْ كنتَ غريباً في زمانِكَ! فستَبْقى غريباً في جميعِ أزمِنةِ الدَّهرِ!!

وإنْ كنتَ غريباً عن عالمِكَ الّذي انبثَقْتَ من كُنهِهِ.. فسوفَ تَبْقى غريباً في كلِّ عصورِ العالمِ؛ لأنَّ أمثالَكَ يُولَدونَ غُرباءَ، ويُودِّعُونَ الحياةَ غرباءَ!! كمَا قالُوا: (لا وطنَ لنَبيٍّ في قومِه). وأنتَ لا وطنَ لكَ في العالَمِ بأسْرِه؛ لأنَّكَ حُرٌّ طلِيقٌ فوقَ حدودِ الزَّمانِ والمكانِ..

قدْ أُتَّهمُ بالكُفْرِ والضَّلالةِ والجُنونِ، كمَا اتُّهِمتَ من قَبلُ.. لكنَّني لا أُبالي؛ لأنَّني مثلُكَ غريبٌ عن هَذا العالمِ، وإنْ كُنتُ لا أُساوِي نقطةً في بحرِ فلسفتِكَ وفكرِكَ وإنسانيَّتِكَ!!

كلَّما قرأْتُ كتاباً في الأدبِ أو الفلسفةِ أو التَّاريخِ أو غيرِها من كتبِ المعرفةِ، شعرْتُ بأنَّني أعيشُ في عَصرِه الّذي كُتِبَ فيهِ.. ولكنَّني حينَما قرأْتُكَ أيُّها الفيلسوفُ.. أحسَسْتُ بأنَّني أعيشُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ من هَذا العالمِ الفَسيحِ المتَرامي الأطْرافِ.. وكلَّما أعدْتُ قراءتَكَ من جديدٍ، وجدْتُ نفسِي في ولادةٍ جديدةٍ وفي عالمٍ آخَرَ غيرِ عالمَيَ الّذي يمتدُّ فيهِ جسَدي، وتَهِيمُ فيهِ رُوحي، ويَسبحُ فيهِ خَيالي، ويُبحِرُ في أعماقِه فِكْري!!

منْ أينَ أبدأُ؟ وكيفَ أَبدأُ؟ مَا زالتْ عِباراتي تَهِيمُ حولَ نفسِها حائِرةً في فضاءٍ واسعٍ تتَناثرُ فيهِ أفكارُكَ كالمِجرَّاتِ والكواكبِ والنُّجومِ!

لكنَّني قرَّرْتُ الغوصَ في بِحارِ فلسفتِكَ، ولستُ أخْشَى الغرقَ، ولمْ أعُدْ أُبالي بعواقِبِ المُغامرةِ، ما دُمْتُ أتنفَّسُ بخياشِيمِ فكرِكَ وفلسفتِكَ.. ولنْ أتراجَعَ عن قَرارِي، ما فتِئْتُ أحمِلُ زعانِفَ نظراتِكَ وتأمُّلاتِكَ في الكونِ والحياةِ..

ولنْ أتردَّدَ أبداً، ما حمَلَتْ نفسِي شُعاعَ أملٍ في النَّجاحِ.. ولنْ أتخاذلَ، ما هبطَتْ نسائمُ الإنسانيَّةِ بخلُودِها من روحِكَ إلى حدائقِ رُوحي.. ولنْ يَمتدَّ إليَّ خيطٌ من خُيوطِ اليأْسِ، ما انسَابَتْ خُيوطُ أشعَّةِ فكرِكَ إلى ظلامِ فِكْري ونفسِي.. ولنْ أعودَ القَهْقَرى، ما سالَتْ شجاعتُكَ وعزيمتُكَ حُمَماً بركانيَّةً إلى أغوارِ كيَاني!

وإنْ لمْ تستطِعْ كلُّ كتابَاتي وفلْسفَتي الغَورَ في أعماقِ فِكرِك الإنسانيِّ الجليلِ.. فحَسْبي مَا أستَطيعُ الوصُولَ إليهِ.. وإنْ عَجِزَتْ مَجاهِرُ فلْسفَتي عن اختراقِ دياجِيرِ ظلُماتِ فلسفتِكَ.. فحسْبُها أنْ تُضِيءَ بعْضاً من زوايَا عالمِكَ الغريبِ وأطرافاً من مجاهِلِكَ المكتَنِفةِ بالأسرارِ والطَّلاسِمِ!

مَاذا أقُولُ لكَ أيُّها الفيلَسُوفُ، وأنتَ تَنظُرُ إلى الأبناءِ نظْرةَ الشَّمسِ إلى الطَّبيعةِ؟ فلا تَكادُ تقعُ على حديقةٍ إلّا وتَرى فيها جَمالاً يتَّفتَّقُ من جَمالٍ، ونباتَاتٍ تُولَدُ من بِذارٍ، وأزهاراً تَفْتحُ عينَيْها للنُّورِ أيَّاماً، ثمَّ تَغفُو في ظلامٍ مُعلِنةً ساعةَ الرَّحيلِ؛ لتَعُودَ وتُولَدَ من جديدٍ في فصلٍ قادمٍ أو ليُولَدَ غيرُها بعدَ أيَّامٍ..

إنَّكَ تُوجِّهُ رسالتَكَ لجميعِ الآباءِ والأمَّهاتِ في كلِّ أنحاءِ العالمِ وفي كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ ليَنْظُروا إلى أبنائِهمْ نَظْرةَ الشَّمسِ إلى العالمِ الحيِّ بكلِّ كائناتِهِ، فتَقولُ: “إنَّ أولادَكُم ليسُوا أولاداً لكُم. إنَّهمْ أبناءُ الحياةِ المشْتاقةِ إلى نفسِها، بكُم يأتُونَ إلى العالمِ، ولكنْ ليسَ منْكُم.. ومعَ أنَّهُم يَعيشُونَ معكُم فهُم ليسُوا مُلْكاً لكُم. أنتُم تستَطيعُونَ أنْ تَمنحُوهُم محبَّتَكُم، ولكنَّكم لا تَقدِرُون أنْ تَغرِسُوا فيهِم بذورَ أفكارِكُم، لأنَّ لهُم أفكاراً خاصَّةً بهِم..”. ( )

بماذا أردُّ على نظراتِكَ الإنسانيَّةِ المفْعمةِ بالمثاليَّةِ، والمصُوغةِ من أشعَّةِ الشَّمسِ الذَّهبيَّةِ، حينَ أقولُ لكَ: لقدْ دخلْنا في القرنِ الحَادي والعِشرينَ، ومازالَ بعضُ الآباءِ والأمَّهاتِ يُعامِلُون أبناءَهم كالعبيدِ، ويستغِلُّونَهم في لُقمةِ عيشِهم، ويَرونَ في مُخالَفتِهم لآرائِهم وأفكارِهم كُفْراً وإلْحاداً وعُقُوقاً يَحرمُهم منَ الجنَّةِ؟

وماذا أقولُ لكَ؟ وما زالتِ الأنظمةُ الدِّكتاتوريَّةُ والقمعيَّةُ في العالمِ تَنظرُ إلى أبنائِها نظْرتَها إلى الدَّوابِّ والحشَراتِ، أو رؤيتَها للنِّفطِ الخامِ تَبيعُ وتَشْتري بهمْ حسْبَ ملذَّاتِها وشهواتِها، وتَرمي ما يَفيضُ عن حاجتِها في مهَاوي السُّجونِ والمشانقِ والزَّنزاناتِ والمقابرِ الجماعيَّةِ، لمجرَّدِ أنَّها تُخالفُ آراءَها، أو تَخرجُ على طاعتِها الإلهيَّةِ المقدَّسةِ؟

ماذا أقولُ لكَ؟ وبعضُ أطفالِ العالمِ سوقُ نخاسةٍ لتجارةِ الأعضاءِ البشريَّةِ وقضاءِ الشَّهواتِ الحيوانيَّةِ عندَ شذَّاذِ الآفاقِ؟

ماذا أقولُ لكَ؟ وملايينُ الأطفالِ في العالمِ يموتُون جوعاً وفقراً وتحتَ وطأةِ الأمراضِ الفاتكةِ، والعالمُ يتلذَّذُ بالحروبِ وتجارةِ الأفيونِ، ولا يَغفُو إلّا على أنغامِ الموسيقا وهدْهدةِ حركاتِ الرّاقصاتِ وفي المواخيرِ!

ماذا أقولُ لكَ؟ وأنتَ تنظرُ إلى الشَّبابِ والأحلامِ نظرتَكَ إلى الشَّمسِ عندَ مجيءِ اللَّيلِ والقمرِ عندَ مجيءِ الصَّباحِ! فتقولُ: “الشَّبيبةُ حلمٌ جميلٌ تسْترِقُ عذوبتَه مُعَمَّيَاتُ الكتُبِ وتجعلُهُ يقَظةً قاسيةً، فهلْ يجيءُ يومٌ يَجمعُ فيهِ الحكماءُ بين أحلامِ الشَّبيبةِ ولذَّةِ المعرفةِ مثلَما يجمعُ العِتابُ بين القلوبِ المتنافِرةِ؟ هل يَجيءُ يومٌ تُصبحُ فيهِ الطَّبيعةُ مُعلِّمةَ ابنِ آدمَ، والإنسانيَّةُ كتابَهُ، والحياةُ مدرستَهُ؟”. ( )

ماذا أقولُ لكَ؟ وقدْ صُودِرتْ أحلامُ الشَّبابِ وهيَ يرقاتٌ، وقدْ أُسِرتْ أفكارُهم لمُعَمَّيَاتِ الضَّحالةِ والتَّهميشِ وزنزاناتِ الموتِ الزُّؤامِ.. وصارُوا أسْرى التَّلقينِ وتشجيعِ أبطالِ الأجسامِ، والتَّصْفيقِ لولادةِ آلهةِ الأرضِ ومناسباتِهم الوطنيَّةِ والقوميَّةِ الخادعةِ، وبناءِ عروشِهم الفرعونيَّةِ على جماجمِ الفقراءِ والمسْتَضعفِينَ في الأرضِ، ومازالَ العالمُ ينتظرُ عودةَ المسيحِ ورجعةَ الإمامِ المهديِّ اللَّذينِ سيُنقذانِ العالمَ من الظُّلمِ والاستبدادِ والقهرِ، ويُقيمانِ العدلَ بالسَّيفِ في مواجهةِ الصَّواريخِ العابرةِ للقارَّاتِ وأسلحةِ الدَّمارِ الشَّاملِ والأسلحةِ البيولوجيَّةِ والكيماويَّةِ!

ومَن يتأمَّلُ فلسفةَ انتمائِكَ إلى هذا العالمِ الغريبِ، يُدركُ أنَّكَ تحملُ الإنسانيَّةَ جمعاءَ بينَ جناحيكَ الهائمينِ بكَ في رحابِ الكونِ الواسعِ.. وأنتَ تؤكِّدُ ذلكَ بعبارةٍ أنصعَ من وجهِ الشَّمسِ في وضحِ النَّهارِ، فتقولُ: “الأرضُ كلُّها وطنيْ والعائلةُ البشريَّةُ عشِيرتي، لأنَّني وجدْتُ الإنسانَ ضعيفاً ومنَ الصِّغرِ أنْ ينقسمَ على ذاتِه، والأرضُ ضيِّقةٌ ومنَ الجهلِ أن تتجزَّأَ إلى مَمالكَ وإماراتٍ. أُحبُّ الأرضَ بكلِّيّتي؛ لأنَّها مَرتعُ الإنسانيَّةِ روحُ الألوهيَّةِ على الأرضِ.”. ( )

فمَا عسَاني أقولُ أمامَ فكرِكَ الإنسانيِّ العظيمِ؟ وأنا أَرى الكرةَ الأرضيَّةَ فريسةً تنهشُ بأطرافِها وأحشائِها وحوشٌ آدميَّةٌ تتسربلُ بأرديةِ البشرِ، لكنَّ أنيابَها أشدُّ وأعْتى من أنيابِ الوحوشِ الكاسرةِ، وأحشاؤُها لا تَعرفُ حدَّاً للامتلاءِ والارتِواءِ!

وماذا أقولُ لفكرِكَ السَّامي النَّبيلِ؟؟ وأنا أَرى الإنسانيَّةَ تنتحرُ على مذابحِ همجيَّاتٍ وشرائعَ وقوانينَ وأطماعٍ وأثَرةٍ لم تَعرفْ لها مثيلاً خلالَ تاريخِها الغابرِ منذُ انبثاقِ الكرةِ الأرضيَّةِ من رحمِ الفضاءِ!

ماذا أقولُ لانتِمائِكَ الإنسانيِّ الكبيرِ؟؟ وأنا أَرى الإنسانيَّةَ بأسْرِها لا تَنتَمي لقبيلتِها وعشيرتِها، ولا أَرى الإنسانَ يمتُّ بصلةٍ إلى عشيرةِ ذاتـِه البشريَّةِ الّتي رفعَها اللهُ فوقَ كلِّ عشائرِ المخلوقاتِ في الكونِ، فتهاوَتْ إلى أقْصى درجاتِ الهاويةِ منَ الهمجيَّةِ والحيوانيَّةِ الدُّونيَّةِ الرَّخيصةِ!

ماذا أقولُ لك أيُّها الأديبُ الإنسانيُّ الّذي أحبَبْتَ الأرضَ بكلِّيتِكَ؛ لأنَّكَ وجدْتَها مرتعاً للإنسانِ وروحِ الألوهيَّةِ؟؟ وأنا أَرى الأرضَ تَضيقُ ذرعاً بكائناتِها البشريَّةِ وحقدِها المدمِّرِ على هذا الكوكبِ الجميلِ، ولا أَرى شيئاً منَ الذَّاتِ الإلهيَّةِ العظيمةِ غيرَ الدَّمارِ والزَّلازلِ والبراكينِ والفيضاناتِ والعواصفِ والأعاصيرِ والحوادثِ والقتلِ والظُّلمِ والاستِبدادِ والقهرِ والخرابِ والهمجيَّةِ والوحشيَّةِ والبشاعةِ والبلاهةِ والوضاعةِ والحقارةِ والتَّفاهةِ وكلِّ لعَناتِ التَّاريخِ!

فهلْ ثمَّةَ ذاتٌ إلهيَّةٌ في الأرضِ تمْحُو الظَّلامَ والقهرَ والبشاعةَ ودموعَ الثَّكالى والأيامَى والفقراءِ والبائسينَ والأطفالِ المشرَّدينَ والمحرومينَ؟ ولا حِيلةَ لنا في أمرِنا إلّا أنْ نقولَ اللّهمَّ آمينَ!

وحينَ تتأمَّلُ أممَ الأرضِ، تقذِفُها بالويلاتِ إذ تَراهَا غائِرةً في مجاهلِ التَّقهْقرِ والضَّياعِ والخداعِ والانفِلاتِ والانقلابِ العكسيِّ في القيمِ والمثُلِ والأخلاقِ، فتُخاطبُها خطابَ الفيلسوفِ العالِمِ بأحوالِها: ( )

“ويلٌ لأمَّةٍ تكثرُ فيها المذاهبُ والطَّوائفُ وتَخلُو من الدِّينِ.

ويلٌ لأمّةٍ تلبسُ ممَّا لا تنسجُ، وتأكلُ وتشربُ ممَّا لا تَعصرُ.

ويلٌ لأمّةٍ تحسبُ المستبِدَّ بطلاً، وترى الفاتِحَ المُذِلَّ رحيماً.

ويلٌ لأمّةٍ تكرهُ الشَّهوةَ في أحلامِها، وتعنُو لهَا في يقظتِها.

ويلٌ لأمَّةٍ سائِسُها ثعلبٌ، وفيلسوفُها مُشعْوِذٌ، وفنُّها فنُّ التَّرقيعِ والتَّقليدِ.

ويلٌ لأمّةٍ تستقبلُ حاكمَها بالتَّطبيلِ وتُودِّعُه بالصَّفيرِ، لتستقبِلَ آخرَ بالتَّطبيلِ والتَّزميرِ.

ويلٌ لأمّةٍ حُكماؤُها خُرْسٌ من وقْرِ السِّنينَ، ورجالُها الأشدَّاءُ لا يزالُونَ في أقْمِطةِ السَّريرِ.

ويلٌ لأمّةٍ مقسَّمةٍ إلى أجزاءَ، وكلُّ جزءٍ يحسبُ نفسَه فيها أمّةً..”.

فماذا أقولُ لكَ أيُّها الفيلسوفُ الأخرسُ من وقرِ السِّنينَ، وروحُكَ بعيدةٌ عنَّا في سكونِ الكونِ، وجسدُكَ راقدٌ في رميمِ الأجداثِ، وفكرُك مُغيَّبٌ في رفوفِ المكتباتِ وعالمِ النِّسيانِ؟!

إنَّ ويلاتِكَ الصَّارخةَ لا تصلُحُ إلّا لأمَّتِك الّتي خرجْتَ من رحمِها؛ لأنَّ جميعَ أممِ الأرضِ قد تجاوزَتْ هذهِ التَّحذيراتِ منذُ زمانٍ بعيدٍ، ولم تبقَ أمّةٌ في الأرضِ بهذهِ الصِّفاتِ والأخلاقِ الّتي حذَّرتَ منها إلّا أمّتُكَ الّتي نسبَتْكَ إليها نواميسُ اللَّحمِ والدَّمِ والانتِماءِ، بالرَّغمِ من أنَّ أفكارَك وفلسفتَكَ تجاوزَتْ كلَّ حدودِ الأممِ والقوميَّاتِ!

وحينَ تتأمَّلُ الذَّاتَ الإلهيَّةَ العظيمةَ الّتي أبدعَتِ الذَّاتَ الإنسانيَّةَ بأبْهى صورِها وحُلَلِها، ومنحَتْها كلَّ خصالِ السُّموِّ والارتقاءِ، وغرسَتْ فيها قِيمَ العدلِ والحرِّيَّةِ والخيرِ والمحبَّةِ والسَّلامِ.. فإنَّكَ تَرى أنَّ الذَّاتَ الإنسانيَّةَ قدْ خرجَتْ على خصالِها وخصائصِها، حينَ تَسلَّطَ عليْها وحوشٌ من جنسِها، فشوَّهَتْ كلَّ جمالٍ، وسحقَتْ كلَّ خيرٍ، وقتلَتْ كلَّ فكرٍ، وطغَتْ على كلِّ حقٍّ، فأفرغَتِ العالمَ من مضامينِه الإنسانيَّةِ النَّبيلةِ، وهذَا ما أكَّدتُهُ لكَ سابقاً، وهَا أنتَ تعودُ لتَقولَ للبشريَّةِ: “نعمْ إنَّ أباكُم السَّماويَّ هو الّذي يُقيْمُ الملوكَ والأمراءَ، وهوَ القادرُ على كلِّ شيءٍ. ولكنْ هل تَعتقِدونَ أنَّ أباكُم الّذي أحبَّكُم وعلَّمَكُم سُبُلَ الحقِّ بواسطةِ أنبيائِه يُريدُ أنْ تَكُونُوا مظلومينَ ومَرذولينَ؟

هلْ تَعتقِدُونَ أنَّ اللهَ الّذي يُنزلُ السَّحابَ مطراً، ويَستَنبِتُ البذورَ زرعاً، ويُنمّي الزُّهورَ أثْماراً، يُريدُ أنْ تكونُوا جِياعاً مُحتَقَرينَ؛ لكيْ يَبقَى واحدٌ بينَكم مُنتفِخاً مُتلذِّذاً؟

ولماذا تَخافُونَ مشيئةَ اللهِ الّذي بعثَكُم أحْراراً إلى هذا العالمِ، وتَصيرُونَ عبيداً للمُتمرِّدينَ على ناموسِه؟

كيفَ تَرفعُونَ أعيُنَكم نحوَ اللهِ القَويِّ وتدْعُونَه أباً، ثمَّ تَحْنُونَ رقابَكم أمامَ الإنسانِ الضَّعيفِ وتدعُونَهُ سيِّداً؟

كيفَ يَرضَى أبناءُ اللهِ أنْ يَكونُوا عبيداً للبشرِ؟ أمَا دعاكُم يَسُوعُ إخوةً، فكيفَ يدعُوكُم الشَّيخُ عبَّاسٌ خدماً؟! أمَا جعلَكُم يسوعُ أحراراً بالرُّوحِ والحقِّ، فكيفَ يجعلُكُمُ الأميرُ عبيداً للحَيفِ والفسادِ؟ أمَا سكَبَ يسوعُ النُّورَ في قلوبِكمْ، فكيفَ تَغمرُونَها بالظَّلامِ؟!”. ( )

ولكنَّكَ تتفاءلُ بالإنسانيَّةِ حينَ أنجبَتِ الأبطالَ المُنْقذِينَ لها من الضَّلالِ والغِيِّ، فتَقولُ: “الإنسانيَّةُ امرأةٌ يلَذُّ لها البُكاءُ والنَّحيبُ على أبطالِ الأجيالِ، ولو كانتِ الإنسانيَّةُ رجلاً لفرِحَتْ بمجدِهِم وعظَمتِهم.” ( )

وسرعانَ ما ينقلِبُ التَّفاؤلُ في ذاتِكَ إلى يأسٍ، حينَ تَرى الإنسانيَّةَ ضعيفةً، فتقولُ: “الإنسانيَّةُ طِفلةٌ تقِفُ متأوِّهةً بجانبِ الطَّائرِ الذَّبيحِ، ولكنَّها تَخْشى الوقوفَ أمامَ العاصفةِ الهائلةِ الّتي تَهصِرُ بمسيرِها الأغصانَ اليابسةَ، وتَجْرفُ بعزمِها الأقذارَ المنْتِنةَ.” ( )

لقدْ ضاقَ يَراعي ذرْعاً بينَ أنامِلي، وتأوَّهَتِ الصَّفحاتُ البيضاءُ تحتَ وطأةِ يديْ، واختَنقَتِ الكلماتُ وتاهَتِ العباراتُ، وأمْلَتْ عليَّ سطْوةُ المقالةِ حدودَ المقالِ، لأُعلِنَ نهايتَها بمَا قدّمتُ..

أمَّا جوانبُ فكرِكَ وفلسفتِكَ الأُخرى أيُّها الفيلسُوفُ، فسأدَعُها إلى مقالاتٍ أُخْرى.. وأفسَحُ المجالَ لأقلامٍ أُخْرى تُبْلي بلاءَها، وتُلْقي الضَّوءَ علَيها، وتضَعُها تحتَ مَجاهرِها تحليلاً وتفسِيراً وبياناً.

فتَحِيَّتي لروحِكَ الزَّكيَّةِ أيُّها المفكِّرُ والفيلسوفُ الكبيرُ في ذِكْرى رحيلِكَ الحزينةِ.. ومَحبَّتي وامتِناني لأفكارِكَ ونظراتِكَ الّتي ملأَتْ سماءَ الفكرِ شُهُباً وضَّاءةً يَهتَدي بها التَّائهونَ، ويسيرُ على هديِها الباحِثُون عن الحقيقةِ والمعرفةِ والفكرِ والفلسفةِ والحبِّ والخيرِ والجمالِ والقيمِ والأخلاقِ والمثلِ العُلْيا.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات