الحرّيّةُ والعبوديّةُ

معاني الحرّيّةِ

الحرّيّةُ هي القدرةُ على التّصرُّفِ بمِلءِ الإرادةِ والخَيارِ، والإنسانُ الحرُّ هو الإنسانُ غيرُ المقيَّدِ بأيٍّ من القيودِ المادّيّةِ، وغيرُ المملوكِ لأحدٍ، وهو الكريمُ في نسَبِه الخالصِ في إنسانيَّتِه الّتي لا تُعكّرُ صفوَها شائبةٌ. (معجم الرّائد اللّغويّ)

وتعدَّدَ مَعْنى الحرّيّةِ اصطِلاحاً نتيجةَ الاختلافِ في الآراءِ والاتّجاهاتِ الفكريّةِ: فالحرّيّةُ في الفقهِ الإسلاميّ: هي قدرةُ الأفرادِ على التّصرُّفِ على خيرةٍ من أمرِهم دونَ الإضرارِ بالغيرِ.

ووردَ تعريفُ الحرّيّةِ في الإعلانِ العالميِّ لحقوقِ الإنسانِ الّذي صدرَ عامَ 1789م على أنّها حقُّ الفردِ في أن يفعلَ ما لا يضرُّ بالآخرينَ.

وفي الأدبِ العربيّ والإسلاميِّ نرَى ثمّةَ أقوالاً كثيرةً جاءَت في تعريفِ الحرّيّةِ، وبيانِ ماهيتِها وأهمّيتِها وأنواعِها وآثارِها في الحياةِ، فمِمّا جاءَ في الحرّيّةِ قولُ أميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي في نكبةِ دمشقَ، حينَ قصفَ المستعمِرُ الفرنسيُّ أحياءَها، فقدْ عبّرَ عن أهمّيّةِ الشّهادةِ في سبيلِ الدّفاعِ عن الأوطانِ، واستردادِ الحقوقِ المسْتلَبةِ، فدماءُ الشُّهداءِ هي حياةٌ للأجيالِ القادمةِ، وقيودُ الأسْرى هي حرّيّةٌ لكلِّ مَن يَأتي بعدَهم، ويرَى شوقي أنَّ الحرّيّةَ مُخضَّبةٌ بالدّماءِ، لا يمكنُ أن يدقَّ أبوابَها إلّا تلكَ السّواعدُ الأبيّةُ الّتي نذَرَت نفسَها للتّضْحيةِ:

وَمَن يَسْـــــــقي وَيَشْــــــــــــرَبُ بِالمَنايا

إِذا الأَحرارُ لَم يُسْقَوا وَيَسْقُوا

وَلا يَبْــــــني المَمـــــــــالِكَ كَالضَّحَـــايا

وَلا يُدْني الحُقُــــــــــوقَ وَلا يُحِــــــــــقُّ

فَفي القَـــتْلى لِأَجيــــــــــــالٍ حَيـــــــــــــاةٌ

وَفي الأَسْــرى فِــــدىً لَهُمُ وَعِتْقُ

وَلِلحُــــــــــــــــــــرِّيَّةِ الحَمــــــــــــــــــراءِ بــــــــــابٌ

بِكُلِّ يَـــــــــــــــــدٍ مُضَـــــــــــــــــــرَّجَةٍ يُــــــــــــــدَقُّ

وها هو أَبْو حَامِدْ مُحَمّد الغَزّالِي العالمُ والفيلسوفُ والفقيهُ الإسلاميُّ يرى أنّ الحرّيّةَ، وإن كانتْ محفوفةً بالألمِ، فهي أنبلُ وأسْمى من العبوديّةِ، ولو كانتْ كؤوسُها مُترعةً بالسّعادةِ والرّفاهيةِ: “الحرّيّةُ مع الألمِ أكرمُ من العبوديّةِ معَ السَّعادةِ”.

أمّا شيخُ المناضِلينَ عُمرُ المختارِ الّذي ضربَ المثلَ الأعْلى في الشّجاعةِ والرّجولةِ، بالرّغمِ من بلوغِه سنَّ الشّيخُوخةِ في مقارعةِ المستعمرِ الإيطاليِّ لبلدِه ليبيا، فإنّه يرى أنَّ الإيمانَ بحقِّه في الحرّيّةِ وحقِّ بلادِه في الحياةِ هو أقْوى وأعْتى من كلِّ سلاحٍ: “إنّني أؤمنُ بحقّي في الحرّيّةِ، وحقِّ بلادي في الحياةِ، وهذا الإيمانُ أقْوى من كلِّ سلاحٍ”.

وها هو المفكّرُ الإسلاميُّ الكبيرُ مصطفى محمود يصنِّفُ النّاسَ إلى صنفينِ في موقفِهم من الحرّيّةِ: صنفٍ يناضلُ ويضحّي بحياتِه في سبيلِ نيلِها، وصنفٍ خانعٍ ذليلٍ يطالبُ بتحسينِ شروطِ العبوديّةِ، كما أنّ الخرافَ قانعةٌ بسكاكينِ الجزّارينَ، ولكنْ ليسَ لها من أمنيةٍ إلّا أن تكونَ شِفارُ المِدَى حادّةً؛ كي لا تشعُرَ بالألمِ: “هناكَ مَن يُناضِلُون من أجلِ الحرّيّةِ، وهناكَ مَن يُطالبُون بتحسينِ شروطِ العبوديّةِ”.

أمّا المفكّرُ الإسلاميُّ الكبيرُ جمالُ الدّينِ الأفغانيُّ، فإنّه يرى أنَّ مَن رانَ عليهِ الذُّلُّ والهوانُ، فهؤلاءِ همُ العبيدُ الّذين يهربُون من الحرّيّةِ، فإنْ تخلّى عنهُم سيّدُهم، بحثُوا عن سيّدٍ آخرَ، وحالُ الأمّةِ كتابٌ مفتوحٌ تقرأُ في أوّلِ عناوينِه حكمةَ الأفغانيِّ: “العبيدُ همُ الّذين يهربُون من الحرّيّةِ، فإذا طردَهم سيِّدٌ، بحثُوا عن سيّدٍ آخرَ”.

لكنّ المفكّرَ العربيَّ مصطفى السِّباعيّ يَرى أنَّ صوتَ الحرّيّةِ يختنِقُ، وأنّ معالمَ الحقيقةِ تغرقُ في ظلماتِ الخُنوعِ، حينَما يعلُو ضجيجُ الطُّبولِ، ويتّسعُ صخَبُ المواكبِ في تمْجيدِ الطُّغاةِ والتَّغنّي بأمجادِهم الزّائفةِ: “في ضجيجِ الطُّبولِ تختنِقُ أصواتُ الحرّيّةِ، و في صخَبِ المواكبِ تُطمَسُ معالمُ الحقيقةِ”.

وأمّا في الأدبِ الغربيِّ فإنّنا نقفُ على معانٍ أُخرى من معَاني الحرّيّةِ تَفيضُ دُرراً على ألسِنةِ المفكّرين والفلاسفةِ والأدباءِ، فمِن ذلكَ ما نراهُ في قولِ جان جاك روسّو، إذْ يرى أنَّ ما يملكُه الإنسانُ من مالٍ هو وسيلةٌ لتحريرِه من التّبعيَّةِ للآخرينَ، وجعلِه حرّاً لا يمكنُ استعبادُه بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، أمّا المالُ الّذي يسْعى لامتلاكِه، فقد يجعلُه عبداً لهُ وطريقاً لاستعبادِ الآخرينَ له: “إنّ المالَ الّذي في يدِك هو وسيلةٌ إلى الحرّيّةِ، و أمّا المالُ الّذي تسْعى إليهِ، فهو طريقُ العبوديَّةِ”.

ويرى عالمُ النّفسِ والطّبيبُ السُّويديُّ سيغمُوند فرويْد أنّ أغلبيّةَ البشرِ يَنفُرونَ من الحرّيّةِ؛ لأنّها مسؤوليّةٌ، وهؤلاءِ يتخوَّفُون من تحمُّلِ المسؤوليّةِ: “معظمُ النّاسِ لا يريدونَ الحرّيّةَ حقّاً؛ لأنّ الحرّيّةَ تنْطوي علَيها مسؤوليّةٌ، ومعظمُ النّاسِ خائِفُونَ من المسؤوليَّةِ”.

ويذهبُ بعضُ المفكّرين والأدباءِ الغربيّينَ إلى أَسْمى معَاني الحرّيّةِ، حينَما يرونَ أنّ الحرّيّةَ وطنٌ وحياةٌ وفضيلةٌ وخيرٌ ، ولولاهَا لانتَفى الانتِماءُ إلى الوطنِ، ولفقدَتِ الحياةُ معنَاها الإنسانيَّ، ولضاعَت قيمُ الحقِّ والخيرِ والفضيلةِ:

– “حيثُ تكونُ الحرّيّةُ يكونُ الوطنُ”. بنجامين فرانكلين

– “الحرّيَّةُ هي الحياةُ، و لكنْ لا حرّيّةَ بلا فضيلةٍ”. فيكتور هوغو

– “الحرّيّةُ خيرٌ يُمكِّنُنا من التَّمتُّعِ بسائرِ الخيراتِ”. مونتسْكيو

معاني العبوديّةِ

العبوديّةُ لغةً: هي مصدرٌ للفعلِ عبَدَ، فعبَدَ يعبُدُ، وعِبادةً وعبوديّةً، فهو عابدٌ، وعبَدَ اللهَ وحدَهُ أيْ أطاعَهُ وانقادَ لهُ والتزمَ بشرائعِهِ، وأدّى فرائضَه. فالعبوديّةُ لغةً تدلُّ على التّذلُّلِ والخُضوعِ والانقِيادِ.

والعبوديّةُ اصطِلاحاً هي التّذلّلُ للهِ تعَالى والخضُوعُ والانقيادُ لهُ، والوقوفُ عندَ حدودِه، وامتثالُ أوامرِه واجتنابُ نواهيهِ.

وللعبوديّةِ في الأدبِ والفكرِ معانٍ عديدةٌ، من ذلكَ ما نراهُ في قولِ جبرانَ خليل جبران، إذ يرى أنّ الّذينَ لا يُفضِّلون المنْفى على حياةِ الذّلِّ والعبوديّةِ، لا يستحِقُّون أيَّ قدْرٍ من الحرّيّةِ والحقيقةِ والواجبِ: “مَن لا يُفضّلُ المنْفى على العبوديّةِ لا يكونُ حرّاً بأيِّ قدرٍ من الحرّيّةِ والحقيقةِ والواجبِ”.

ويقارنُ جبرانُ بينَ الرّجلِ والمرأةِ من حيثُ سلوكُ كلٍّ منهما لامتلاكِ الآخرِ، فإذا بالمرأةِ تسلكُ طريقَ العبيدِ كي تسودَ الرّجلَ وتُحكِمَ قيادَه، وأمّا الرّجلُ، فإنّه يسلُكُ طريقَ الأسيادِ، لكنّه لا يجِدُ نفسَه إلّا عبداً تستعبِدُه المرأةُ وتُسيّرهُ كما تشاءُ: “تسلكُ المرأةُ طريقَ العبيدِ لتسودَ الرّجلَ، ويسلكُ الرّجلُ طريقَ الأسيادِ لتَستعبِدَه المرأةُ”.

ويَرى كورنِيل ويسْت أنَّ الإنسانَ الّذي لا يهابُ الموتَ، ويُضحّي بروحِه هو مَن يأْبَى العبوديّةَ: “مَن يتعلّمُ الموتَ يُنكرُ العبوديّةَ”.

أمّا فيكتور هوغُو فيَذهبُ إلى أنّ العقلَ المفكّرَ والواعي لا يُمكنُ أن يُستعبَدَ: “لن يكونَ هناكَ عبوديّةٌ للعقلِ”.

ويَرى الزَّعيمُ والمفكّرُ الهنديُّ المهاتْما غانْدي أنّ المجتمعاتِ البشريّةَ تستطيعُ التَّخلُّصَ منَ العبوديّةِ إذا ما استطاعَت التَّغلُّبَ على الجمودِ العقليِّ والجسديِّ، وذلكَ بتسريعِ ذكاءِ أبنائِها وقدراتِهم الإبداعيّةِ: “لإنهاءِ العبوديّةِ، يجبُ التَّغلّبُ على الجمودِ العقليِّ والجسديِّ للجماهيرِ وتسريعُ ذكائِهم وقدرتِهم الإبداعيّةِ”.

أمّا خُورخي لويْس بورجِيس فيَرى أنّ الدّكتاتوريّاتِ هي الّتي تُنمّي الاضْطِهادَ، وتَرعى العُبوديّةَ، وتُغذّي القسْوةَ، وتَصنعُ الحماقةَ: “فالدّكتاتوريّاتُ تُغذّي الاضْطِهادَ، وتَرعَى العبوديّةَ، وتُغذّي القسْوةَ، والأكثرُ بشاعةً أنّها تُغذّي الحماقةَ”.

أمّا أنا فأقُولُ:

– الكلِمةُ الوحيدةُ الّتي ترتعِدُ منها الأنظمةُ الاستبداديّةُ القمعيّةُ هي (الحرّيّةُ).

– الكلمةُ الّتي تَنبُضُ بكلِّ معَاني الحياةِ هي (الحرّيّةُ).

– حياةٌ بلا حرّيّةٍ مقبرةٌ لا تقْبَلُ إلّا الأمْواتَ.

– إنّ أكثرَ مَن يهابونَ الحرّيّةَ همُ العبيدُ الّذينَ منحَتْهم الحياةُ مراكزَ صناعةِ القرارِ.

– العبيدُ الّذين ملكُوا قيادَ المجتمَعاتِ يخْشَونَ كلمةَ الحرّيّةِ أكثرَ من خَشْيتِهم عدوَّهُم الحقيقيَّ.

– العبيدُ الّذين وُظّفُوا خدَماً للعروشِ يَخشَونَ شُعاعَ النّورِ عندَ الصّباحِ، وهبوبَ النّسيمِ حينَ المساءِ، و صوتَ البلابلِ في الحقولِ، و خريرَ المياهِ في الجداولِ، و مناغاةَ الطّفولةِ في مُهودِها.

– ليس في العالمِ من كلمةٍ أُسيءَ استخدامُها وفهمُها، كما استُخدمَتْ وفُهِمَت كلمةُ الحرّيّةِ!

– البشريّةُ – منذُ ولادتِها وهي تسْعَى لتحقيقِ مفهومِ الحرّيّةِ – لم تستطِعْ أن تَفهمَ المعنَى الحقيقيَّ لهذِه الكلمةِ، وإنّما كانَت على مرِّ عصورِها تتَغنَّى بها دونَ أيّةِ رغبةٍ في الوصولِ إلى مَعْناها الحقيقيِّ الّذي إنْ تحقَّقَ، انتصرَ الخيرُ على الشّرِّ، والعدلُ على الظّلمِ، والسّلمُ على الحربِ، والجمالُ على القُبحِ، والذّكاءُ والفِطنةُ على البلاهةِ والتّفاهةِ!

– خلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ البشريّةَ أحْراراً، ولكنّ الّذين صنعُوا العبوديّةَ همُ البشرُ!

– خلقَ اللهُ سبحانَه وتعَالى الإنسانَ حرّاً بفكرِه، ولكنّ الّذين مثّلُوا شرائعَ السّمواتِ استَعبدُوا البشريّةَ كما استعبدَتْها آلهةُ الأرضِ!

– الحرّيّةُ غذاءُ الفكرِ، وشموعُ المبدعينَ، وصولَجانُ السُّموِّ الحضاريّ، وتِرياقُ النّهضةِ والتّقدُّمِ والرّقيّ.

– من أفانينِ الحريّةِ تُورِقُ الحياةُ، وتُزهرُ أمجادُ الأممِ، وتتنسَّمُ البشريّةُ أنفاسَ البقاءِ والخلُودِ.

– من شُموخِ الجبالِ تتدفّقُ ينابيعُ الحرّيّةِ، وتتَسامَى مُروجُ الحياةِ الخضْراءِ جمالاً ونضَارةً وعطاءً.

أيّتُها الحرّيّةُ

– لماذَا لا تَقتلِعينَ بذورَ العبوديّةِ من نفوسِ الخانعينَ؟

– لماذا لا تدكّينَ أسوارَ السّجونِ والزّنزاناتِ بالنّارِ والحديدِ، وتُطْلقينَ أسرَ الأحرارِ من غياهبِ القهرِ والاستعبادِ؟

– لماذا لا تحطّمينَ غرورَ المتجبّرينَ الّذين لا يلذُّون بطعمِ الحياةِ إلّا بقهرِ الأحرارِ والاستعلاءِ على الفقراءِ والمستَضعفينَ؟

– لماذا لا تنهالينَ شهُباً سماويّةً تُحرقُ عروشَ الطّغاةِ الّذين أحالُوا الحياةَ إلى جحيمٍ لا يُطاقُ؟

– لماذا لا تهبِطينَ وحْياً سماويّاً على أفئدةِ المغفَّلينَ والخانعينَ؛ لتمنحِيهم قوّةَ الإرادةِ والعزيمةِ لدحرِ الوحوشِ الآدميّينَ؟

– لماذا لا تثُورينَ حُممَ براكينَ تُحرقُ الأرضَ تحتَ أقدامِ فراعنةِ البشريّةِ الّتي أصبحَت آلهةً يَطوفُ حولَها الطَّائفُونَ من كلِّ ملّةٍ ونِحلةٍ؟

– لماذا لا تثُورينَ أعاصيرَ عزٍّ وإباءٍ في وجوهِ شياطينِ العالمِ الّذين أفْسدُوا الأرضَ ظُلماً وظلاماً وهلاكاً ودمَاراً؟

– كُوني شمْساً تشرقُ في عيونِ الحالمينَ أشعّةً من نورِ الحقِّ والعدلِ.

– كوني شمساً تُدغدغُ أحلامَ الطّفولةِ البريئةِ بأنوارِ البراءةِ والنّقاءِ والطُّمأنينةِ والسّعادةِ والمحبّةِ والسّلامِ.

– كوني شمساً تملأُ الكونَ ضياءً ودفْئاً؛ ليعيشَ العالمُ في جنانِ الخُلدِ.

– كوني شمساً تملأُ الكونَ بهاءً يستحِمُّ بأنوارِكِ الشّرفاءُ ويتنشّفُ بأشعّتِكِ صنّاعُ الحياةِ الّذين وهبُوا البشريّةَ ما ملكَتْ نفوسُهم من أجلِ رقيِّها وسموِّها وسعادتِها.

– كوني قمراً يُضيءُ دياجيرَ النُّفوسِ الّتي أطفأَتْ شُموعَها ليالي القهرِ والفقرِ والحرمانِ.

– كوني قمراً تعشقُكِ أحلامُ البشريّةِ كما تعشقُ جمالَ المرأةِ وسحرَ الطّبيعةِ.

– كوني قمراً يتسامرُ على أضوائِه مفكّرُو العالمِ الّذين غيَّبَت أفهامَهم لعنةُ العبوديّةِ لطواغيتِ المالِ والجاهِ والقوّةِ.

– كوني قمراً يتغزّلُ بكِ الشُّعراءُ والأدباءُ ليُخلّدُوا قصائدَكِ ملاحمَ فخرٍ وعزّةٍ وكبرياءَ لا أناشيدَ عبوديّةٍ تُزمجِرُ بها طبولُ الجهلِ والانحِدارِ والسُّقوطِ.

– كوني أعاصيرَ تدمّرُ مواخيرَ الطّغاةِ، وتقتلِعُ حصونَ أبراجِهم المشيَّدةِ على جماجمِ الشّرفاءِ والأحرارِ، وتُكسّرُ مخالبَهم الّتي تُشوّهُ كلَّ معالمِ جمالِ الإنسانيّةِ.

– كوني أعاصيرَ تحصُدُ رؤوسَ المستبدّينَ وتُلْقِيهم في غياهبِ الحياةِ حتّى تتطهَّرَ الدُّنيا من رجسِ بشاعتِهم وقذارةِ آثارِهم من صفحَاتِ تاريخِ الأممِ والشّعوبِ.

– كوني نسيماً تتهادَى الإنسانيّةُ بسحْرِ لمساتِه، فتَغفُو على راحةِ كفِّ الحياةِ طِفلةً؛ لتستيقِظَ على صدرِ التّاريخِ حوريّةً تملأُ الدُّنيا سِحراً ورقّةً وجَمالاً.

– كوني حروفاً أبجديّةً يتذوّقُ بكِ العبيدُ لذّةَ المعَاني وحلاوةَ المغَاني ونقاوةَ العزّةِ والكبرياءِ.

– كوني حروفاً أبجديّةً ينطقُ بكِ المتلعثِمُون بحروفِ الحقِّ والعدلِ والجمالِ وكلِّ الكلماتِ الّتي تسمُو بالإنسانيّةِ إلى عالمِ الملائكةِ.

– كوني حروفاً أبجديّةً تخلّدُ أناشيدَ بطولةِ الأحرارِ ملاحمَ عزّ وفخارٍ تعزفُ معانيَها وألحانَها أناملُ الدّهرِ سمفونيّاتٍ تُحْيي نفوسَ المقهُورينَ وتَنْتَشي بها أحلامُ الحالمينَ بنعيمِ الحياةِ كما أرادَها الخالقُ لخلقِه في نعيمِ السّماءِ.

– كوني فجْراً تتَغنّى فيهِ النّفوسُ العظيمةُ بمقُولةِ الفاروقِ عمرَ بنِ الخطّابِ (متى استعبدْتُم النّاسَ وقد ولدَتْهم أمّهاتُهم أحراراً؟!) كما تُرتّلُ آياتِ صلَواتِها تقديساً لعظمةِ اللهِ وتنزيهاً لعبوديّةِ الإنسانِ للخالقِ لا للإنسانِ!

– كوني فجراً تتغنّى فيكِ الطّيورُ وتُحلّقُ في الفضاءِ دونَ أن تعبَثَ بحياتِها بنادقُ المجرمينِ.. كوني فجراً تتغنّى فيهِ جميعُ المخلوقاتِ بالمحبّةِ والوئامِ والسّلامِ، لا ليلاً تُحيلُه قنابلُ مصَّاصي الدّماءِ إلى نهارٍ من البُؤسِ والخرابِ والدّمارِ والبشاعةِ والوحشيّةِ والهمجيّةِ.

– كوني عطاءً حقيقيّاً يتَغنّى بسخائِه الشُّعراءُ، ولا تكُوني زُخرُفاً يذمُّه عباقرةُ الشّعراءِ من الأحرارِ، ليقُولُوا فيكِ ما قالَهُ فيلسوفُ الكلمةِ الحرّةِ الشّاعرُ الكبيرُ محمّدُ الماغوط:

“ماذا نفْعلُ عندَ هؤلاءِ العرَبِ من المحيطِ إلى الخليجِ؟

لقد أعطَوْنا السّاعاتِ وأخذُوا الزّمنَ

أعطَونا الأحذيةَ واخذُوا الطُّرقاتِ

أعطَونا البرلماناتِ وأخذُوا الحرّيّةَ

أعطَونا العطرَ والخواتمَ وأخذُوا الحبَّ

أعطَونا الأراجيحَ وأخذُوا الأعيادَ

أعطَونا الحليبَ المجفَّفَ واخذُوا الطّفولةَ

أعطَونا السّمادَ الكيماويَّ واخذُوا الرّبيعَ

أعطَونا الجوامعَ والكنائسَ وأخذُوا الإيمانَ

أعطَونا الحرّاسَ والأقفالَ وأخذُوا الأمانَ

أعطَونا الثّوّارَ وأخذُوا الثّورةَ “.

فتَعالَي أيّتُها الحرّيّةُ وأطِلّي كما تشَائينَ، فلربّما نعيشُ أيّاماً ونَعرفُ معانيكِ الحقيقيّةَ في عالمٍ كلُّه غابةٌ، فيها تعبَثُ الأسودُ الضّاريةُ بحياةِ الملايينَ، وفيها يحكُمُ الذّئابُ والثّعالبُ قِطْعاناً من الحِملانِ والأرانبِ، وفيها تُقامُ مسالخُ البشريّةِ على أنغامِ الطُّبولِ وألحانِ الموسيقَا وبخُورِ قُدّاسِ السّماواتِ! 

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات