جبران خليل جبران

غابةُ الإنسانيّة

(الأديبُ والفيلسوفُ العالميُّ في ذكْرى رحيلِه 10 إبريل عام 1931م)

الذِّكرياتُ مُرّةٌ مرارةَ العلْقمِ، والمآسيْ تَعصِرُني بِلا ألمٍ، والحياةُ مسرحيَّةٌ هزليَّةٌ تُضحِكُني وتُبكِيني وأحياناً تَقتلُني فتُحْيِيْني، والإنسانيَّةُ غابةٌ يتربَّعُ عروشَها ذِئبانٌ ووحوشٌ ضاريةٌ لا تَحملُ من صُورِ الآدميّةِ سِوى ملامحِ الأجْسادِ، ولا تَعرِفُ من خصائصِ الضَّواري غيرَ الافتراسِ، والعالمُ اليومَ – بالرَّغمِ مِن تَحضُّرهِ وتَقدُّمِه – كهْفٌ مُظلِمٌ لم يرَ نورَ الكونِ إلّا من خلالِ ثُقوبٍ ضيِّقةٍ لا تكادُ تَملأُ قلبَه إلّا بالرَّمقِ الأخيرِ من أشعَّتِه!

كلَّمَا سمِعْتُ أغنِيةَ وديعِ الصَّافي (ياريْت) وهيَ تَصدَحُ من حُنجرتِه كصَوتِ صَفيرِ البُلبـلِ مُتدفِّقةً مثلَ شـلاَّلاتِ اليَنابيعِ العذبةِ على صدْرِ الطَّبيعةِ السَّاحرةِ:

“يا ريتْ جَنكيز خانْ وقـعْ بغرامْ جُولْييتْ

ونَيْـــرونْ بالعرضــانْ يَــرْعى غَنمْ يا ريتْ

وجبرانْ خليلْ جبرانْ يَحْكمْ بِرُوما يا ريتْ

يا ريتْ هالنَّيـْــرونْ يَرعى مـــــعَ الرِّعْيــانْ

ويشُوفْ نـــورْ الكـونْ ع جبالْنا مُرجـَـــانْ

يــزرعْ زهـُــورْ الحُبّ وما تَشْــعلِ النِّيــرانْ.. يا ريتْ..”.

وكلَّمَا انهمرَتْ كلماتُ فيروزَ وأنغامُها المجلْجِلةُ كالرَّعدِ على مَسمَعي عندَ الصَّباحِ وهيَ في ثـورةِ البُركانِ على الطُّغيانِ في أغنِيتِهـا (زنُّوبْيا) في حوارٍ غنائيٍّ بين زنّوبْيا ملكةِ تَدْمُرَ العظيمةِ وبينَ امبراطورِ الرُّومانِ (أوريلْيَانُوس) حينَ احتلَّ الرُّومانُ مملكةَ تدمرَ، ووقعَتِ الملكةُ أسيرةً في أيْدي الرُّومِ:

“- أورلْيانُوس: اهْربي يا زنّوبيا اهْربي اهْربي..

– زنّوبيا: لا إذا أنا بهرُبْ.. الأرضْ ما بتهربْ..

* خمْس سنينْ حكمِتْ زنّوبيا بنْيِتْ حضارةْ.. ثارتْ على رومَا

– زنّوبيا: أورلْيانوسْ الانكِسَار بيمْضى.. والانتِصار بيمْضى..

وبُكْرا بالأيّام تدمُر اللي انكسِرتْ، ورومَا اللي انتصِرتْ..

تنتينَتهُنْ حجارْ.. وأنتَ وأنا تِمثالَين بساحةِ الآثارِ..

لكنْ بكلّ زمانْ ومكانْ بدَّا تطلَعْ رومَا تَطْغي وتظلُم..

وبدّا تطلَعْ تدمُرْ ترفُض الظُّلمْ..

وبآخِر الآخِر بسُهولِ الزَّمانْ..

تنتصِرْ تدمُر.. تدمُر الحُرّيّة..

تدمُر الصَّرخَة اللي بقلْبِ الإنسانْ..

المملكةْ تدمُــر انتَهتْ من الأرضْ

صارتْ بالقلوبْ.. صارتْ بالمدارْ

صارتْ الصَّرخةْ.. وصارتْ النَّارْ

أورلْيانوس عجِّلْ خدْني على رومَا..

عِلْيِت الصَّرخةْ.. كبرِتْ على الموتْ

لا عسْكرَكْ أورلْيانوسْ ولا قوَّةْ رومَا..

ولا كُلّ رومَا بالدَّهرْ بتْسَكِّتْ هالصَّوتْ..

كلَّما سمِعْتُ الأغنِيتَينِ، أدركْتُ أنَّ العالمَ ما زالَ محكُوماً بقوَّتينِ: قوَّةِ القهرِ والتسلُّطِ والاحتلالِ، وقوَّةِ الدِّكتاتوريَّةِ الغبيَّةِ الّتي تُحرِقُ البلادَ والعبادَ والحجرَ والشَّجرَ في سبيلِ خلودِ عرشِها الأبديِّ المَشيدِ على الظُّلمِ والاضَّطهادِ والاستبدادِ والألوهيَّةِ العميَاءِ!

وحينَ أسمعُ الأغنيتينِ أتذكَّرُ كلماتِ أديبِ الفلاسفةِ وفيلسوفِ الأدباءِ جبران خليل جبران وهيَ تنهمِرُ مثلَ وابلِ الغيثِ على أرضِ ذاكرتِي وبحرِ عواطِفي ومشاعِري: “الأفعى إذا سُجِنتْ في القفصِ لا تَنقلبُ حمامةً، والعلَّيْقةُ إذا غُرِسَتْ في الكرْمِ لا تُثْمرُ تيناً”. ( )

وهكذَا الخَلْقُ منذُ قابيلَ وهابيلَ: قاتلٌ ومقتُولٌ.. غالِبٌ ومغلُوبٌ.. خيرٌ وشرٌّ.. فقرٌ وغِنىً.. تَعاسةٌ وسعادةٌ.. غمٌّ وهمٌّ فرجٌ وسرورٌ.. فلن تجِدَ لسنَّة ربِّكَ تبْديلاً.

ولكنَّ قوَّةَ الشَّرِّ لا تُفْني بذورَ الخيرِ مهْما عصفَتْ أعاصيرُها برقابِ نوازعِ الخيرِ والمحبَّةِ والنَّماءِ والعَطاءِ: “إنَّ العواصِفَ والثُّلوجَ تُفْني الزُّهورَ، ولكنَّها لا تُمِيتُ بذورَها”.

ويظلُّ الأملُ معقُوداً بنَواصِي قوانينِ التَّبدُّلِ والتَّحوُّلِ في فكرِ الإنسيِّ مثلَما تَخضعُ مظاهرُ الطَّبيعةِ لها: “إنَّ الجبالَ والأشجارَ والأنهارَ تتبدَّلُ هيئاتُها ومظاهرُها بتقلُّبِ الحالاتِ والأزمنةِ، مثلَما تتغيَّرُ ملامحُ وجهِ الإنسان بتغيُّرِ أفكارِه وعواطفِه”.

وإذْ ذَاكَ فإنَّ قوَّةَ الظُّلمِ وجبرُوتَ الاضطِهادِ لا تُفْني قوَّةَ الإيمانِ بالحقِّ ولا تَمسحُ ابتسامةَ العزيمةِ والأملِ من وجوهِ الصَّناديدِ الّذينَ صنعُوا التَّاريخَ وبنَوا الحضارةَ: ” المرءُ لا تُعذِّبُه الاضطِهاداتُ إذا كانَ عادلاً، ولا تُفْنيهِ المظالمُ إذا كانَ بجانبِ الحقِّ، فسُقراطُ شرِبَ السُّمَّ مُبتسِماً، وبولُسُ رُجِمَ فرَحاً”. ( )

نعمْ.. فهذِه نوامِيسُ الحياةِ، وإنْ طالتِ المظالمُ، فالحقُّ أبلجُ والباطِلُ لَجْلَجُ، حتّى إذا لمْ يبْقَ في الكونِ سِوى بصيصِ نورٍ يَنبثِقُ من غياهِبِ الدَّياجيرِ مهْما ادلَهمَّتْ، ومهْما عَتَتْ أعاصِيرُ الباطلِ بزمجَراتِها في غَياباتِ وُديانِ الحياةِ!

ولكنَّني إنسانٌ أقْرأُ فلسفةَ التَّاريخِ كمَا يَقرؤُها عُقلاءُ المفكِّرينَ قراءةً منطقيَّةً تربطُ الأحداثَ بالعِللِ والأسبابِ.. فأُسلِّمُ قيادَ حركةِ الحياةِ لمنطقِ النَّبيِّ محمَّد عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إذْ يقُولُ: ” كمَا تكونُوا يُولَّى علَيكم”.. أَمَا قالَ جبرانُ خليل جبران: “إنُّ الشُّعوبَ الجاهِلةَ تَقبِضُ على أشرفِ أبنائِها وتُسلِّمُهم إلى قساوةِ العُتاةِ والظَّالمينَ. والبلادُ المغمُورةُ بالذُّلِّ والهَوانِ تَضطَهدُ مُحبِّيها ومُخلِصِيها.”. ( )

أليسَ فيمَا يَحدُثُ في مُحيطِنا من أحداثٍ نِتاجاً لفلسَفةِ الغَباءِ الّتي أنتجَتْها عُصورٌ منَ الظُّلمِ والظَّلام واحتِقارِ الفكرِ البشريِّ الحُرِّ واعتِقالِ عُقولِ الجهابِذةِ والمبْدِعينَ والمفكِّرينَ واختزالِ التَّاريخِ كلِّهِ في أشخاصٍ رمَتْهم إلى ذاكِرتِنا حاوياتُ التَّاريخِ، فقدَّسْنَاها، وركَعْنا وسجَدْنا لها صاغِرينَ؛ وكأنَّها آلهةُ الأرضِ.

وفي خِضمِّ هذا الصِّراعِ السَّوداويِّ المُميتِ، تُصادِر قِوى الشَّرِّ والغباءِ إنسانيَّةَ الإنسانِ وتُحيلُهُ حيواناً مشْلولَ الفِكرِ والإرادةِ، خاويَ الرُّوحِ من أدْنى مشاعرِ الإحساسِ بالوجودِ.. وهَذا ما عبَّر عنهُ الأديبُ والمفكِّرُ السُّوريُّ مَمْدوح عُدوان في روايتِه (حَيْوَنةُ الإنسانِ).

أليستِ الفلسفةُ السِّياسيَّةُ والعسكريَّةُ والاقتصاديَّةُ والاجتماعيَّة الّتي تَحكمُ العالمَ اليومَ حيْونةً للإنسانِ وسحْقاً لإنسانيَّتِه الّتي فُطِرَ علَيها؟

أليسَ العالمُ الّذي يستَحْوذُ فيهِ أثرياؤُهُ، وهمْ ثُلَّةٌ لا تتَجاوزُ نسبتُهُم الثَّلاثةَ عشرَ بالمئةِ من مجموعِ سكَّانِه، على ثلاثةِ أرباعِ خيراتِه، حيْونةً صنعَها الإنسانُ بحيوانيَّتِيه؟

أليسَ منَ الغباءِ أن يربطَ جُهلاءُ العالمِ الرِّزقَ بالسَّماءِ، وكأنَّ الإلهَ الّذي خلقَ الكونَ ظالمٌ وعُنصريٌّ في توزيعِ الخَيراتِ والعَطايا والهِباتِ؟ فيمَنحُ شِرْذمةً منَ الوُحوشِ الآدميَّةِ جُلَّ ثرواتِه وخيراتِه، ويَحرِم معظمَ خلْقِه منَ الفقراءِ والأشقِياءِ كِسرةَ خبزٍ تسُدُّ رمقَ جُوعِهم وتُداوي أنينَ معدتِهم.. ويَنسَون أنَّ مَن صنعَ ذلكَ الفقرَ همْ شياطينُ الأرضِ؟!

أليسَتْ فلسفةُ النَّوايا الحسَنةِ الّتي تُعلِّقُ الأرزاقَ على مشاجبِ النِّياتِ ضرْباً من ضروبِ الجَهلِ والغَباءِ، فتَرفعُ الذَّاتُ السَّماويَّةُ خلْقاً إلى الفضاءِ يعتَصِرُونَ سُحبَ السَّماءِ، وتسحَقُ ما فاضَ من كائناتٍ ببراثنِ المجاعةِ وأنيابِ الفاقةِ؛ لتختبرَ نوايَا مخلوقاتِها فتمْتحُنَها ما تَشاءُ، لتَرى الصَّالِحَ من الطَّالحِ من مخلُوقاتِها.. والذَّاتُ الإلهيَّةُ قدْ أغرقَتِ الكونَ بالنِّعمِ الّتي ليسَ لها عدٌّ ولا إحصاءٌ لجميعِ مخلوقاتِها دونَ تمييزٍ بينَها؟

أليسَتْ هذهِ الرُّؤيةُ السَّاذجةُ امتهاناً لعظمةِ الخالقِ وإنكاراً لقِيمِ العدْلِ والمساواةِ الّتي أمطرَها في كُتبِهِ السَّماويَّةِ بينَ البشرِ؟!

وهُنا تَفِيضُ سجِيَّتي دهْشةً وتتَفجَّرُ قريحَتي أنْهاراً منَ الأسئِلةِ في بحرٍ مُترعٍ بالجِيَفِ منَ الأفكارِ والمعْتقداتِ العفِنةِ الّتي تُجافِي طبيعةَ الخلْقِ الإلهيَّةِ القائمةِ على التَّوازنِ منْ أجلِ البقاءِ! فالكونُ كلُّه مَشِيدٌ على التَّوازنِ الطَّبيعيِّ في الحياةِ، فلا بحرٌ ولا مُحيطٌ يبتلِعُ اليابسةَ برُمَّتِها، ولا مجموعةٌ منَ الكواكبِ تَفترسُ بقيَّة المجرَّاتِ طمَعاً في نشوةِ الامتلاءِ ونهَماً في إشباعِ النَّزواتِ!

وإليكمْ تَساؤُلاتي الّتي تحمِلُ إجاباتِها في أحشَائِها كمَا تَحبَلُ الشَّمسُ بأشعَّتِها المنبثِقةِ من كيانِها المشعِّ:

هلْ هؤلاءِ الأثرياءُ من تجَّارِ الأفيونِ والدِّماءِ والتَّاريخ وأفكارِ السَّماءِ والأوطانِ وأقدارِ الإنسانِ ورِمامِ الأحياءِ.. شُرفاءُ؛ ليكونُوا للهِ أصفياءَ في مِنَحِهِم نعمَه وعَطاياهُ؟!

هلْ هؤلاءِ العبيدُ الّذينَ يُقيمُونَ جميعَ التَّراتيلِ والصَّلواتِ والخلَواتِ في محاريبِ التِّجارةِ والدَّعارة والبَغاءِ وسفكِ الدِّماءِ واستئِصالِ كلِّ العناصرِ الإنسانيَّةِ منَ الإنسانِ.. بشرٌ منْ صَوغِ الإلهِ السَّماويِّ المتَناهي في صِفاتِ عدْلِه وكرمِهِ وجُودِه؟!

هلْ هؤلاءِ الأبالِسةُ وشياطينُ الإنْسِ الّذينَ يَكنُزونَ الثَّرواتِ والمجوهَراتِ، ولا يتَصدَّقُون بكِسرةِ خُبزٍ لإنقاذِ حياةِ الفقراءِ.. بشرٌ يُحْشرونَ معَ خلقِ اللهِ يومَ الحِسابِ، حينَما يُقادُ شياطينُ الجنِّ إلى الجحيمِ، ولمْ تُدركْهم ذاكرتُنا، ولم تَرَهُم مآقِينا إلّا في الأساطيرِ والرِّواياتِ الخياليَّةِ؟!

هلْ هؤلاءِ الحِيتانُ الّذين يَملكُونَ المالَ والسُّلطةَ ويشترونَ أفكارَ المفكِّرينَ الرُّخصاءَ على أنَّها مِن بناتِ أفكارِهم وعُصارةِ إبداعِهم.. بشرٌ أم آلهةٌ أرضيَّةٌ تمرَّدتْ على الذَّاتِ الإلهيَّةِ في السَّماءِ؟!

وفي خِضمِّ استِحواذِ هذهِ الأقانِيمِ الثَّلاثةِ ترقدُ الطَّامَّة الكُبْرى، حيثُ يجتمعُ الثَّالوثُ الشَّيطانيُّ الأكبرُ الّذي لم يرِدْ ذكرُه في شيطانيَّاتِ عالَمِ الجنِّ: السُّلطةُ والمالُ والفكرُ. وفي تفاعلِ هذهِ الأقانيمِ الشيطانيَّةِ يُولَدُ القائدُ المُلهمُ وحكيمُ الأمَّة التَّاريخيُّ الّذي لم تَحبَلْ أيّامُ الدَّهرِ بقرينِهِ منذُ بدايةِ التَّأريخِ الإنسانيِّ، وتُولَدُ الأساطيرُ حولَ هالةِ جبروتِه من رحِمِ الجهلِ والتخلُّفِ الفكريِّ والحضاريِّ والإنسانيِّ، ويُصبِحُ الوطنُ بسمائِه وأرضِهِ ومخلوقاتِه إحْدى إنجازاتِه الّتي لولاهُ ما وُلِد وطنٌ ولا جَرَى زمانٌ.

ولكنَّ التَّاريخَ قدْ يَنخدِعُ بهَذا الثَّالوثِ الشَّيطانيِّ بُرهةً من زمانِه، إلّا أنَّ نواميسَ الطَّبيعةِ قدْ تَكشِفُ أنَّ أكثرَ هؤلاءِ ليسُوا سِوى هرْطقةٍ ميثولُوجيَّةٍ تتساقَطُ حبَّاتُ طلْعِها، حينَما يَنبلِجُ النُّورُ منَ الظَّلامِ، فيَتهاوَى كُرسيُّ العَرشِ المقدَّسِ، وتتبخَّرُ حرارةُ الذَّهبِ، ويَغيبُ وهْجُه وبريقُه، ويُلْقى بذلكَ الفكرِ المُشتَرى في حاوياتِ إعادةِ التَّدويرِ.

إلّا أنَّ فلسفةَ التَّفكيرِ السَّماويَّةِ التي لا تَعرفُ الحدودَ ولا السُّدودَ يُمكنُها أن ترسمَ للعالمِ لوحةً مشرقةً بألوانٍ غيرِ ألوانِ الطَّبيعةِ، كمَا رسمَها جبرانُ خليل جبران في لوحتِهِ الفكريَّة:” نحنُ أبناءُ الكآبةِ وأنتم أبناءُ المسرَّات”.

فهَا هوَ الفيلسوفُ الّذي يَرى في صِراعاتِ الحياةِ واختِلالِ موازينِها وسطْوةِ أثريائِها وحكَّامِها على فِكرِها ووجدانِها وجسدِها رؤيةَ نبيٍّ تُحيلُ التَّعاسةَ والكآبةَ والفقرَ والشَّقاءَ إلى ظلٍّ إلهيٍّ وطُهْرٍ سماويٍّ: ” نحنُ أبناءُ الكآبةِ، والكآبةُ ظلُّ إلهٍ لا يَسكنُ في جوارِ القلُوبِ الشرِّيرةِ. نحنُ ذوو النُّفوسِ الحزينةِ، والحزنُ كبيرٌ لا تسَعُه النُّفوسُ الصَّغيرةُ. نحنُ نَبكي ونَنْتحِبُ أيُّها الضَّاحِكونَ، ومَنْ يَغتَسِلُ بدموعِهِ مرَّةً يظلُّ نقيَّاً إلى نهايةِ الدُّهورِ”. ( )

وتَنْطلقُ سجيَّةُ الإشراقِ والبُعدِ الفلسفيّ في فكرِه مُحيلةً الرَّمادَ إبريزاً خالِصاً، وجواهرَ المعادنِ طيناً عفِناً، والنُّورَ ظلاماً، والظَّلامَ نوراً.. في مُخاطبةِ أصحابِ المسَرَّات: ” أنتُم لا تَعُونَ صُراخَنا لأنَّ ضجيجَ الأيَّام يَملأُ آذانَكم. أمَّا نحنُ فنَسمعُ أغانيَكم لأنَّ همْسَ الَّليالي قدْ فتحَ مسَامِعَنا. نحنُ نَراكُم لأنَّكُم واقِفون في النُّورِ المُظْلمِ، أمَّا أنتُم فلا تَرونَنا لأنَّنا جالِسُون في الظُّلمةِ المُنيرةِ”. ( )

وتتَدفَّقُ فلسفةُ التَّأويلِ والتَّحْويلِ والتَّجميلِ من فكرِ جبرانَ بسواقِيها العذبةِ إلى تجسيدِ لوحةِ الصِّراع بينَ أبناءِ المسرَّات، وهُمُ الأثرياءُ والطُّغاةُ والمستبِدُّون، وبينَ أبناءِ الكآبةِ، وهمُ الفنَّانونَ والموسيقيُّون والشُّعراءُ، في صورٍ طبيعيَّةٍ تُعبِّر عنْ جَمالِ الكآبةِ وقُبحِ المسرَّاتِ: “نحنُ نَتنهّدُ ومعَ تنهُّداتِنا يتَصاعدُ همْسُ الُّزهورِ وحَفيفُ الغُصونِ وخريرُ السَّواقي، أمَّا أنتُم فتَضْحكُون وقَهْقهةُ ضَحِكِكُم تَمتزجُ بسحِيقِ الجَماجمِ وحَرْتَقةِ القُيودِ وعويلِ الهاوية”. ( )

وشتَّانَ بينَ مَن يَسمَعُون همسَ الحياةِ وبينَ ضحِكاتِ مَن حرَمَتْهمُ الطَّبيعةُ مِن كلِّ إحساسٍ نبيلٍ، فدُموعُ هؤلاءِ الفنَّانينَ والشُّعراءِ تنْسكِبُ في قلبِ الحياةِ، أمَّا ابتِساماتُ أولئكَ الأثرياءِ وأصْحابِ العروشِ فمليْئةُ بالسُّخريةِ، وتَسيلُ سُمُوماً من أنيابِ الأفَاعي: ” نحنُ نبْكي ودموعُنا تنْسكبُ في قلبِ الحياةِ مثلَما يتَساقطُ النَّدى من أجْفانِ الَّليلِ في كبِدِ الصَّباحِ، أمَّا أنتُم فتَبتَسِمُون ومنْ جوانبِ أفواهِكُم المبْتسِمةِ تَنْهرِقُ السُّخريةُ مثلَما يَسيلُ سُمُّ الأفْعى على جُرحِ الملْسُوعِ”. ( )

وتتَجلَّى المفارقةُ الفلْسفيَّة بينَ الرُّؤيتينِ: رؤيةِ المُبدعِ فنَّاناً وموسيقيَّاً وشاعِراً، ورؤيةِ الثَّريِّ المتنفِّذِ الجاهلِ النَّاضبةِ منْ كلِّ إحساسٍ إنسانيٍّ بالحياةِ: “نحنُ نبْكي لأنَّنا نَرى تعاسةَ الأرملَةِ وشقاءَ اليَتيمِ، وأنتُم تَضحَكُون لأنَّكم لا تَرونَ غيرَ لمعَانِ الذَّهبِ. نحنُ نبْكي لأنَّنا نسمَعُ أنَّةَ الفقيرِ وصراخَ المظلومِ، وأنتُم تَضْحكُون لأنَّكم لا تَسمعُون سِوى رنَّةِ الأقْداحِ”. ( )

فهَا هوَ جبرانُ المفكِّرُ الفيلسوفُ الّذي لو حَكمَ رومَا، لاستَنارَ الكونُ بفكْرِه وحكمتِه وفلسفتِه، ولتحوَّلتْ نشوةُ النَّصرِ الرُّومانيَّةُ على ممْلكةِ تَدْمرَ إلى أسَىً، لوْ أدركُوا أنَّ التَّاريخَ لعنَهم، وخلَّد تَدْمرَ، وجعلَ مِن أورلْيانوس فرعونَ آخرَ، وصاغَ من قيودِ زنَّوبْيا أُسطورةً يتَغنَّى بها أحرارُ العالمِ.

وها هوَ الفيلسوفُ الّذي يَطلبُ الحُجَّة والبرهانَ من أصحابِ المسرَّاتِ أنْ يضَعُوا أعمالَهم بجانبِ أعمالِ عباقرةِ التَّاريخ في الفنِّ والموسيْقا والشِّعرِ والفكرِ تحتَ أشعَّةِ الشَّمسِ لاختِبارِ أقْواها وأبْقَاها وأخلدِها على لسانِ الدَّهر وفمِ التَّاريخ: “نحنُ أبناءُ الكآبةِ وأنتُم أبناءُ المسرَّاتِ، فهلُمُّوا نضعُ مَآتي كآبتِنا وأعْمالَ مَسرَّاتِكُم أمامَ وجهِ الشَّمسِ”. ( )

فانْظرُوا معَ جبرانَ إلى ما خلَّدَهُ أبناءُ الكآبةِ، وما مَحاهُ الدَّهرُ ممَّا صنعَتْه أيدي أبناءِ المسرَّاتِ: “أنتُم بنيْتُمُ الأهرامَ منْ جماجمِ العَبيدِ، والأهرامُ جالِسةٌ الآنَ على الرِّمالِ تُحدِّثُ الأجْيالَ عنْ خلودِنا وفنائِكم. ونحنُ هدَمْنا الباسْتِيلَ بسَواعِدِ الأحرارِ، والباستِيلُ لفْظةٌ تُردِّدُها الأُممُ فتُباركُنا وتَلْعنُكم”. ( )

وتتَّضِحُ الصُّورةُ أكثرَ وتتبيَّنُ ملامِحُ أصحابِ الكآبةِ، وتتوضَّحُ ملامحُ المستبدِّينَ الّذين شيَّدُوا أمجادَهم على جماجمِ الفقراء: “أنتُم رفعْتُم حدائقَ بابلَ فوقَ هياكلِ الضُّعَفاء، وأقمْتُم قُصورَ نَيْنَوَى فوقَ مدافنِ البؤساءِ، وهَا قدْ أصبحَتْ بابلُ ونَيْنوَى نظيرَ آثارِ أخفافِ الإبلِ على رمالِ الصَّحراءِ. أمَّا نحنُ فقدْ نحَتْنا تِمثالَ عَشْتروتَ منَ الرُّخام، فجعلْنا الرُّخامَ يرتعِشُ جامِداً ويتكلَّمُ صامِتاً، وضرَبْنا النَّهاوَندَ على الأوْتارِ، فاستَحْضرَتِ الأوتارُ أرواحَ المحبِّينَ الحَائمةَ في الفضاءِ، ورسَمْنا مريمَ بالخطوطِ والألوانِ، فغدَتِ الخطوطُ كأفكارِ الآلهةِ والألوانُ كعواطفِ الملائكةِ”. ( )

وتتأجَّجُ أُوارُ فلسفةِ المقارنةِ عندَ جبران؛ لتكشِفَ ما تحتَ الرَّمادِ من حقائقَ لا يَعرفُها إلّا فلاسفةُ المفكِّرينَ، مُقارنةٌ تُوضِّحُ المفارقاتِ بينَ تلكَ الشَّريحَتينِ في البناءِ والهدفِ: “أنتُم تَّتبِعُون الملاهيَ وأظافرُ الملاهي مزَّقَتْ ألفَ ألفٍ منَ الشُّهداءِ في مسَارحِ روميَّةَ وأنطاكيَّةَ. ونحنُ نلاحِقُ السَّكِينةَ وأصابِعُ السَّكِينةِ نسجَتِ الإلياذةَ وسِفرَ أيُّوبَ والتَّائيَّةَ الكُبرى”. ( )

وتأمَّلُوا آثارَ ما اقترفَتْه أيْدي هؤلاءِ الجُناةِ منَ الطُّغاةِ، وما خلَّدتْه خَلْوةُ العَباقِرةِ في وحْدتِهم: “أنتُم تُضاجِعُون الشَّهواتِ وعواصِفُ الشَّهوَاتِ جرفَتْ ألفَ مَوكبٍ منْ أرواحِ النِّساءِ إلى هاويةِ العارِ والفُجُورِ. ونحنُ نُعانِقُ الوحْدةَ وفي ظلالِ الوحدةِ تَجسَّمَتِ المعلَّقاتُ وروايةُ هَمْلِتْ وقصيدةُ دانْتي”. ( )

وانْظُروا إلى الطُّغاةِ الّذينَ أجرَتْ سُيوفُ مَطامعِهم سُيُولاً منَ الدِّماءِ، وإلى المُبدِعينَ الّذينَ رافقُوا الخيالَ فأمطرُوا سماءَهُ مَعرفةً ونُوراً: “أنتُم تُسامِرُونَ المطامِعَ وأسيافُ المطامعِ أجرَتْ ألفَ نهرٍ منَ الدِّماءِ، ونحنُ نُرافِقُ الخيالَ وأيْدي الخيالِ أنزلَتِ المعرفةَ منْ دائرةِ النُّورِ الأعْلى”. ( )

وتتَعالَى فلسفةُ التَّمرُّدِ في لغةِ جبرانَ الثَّائرةِ على كلِّ النَّواميسِ الموروثةِ، وتَنْتفِضُ على أبناءِ المسرَّاتِ حينَ يَصفُهم بصِغارِ النُّفوسِ أمامَ عظَمةِ عباقرةِ الفنِّ والموسيقا والشِّعرِ في قولِه: “نحنُ نُشْفِقُ على صَغَارتِكُم، وأنتُم تَكرهُونَ عظمَتَنا، وبينَ شفقَتِنا وكُرهِكُم يقِفُ الزَّمانُ مُحتاراً بِنا وبِكُم”. ( )

وتزدادُ هوَّةُ التَّناقُضِ غَوْراً بينَ الفِئتينِ في قولِه: “نحنُ ندنُو منْكم كالأصدقاءِ، وأنتُم تُهاجِمونَنا كالأعْداءِ، وبينَ الصَّداقةِ والعداوةِ هُوَّةٌ عميقةٌ مَملوءةٌ بالدُّموعِ والدِّماءِ.

نحنُ نَبْني لكمُ القصورَ وأنتُم تَحْفِرُون لنا القُبورَ، وبينَ جمالِ القَصرِ وظُلمةِ القَبرِ تَسيرُ الإنسانيَّةُ بأقْدامٍ منْ حديدٍ. نحنُ نَفْرشُ سُبُلَكم بالوُرودِ وأنتُم تَغْمُرونَ مَضاجِعَنا بالأشْواكِ، وبينَ أوراقِ الورْدةِ وأشواكِها تَنامُ الحقيقةُ نوْماً عميْقاً أبديَّاً”. ( )

وتصِلُ لغةُ التَّمرُّدِ وفلسفةُ التَّحدِّي عندَ جُبرانَ إلى ذروتِها، فيُهاجمُ أبناءَ المسرَّاتِ هُجومَ العاصفةِ الّتي تُمزِّق أستارَهم المظلِمةَ، وتُحطِّم أهراماتِهم، وتُسقِطُ أساطيرَهم الّتي باتتْ خيالاً، فيتَّهِمُهُم بقتْلِ العباقرةِ الّذين غَدَوا أبطالاً ظافِرين في وجهِ الأبديَّةِ: “قدْ سمَّمْتُم سُقْراطَ ورجَمْتُم بُولُسَ وقتلْتُم غاليلُو.. وهؤلاءِ يَحْيَوْن الآنَ كالأبْطالِ الظَّافرينَ أمامَ وجهِ الأبديَّةِ. أمَّا أنتُم فتَعيشُون في ذاكرةِ الإنسانيَّةِ كجُثَثٍ فوقَ التُّرابِ لا تَجدُ مَنْ يَدفنُها في ظلْمةِ النِّسيانِ والعَدَمِ”. ( )

وفي الخِتامِ أتَمنَّى أنْ أكونَ قدْ وُفِّقْتُ فيمَا قدَّمْتُه من تَحليلِ بعضِ جوانبِ فلسفةِ هَذا الأديبِ الفيلسوفِ الّذي تَجاوزَتُ مُفرداتُ فلسفتِه أُذُنَ الجَوزاءِ، وتَمرَّدتْ عباراتُه على كلِّ مَألوفٍ لُغويٍّ، وثارَتْ أفكارُه حُمَماً تَحرِقُ رُكامَ الجَهلِ والخَوفِ والخُنوعِ.. فكانتْ أفكارُه شُعَلاً أضاءَتْ ظلامَ التَّاريخِ، وأحالَتِ اليأْسَ إلى أَملٍ والقُبحَ إلى جمالٍ، وأزاحَتْ السُّدولَ عنِ الأصنامِ الّتي يَعبدُها النَّاسُ دونَ أن يُدرِكُوا أنَّها الوجْهُ القبيحُ لتاريخٍ يَعجُّ بالتَّناقُضاتِ، ويحمِلُ في أحشائِه أجِنَّةً شوَّهَتْها أوبئَةُ التَّخلُّفِ والجهلِ والاستِسلامِ للأوهامِ.

فتَحِيَّةً مِلْؤُها السَّلامُ لروحِكَ الّتي حمَلَتِ الإنسانيَّةَ على جناحَيْها.. وتحِيَّةً لفكرِكَ الّذي خلَّدَ ذكْراكَ رغمَ فناءِ الجسدِ..

وتحيَّةً لكلِّ مَن أضاءَ بفكرِه ظلامَ الحياةِ، وأوقدَ بعزيمتِه وشجاعتِه مشاعلَ الحرِّيةِ والإنسانيةِ..

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

تعليقات