صراعُ الأضداد- الوطنُ والغربةُ -1

في مرآةِ الأدباءِ والمفكّرين

أ‌- الغربة عن الوطن

حينَما يحوّلُ الطُّغاةُ الوطنَ إلى مزرعةٍ خاصّة أو ثكناتٍ عسكريّةِ لحمايةِ العرش، فالغربةُ أجملُ، والمنفَى أرحمُ، وحينَما يتحوّلَ الشّعبُ بأكملِه إلى خدمٍ تحت إمرةِ مجموعةٍ من اللّصوص والمرتزقةِ، يموتُ الإحساسُ الجميل بالوطنٍ في النُّفوس، وحينَما ينجح الدّكتاتورُ في اختزالِ وطنٍ – بكلِّ تاريخِه وحضارتِه وشعبِه وثرواتِه- في شخصِه، صانعاً من ذاتِه إلهاً، فاعلمْ أنَّ الوطنَ سجنٌ كبير، وحينَما يتحوَّل الوطنُ إلى شعاراتٍ وأناشيدَ بلا معنىً يبحثُ الإنسان عن مكانٍ يشعر فيه بالحقيقةِ حتّى لو كانت مرّةً، ويحقّقُ له شيئاً من الوجود ولو كان كأساً من العلْقم.

الوطنُ الّذي يسلبُكَ حرّيّةَ الكلمةِ، ويُصادر أحلامَك الجميلةَ، ويقتل أدنى طموحاتِك، ليس سوى حظيرةٍ للتّدجين.

الوطن جميلٌ بمواطنيهِ، ورائعٌ بمُخلِصيه، وجنّةٌ بشرفائِه، وعالمٌ مثاليٌّ بمفكّريه، ونعيمٌ سرمديٌّ بأحرارِه، وما السّماءُ والأرضُ والبحر سوى سجِلٍّ يخطُّ فيه هؤلاءِ مآثرَهم وأمجادَهم وتاريخَ حضارتِهم الإنسانيّة.

الإنسانُ الصّالح في بلدانِ القمع والأنظمةِ الدّكتاتوريّة بكلِّ أنواعِها هو كائنٌ حيٌّ يتنفَّسُ الهواءَ دون أن يفكّرَ أو يتكلَّمَ أو يعترضَ، وإن فكّرَ أو تكلَّم أو اعترضَ، قُطِع عنه الأوكسجينُ..

مهما كانتِ الغربةُ جميلةً ومريحة ومحفوفةً بالنِّعم، إلّا أنّها لا يمكنُ أن تمسحَ من ذاكرتِك وذكرياتكَ أعذبَ وأنقى أيّامِ الطّفولة، ولو كانت منسوجةً من خيوطِ الفقرِ والحرمان، ولا يمكنُ أن تُنسيكَ أيّامَ الصِّبا ولو كانت مسرودةً من حبالِ الشّقاء والهمجيّةِ النّابعة من عنفوانِ الشّباب.

لا يمكنُ لأحدثِ الشّققِ المرفّهةِ بكلّ مستلزماتِ الرّاحة أن تقتلعَ من ناظريكَ جمالَ ذلك البيتِ التّرابيّ القديمِ بحجارتِه وطينِه وأخشابِه ومصطبتِه الّتي تعرِّشُ فوقها داليةُ العنبِ، وفنائِه الّذي تتربّعُ عرشَه شجرةُ توتٍ.. وتموجُ تحتَها حياةٌ بأبهى صورِها، بقرةٌ هنا، وحمارٌ هناكَ، وماشيةٌ ها هُنا، وسربٌ من الطّيورِ المدجنّةِ هنالِك، وسورٌ مسيّجٌ بالأشواكِ تتراقصُ العصافيرُ فوقَه، وأراجيحُ طفولةٍ تمورُ بهجةً وحبوراً.. والكلُّ يُغنّي في جوقةٍ متآلفةٍ تلقِّنُ العالمَ بأسرِه أجملَ دروسٍ في الوطنِ والوطنيَّة.

ولا يمكنُ لبريق الذّهبِ والألماس والكؤوسِ المطرّزة بالياقوتِ والأكِلّةِ والسُّتور المزركشةِ بأبهى أنواعِ التّطريز، أن تُنسيكَ بريقَ المعولِ وسكّةِ حديدِ المحراثِ في موسمِ الحراثة، ولمعانَ المناجلِ في موسمِ الحَصاد، وحرارةَ كؤوسِ الشّايِ بين أحضانِ موقدةِ الشّتاء، وتسلُّلَ أشعّةِ الشّمسِ الذّهبيّة من بينِ وريقاتِ العريشةِ، وعيونُنا تتأمّلُ عناقيدَ العنبِ وهي تتدلّى مثلَ أثداءِ المرضعةِ حين زقزقةِ العصافير.

لا يمكنُ للغربةِ مهما أسرَت لبّكَ بجمالِ شوارعِها وشهُوقُ أبراجِها وروعةِ حدائقِها أن تنسيكَ التّاريخَ بين تلكَ الأزقّةِ القرويّةِ المفعمةِ بالنّدى وشذَى الأزهار وهي تتراقصُ من حولِك، وتلكَ البيوتَ من الحجارةِ والطّين وهي تهمسُ إلى المارّين بأبجديّةٍ لا يفهمُها إلّا الأدباءُ، وتلكَ البساتينَ والحقولَ الّتي ترتَدي أبْهى ملابسِ العروسِ في ليلةِ زفافِها، فتأسرُك للرّاحةِ والخلودِ بين ذراعَيها.

ولا يمكنُ للغربةِ مهما منحَتْك دفئاً بنعيمِ الحياة وشحنَتكَ بحرارةِ الثّراء، ومدّتْ إليك سواعدَ الهمّةِ والنَّشاط.. أن تقتلعَ من أعماقِكَ دفءَ وحرارةَ قلبينِ عظيمينِ ما تناسلَا بالمحبَّةِ على فراشٍ وطنيٍّ من الحصير، إلّا ليُشِيدا صرحاً عظيماً فيهِ دفءٌ ما بعدهُ دفءٌ، وفيه ثراءٌ ونعيمٌ لا يفوقُه إلّا ثراءُ نعيمِ السّماء، وفيه نشاطٌ وحيويّةٌ تعجزُ عن وصفِهما كلماتُ الشُّعراء.

فهل مِن فيلسوفٍ أو أديبٍ أو مفكّرٍ في العالمِ يستطيعُ أن يُعرّفَ الوطنَ بغيرِ ما قدَّمتُ؟ وهل مِن منظِّرينَ في مفهومِ الوطنيّة أو تجَّارِ الشّعاراتِ الوطنيَّة يستطيعُون أن يلقّنُونا دروساً في الوطنيّة بأكثرَ ممّا باحَت بمعانيها كلماتُنا المتواضعةُ نابعةً من الفكرِ والقلْب؟!

1- تعريفُ الوطن

يختلف مفهومُ الوطن عند الأدباءِ والمفكّرين، وهذا الاختلافُ نابعٌ من تنوّعِ الرّؤية وبُعدِ الفكر في تناول موضوعاتِ الحياة، وناتجٌ عن الظّروفِ السّياسيّةِ أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة الّتي عاش في ظلّها هذا الأديبُ أو ذاك المفكّرُ، وهذا التّباينُ في تعريف الوطنِ ينسحبُ على عامّةِ النّاس وخاصّتهم، فتعريفُ الوطنِ عند الأثرياءِ غيرُ مفهومِ الوطن في قلوبِ البائسين والفقراءِ، وفلسفةُ الوطن في نظر اللّصوصِ الكبار الّذين يسرقون مواردَ الوطن ويسكنُون في قصورٍ فارهة غيرُ فلسفةِ الجائعين الّذين أنهكتْهم عواصفُ الرّياحِ والمطر في أكواخٍ أو خيم، وآلمهم الحرمانُ من كسرةِ خبزٍ أو حبّةِ دواء، والوطنُ في عيونِ الانتهازيّين والخونةِ والعبيد غيرُ الوطنِ في فكر المخلِصين والشّرفاءِ والأحرار.

فالوطنُ في فكر المفكّر والأديبِ اللّبنانيّ الفذّ ميخائيل نُعَيمة ليس أكثرَ من عادةٍ، والبشرُ عبيدُ عاداتهم، ولأنّهم عبيدُ عاداتهم تراهُم قسمُوا الأرضَ إلى مناطقَ صغيرةٍ يدعُونها أوطانَهم.

والوطنُ في فلسفةِ الشّاعر الفلسطينيّ الكبير محمود درويش الّذي اغتُصبَ وطنُه وشُرّدَ شعبُه هو الشّوقُ إلى الموت من أجل استرجاعِ الحقِّ والأرض. وليس الوطنُ أرضاً فحسْبُ، وإنّما هو الأرضُ والحقُّ معاً، فالحقُّ مع صاحبِ الأرض، ولكنّ الأرضَ بيد المحتلِّ.

ويختلف مفهومُ الوطن في أدبِ الشّاعر العراقيِّ الكبير أحمد مطر عن المفهومِ الشّائع في الفكر الجمعيِّ القائم على الفناءِ في سبيل الوطن، دون نظرٍ عميق إلى الإنسان الّذي أتعسَهُ الوطنُ، فيتساءل الشّاعر: “نموت كي يَحيا الوطنْ، يحيا لمنْ؟!! من بعدنا يبقى التّرابُ والعفَنْ. نحن الوطنْ”. وأيُّ وطنٍ نموت في سبيلِه ليَحيا؟ “إن لم يكن بنا كريماً آمناً ولم يكن محترماً ولم يكن حرّاً فلا عِشْنا.. ولا عاشَ الوطنْ”.

والوطنُ في فكر شاعرِنا الكبير نزار قبّاني “هو مجموعةُ عواطفِ مَن يسكنُونه ومجموعةُ أفكارِهم، ومجموعةُ خياراتهم ومجموعةُ حرّيّاتهم، وحين يقفُ الوطن ضدَّ مشاعرِ مُواطنيه، وضدَّ عواطفِهم، وضدَّ أفكارهم، وضدَّ شؤونِهم الصّغيرة، فإنّه يتحوّلُ حينئذٍ إلى قاووشٍ كبير للسُّجناء”.

والوطنُ في فكر الأديبِ المصريّ الكبير أدهم الشّرقاوي ليس قطعةَ أرضٍ كما تدرّسُه مناهجُ التّربية الّتي فشِلتْ في تأصيلِ وجود الإنسانِ في هذا الوطنِ الّذي أصبح بأرضِه وشعبِه مزرعةً يملكُها شخصٌ واحد: “في حصّة واحدةِ أقنَعني مدرّسُ التّربية أنّ قطعةَ الأرض هذه اسمُها وطنٌ! وأنا فشلتُ على مدى ثلاثينَ عاماً بإقناع هذا الوطنِ أنّي إنسانٌ. الوطنُ بحسبِ لسان العربِ الطّويلِ والمعاصر: قطعةُ أرضٍ ومجموعةُ ناسٍ يملكُهم شخصٌ واحدٌ”.

ويرى أوليفر وندل هولمز أنّ الوطنَ “هو المكانُ الّذي نحبُّه، وهو المكانُ الّذي قد تفارقُه أقدامُنا، لكنّ قلوبَنا تظلُّ فيه”.

ويرى الشّاعرُ غازي القُصيبيّ أنّ الوطن “هو رغيفُ الخبزِ والسّقفُ والشّعور بالانتماءِ والدِّفءُ والإحساسُ بالكرامة”.

وقد عرّف أريستوفان المؤلّفُ المسرحيّ اليونانيُّ الوطنَ بأنّه هو المكانُ الّذي يكون فيه الإنسانُ بخيرٍ وازدهار: “الوطنُ هو حيثُ يكون المرءُ في خيرٍ.. وطنُ الرّجلِ أينما يزدهرُ.. أينما رُزقَ الإنسانُ فذلكَ موطنُه”.

2- الوطنُ والانتِماء

حينما يكون الوطنُ حرّاً أبيّاً يحيا أبناؤهُ في ظلالِ نعيمِ الحرّيّةِ والإباء، وحينما يُحتلُّ الوطنُ، أو يصبحُ مزرعةً خاصّة لإقطاعيٍّ مجهولِ الهُويّة، أو يغدو مَجْمعاً من الهرطقةِ لثلّةٍ من الجهلةِ والمعتوهينَ، حينها يشعر الإنسانُ بالغربة وهو في رحابِ وطنه، ويموت الإحساسُ بالوطن، ويضمحِلُّ الانتماءُ إليه، فيحمل الحرُّ الكريم حقيبةَ السّفر إلى المنْفى أو الغربةِ بحثاً عن عالمٍ آخرَ يحقّق له الحرّيّةَ ويضمن له لقمةَ العيشِ الكريم.

ويختلف مفهومُ الانتماء بين مفكّرٍ وأديبٍ وعالم، فحينَما يتقدَّمُ الوطنُ في مجال العلمِ والتّكنولوجْيا يشعرُ الإنسانُ بانتمائه إلى وطنِه والافتخارِ بإنجازاتِه كما يرى العالمُ العربيُّ الكبير أحمد زويل، وكذا الأمرُ في جميعِ مجالاتِ الحياة، فأيُّ ارتقاءٍ للوطن هو سموٌّ بالإنسان، وأيُّ انحطاطٍ أو تخلُّفٍ هو انحدارٌ بالإنسان: “التفوُّقُ في مجالِ العلم والتّكنولوجيا يعزّزُ شعورَ الفخرِ بالوطن”.

وأكبرُ دليلٍ على عِظم الانتماءِ للوطن هو اجتماعُ السّواعدِ في بناء الوطنِ واجتماعُ القلوبِ في تقليلِ المِحن، كما جاء في المثلِ الاسكتْلَنديّ.

ويموت الإحساسُ بالوطن ويغدو الانتماءُ إليه سراباً، ويتحوّل الوطنُ إلى غابةٍ لا تصلحُ لحياةِ البشر: “عندما يُمسِكُ بالقلم جاهلٌ، وبالبندقيَّةِ مجرمٌ، وبالسُّلطةِ خائنٌ”. كما رأى المفكّرُ الكبير مصطفى السِّباعي.

ويرى الكاتبُ الفرنسيّ بيير كورني أنّ الشّهادةَ في سبيل الوطنِ خلودٌ في موتٍ رائع: ” الشّهادةُ في سبيل الوطنِ ليستْ مصيراً سيّئاً، بل هي خلودٌ في موتٍ رائع”. وهو ما يتَّفقُ مع قيمةِ الشّهادة في سبيل اللهِ في قولِه تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). آل عمران: الآية 169. وإن كان موتُ الإنسان في سبيلِ وطنِه جميلاً، فالأجملُ أن يحيا الإنسانُ من أجل هذا الوطنِ سعيداً عزيراً كريماً، على نحو ما عبّر عنه توماس كارليل: “جميلٌ أن يموتَ الإنسانُ من أجل وطنِه، ولكنَّ الأجملَ أن يحيا من أجلِ هذا الوطن”.

وحينما يفقدُ الأديبُ أو المفكّر انتماءَه إلى وطنِه لأسبابٍ يعلمُها العقلاءُ، فإنّ الكتابةَ تصبح موطناً جميلاً يعيش فيه الكاتبُ والمفكّر، كما في رأي ثيودور أدورنو: “بالنّسبةِ للإنسانِ الّذي لم يعُدْ لديه وطنٌ، تصبح الكتابةُ مكاناً له ليعيشَ فيه”. أمّا الكاتبُ أندريه جيد فيرى أنّ الإبداعَ يتجاوز الأوطانَ ويصبح عالميّاً يُفيدُ منه العالمُ بأسْره: “الإبداعُ لا وطنَ له”. وموتُ الإنسان في سبيلِ مبدئه وفكرِه خيرٌ من العيشِ دهراً جباناً خائناً في سبيل نصرةِ وطنِه في قولِ كلمة الحقِّ، كما في قولِ الفيلسوفِ الإيطاليّ جوزيبي مازيني: “خيرٌ للمرءِ أن يموتَ في سبيل فكرتِه من أن يُعمّرَ طولَ الدّهرِ خائناً لوطنِه جباناً عن نُصرتِه”.

ولن يتعزَّزَ انتماءُ الإنسان إلى وطنِه إلّا إذا كان حرّاً كريماً فيه، أمّا وطنُ العبيدِ الّذين يطوفُون حول عرشِ الحاكم المستبِدِّ فسمِّهِ ما شئتَ ما عدا (الوطن)، يقولُ بنجامين فرانكلين: “حيثُ تكون الحرّيّةُ يكونُ الوطن”.

وتأتي كلماتُ الثّائرِ الكوبيّ الماركسيّ الأرجنتينيّ المولدِ تشي جيفارا في طليعةِ الأقوالِ الّتي اقترنَت بالفعل وجسّدَت نضالَه المسلَّحَ في مقاومةِ الإمبرياليّة في ثورةٍ عالميّة تُحقّقُ العدلَ والسّلام في العالم، وقد عبّر عن انتمائِه إلى وطنِه تعبيراً يعتصرُ ثورةَ عشقِه لوطنِه في سبيل الحقِّ ونصرةِ الفقراء والمستَضعفين، كما عبّر عن هذا الانتماءِ الوطنيّ الصّادقِ في شهادتِه (متى وأين يموتُ) في سبيل وطنِه كي يحيَا وطنُه حرّاً كريماً، وقد تعلّم من وطنِه أنّ دماءَ الشّهداءِ هي الّتي ترسم حدودَ الوطن، كما نرى في أقوالِه الخالدة: “إنّ الحياةَ كلمةٌ وموقف، الجبناءُ لا يكتبُون التّاريخَ، التّاريخُ يكتبُه مَن عشِقَ الوطنَ وقاد ثورةَ الحقِّ وأحبَّ الفقراءَ. لا يهمُّني أين ومتى سأموتُ بقدر ما يهمُّني أن يبقى الوطنُ. علّمني وطني بأنّ دماءَ الشّهداء هي الّتي ترسم حدودَ الوطن”.

والانتماءُ إلى الوطن مثلُ الانتماءِ إلى الأمّ كما في قول هايل: “إنّنا ننتمي إلى أوطانِنا مثلَما ننتمي إلى أمّهاتنا”. والوطنيّة “شعورٌ ينمُو في النّفس ويزدادُ لهبُه في القلوب، كلّما كبُرتْ همومُ الوطن وعظُمت مصائبُه”. كما عبّر عن ذلك مسلمُ بن الوليد.

ويتجسّد الانتماءُ الحقيقيُّ للوطن في شعورِ الإنسان بأنّ كلَّ شبرٍ من وطنِه هو وطنُه، وأنّ كلَّ سكّانِ وطنِه هم أهلُه وجيرانُه وخلّانه، على نحو ما كتبَ فليكس فارس: “إنّ الوطنيَّ الحقيقيَّ هو مَن يرى بلدتَه في كلِّ قسمٍ من أرضِ الوطن وكلُّ سكّانِ الوطن لديهِ أهلٌ وجيرانٌ وخلاّن”.

ولكن حينَما يتحوَّل الوطنُ إلى زريبةٍ لشخصٍ أو لعائلة، فتُدارُ الدّولةُ لحساب نخبةٍ وليس لحسابِ أمّةٍ، عندها يفقدُ الإنسانُ انتماءَه لوطنِه ويصبح عاجزاً عن التَّضحية في سبيلِه كما في قول المفكّر الكبيرِ عبد الوهّاب المسيري: “يصبح الفردُ غيرَ قادرٍ على التّضحية من أجلِ الوطن وينصرفُ للبحثِ عن مصلحتِه الخاصّة”.

ويبلغ الانتماءُ إلى الوطن ذروةَ معانيهِ العظيمة حينَ يصرُّ الكاتبُ الفلسطينيُّ الشّهيدُ غسّان كنفاني على تمسُّكِه بالنّضال من أجلِ استرجاع وطنِه المحتلِّ؛ لأنَّ وطنَه كما قال: “حقّي وماضيَّ ومستقبلي الوحيدُ.. لي فيه شجرةٌ وغيمة وظلٌّ وشمس تتوقّدُ وغيومٌ تمطرُ الخصبَ.. وجذورٌ تستَعصي على القلعِ”. ولأنّه تعلّم أن يحبَّ طفولتَه وأن يحبَّ الفقراءَ: “تعلّمتُ أن أحبَّ طفولتي.. أن أحبَّ البسطاءَ، أن أرتّبَ خارطةَ هذا الوطنِ وأن أقفَ في صفِّ الفقراء”.

ومهما حاول الجلّادُ أن يمزّقَ جسدَ الإنسانِ الوطنيّ بسوطِه فلن يستطيعَ أن يقتلعَ بذورَ الانتماء وحبَّ الوطنِ من روحِه، بل سيعلّمُه أبلغَ درسٍ في الوطنيّةِ وحبِّ الوطن: “فليسمعِ الجلّادُ الّذي يمزّق جسدي بسوطِه النّازيّة: لا شكَّ بأنّ جروحي ستقتلُني.. لكنّها ستعلّمُكَ درساً في حبّ الوطن”. آلان كيكي ناشطٌ وصانعُ محتوىً سوريّ.

3- جمالُ الوطن

كلُّ شيءٍ في الوطن جميلٌ، والأجملُ هو الإنسانُ؛ لأنّه خليفةُ اللهِ على الأرض المكلّفُ بعمارتِها، وهو الكائن الوحيدُ الّذي يستطيع بناءَ الوطنِ أو دمارَه، وهو المنفردُ بسموّ الوطن ورفعتِه وتقدّمه، وهو المتَّهمُ الأوحد في انحطاطِه وذلّه وتأخّره، وكلُّ جمالٍ في الوطن هو من إبداعِ أبنائِه الأبرارِ بعد إبداعِ الخالقِ العظيم، وكل قبحٍ هو من جناياتِ أبنائِه الخونةِ المارقين، فالوطنُ أرضٌ وشعبٌ، لا حاكمٌ يمتلكُ الاثنينِ معاً، والوطنُ أوابدُ تاريخٍ نُصِبتْ في ساحاتِه لكلِّ مَن بنى حضارةً أو صنع مجداً أثيلاً، وليس الوطنُ أزِقَّةً تشوِّه معالمَ جمالِها تماثيلُ إلهٍ مصطنعٍ يديرُ مقدّراتِ الوطن حسْبَ شهوتِه وأحلامِه المريضة.

وهاكُم نظراتِ المفكّرين والأدباءِ في تأمُّلِهم معالمَ جمالِ الوطن، وكلٌّ يُدلي بدلْوِه حسبَ ما تراه عيناهُ ويصدِّقُه قلبُه ويبرهنُ عليه فكرُه.

فليس في الدُّنيا شيءٌ أجملَ وأعذبَ من جمالِ الوطن ونقائِه كما قال هوميروس: “ليس أعذبَ من أرضِ الوطن”. وإنّ الجمالَ “هو وجهُ الوطنِ في العالم فلنحفظْ جمالَنا كي نحفظَ كرامتَنا”. كما قال المفكّرُ الكبير مالكُ بن نبي.

وما أروعَ الوطنَ! حين يصدقُ العزمُ وتطيبُ النّفوسُ ويقلُّ الكلامُ ويزيد العملُ، كما قال الرّوائيُّ العربيُّ الطَّيِّب صالح: “آه، أيُّ وطنٍ رائع يمكن أن يكونَ هذا الوطنُ، لو صدق العزمُ وطابتِ النُّفوسُ وقلَّ الكلامُ وزاد العملُ”. والوطنيَّةُ تعملُ ولا تتكلّم وتبني حضارةً وتدافعُ عن الوطن، ولا ترفعُ شعاراتٍ مزيَّفةً تُخفي وراء عباءتِها تاريخاً من العمالةِ والخيانةِ والإجرام ما لا يتصوَّرُه فكرٌ أو يصلُ إليه خيالٌ.. “فالوطنيّةُ تعمل ولا تتكلَّمُ”، كما قال قاسم أمين.

وحبُّكَ لوطنِك يجبُ ألّا يُبغضَكَ أممَ الأرض، كما يرى بليكو: “أنا مغرمٌ ببلادي، ولكنَّني لا أُبغضُ أيّةَ أمّةٍ أخرى”. ويظلُّ خبزُ وطنِك أفضلَ من بسكويتٍ أجنبيّ، كما يرى فولتير: “خبزُ وطنِك أفضلُ من بسكويتٍ أجنبيّ. هذا إنْ توفَّرَ الخبزُ في وطنِك غيرَ مغموسٍ بالدَّم وغيرَ مرهونٍ بالتّبعيّةِ والعبوديّة والذّلّ، وغيرَ محتكَرٍ لثلَّةٍ من تجَّار السّاسةِ والأثرياء والمرتزقةِ من اللُّصوصِ والعُملاء.

4- الوطنُ والمرأةُ والحُبّ

لا شكَّ في أنّ الوطنَ حينَما يكون وطناً حقيقيّاً يقودُه شرفاءُ يخشَون اللهَ ويتهيّبون ضمائرَهم، ويحرصُون على مصالحِ مواطنيهم حرصَهم على أبنائهم، ويحافظُون على ثرواتِ وخيرات بلدِهم، فيبنُون ويستثمِرون ويطوّرون في كلِّ مجالٍ ينهضُ بحضارةِ الوطن ويرتقي بمعيشةِ أناسِهم، فيغدو كلُّ شيءٍ جميلاً ونافعاً بهمّةِ سواعدِ رجال الوطنِ وأمّهاتِ المستقبل، حينَها يصبحُ الوطنُ أمّاً رؤوماً تحرصُ على سلامةِ أبنائها في كلِّ أصقاعِ الدُّنيا، وحينها نستطيعُ أن نعلِّمَ أولادَنا أنّ الأنثى هي الوطنُ والحياة، كما عبّر عن ذلك الثّائرُ والمربّي العالميّ تشي جيفارا: “علِّموا أولادَكم أنَّ الأنثى هي الرَّفيقةُ هي الوطنُ هي الحياة”. وحينها يكونُ للوطنِ قداسةُ الأمّ العظيمةِ الّتي جعل الخالقُ جلَّ وعلَا الجنّةَ من تحتِ قدميها، فلا يمكنُ الاستخفافُ بهذه القدسيّةِ، كما قالت الرّوائيّةُ التشيليَّةُ إيزابيل اللّيندي: “الأمُّ والوطن لا يمكنُ المزاحُ فيهما: إنّهما مقدَّسان”. أمّا حينَما يتحوّلُ الوطنُ إلى سجنِ سفّاحٍ يلاحقُ أبناءَه في الدّاخل والخارجِ، ويغتالُ الكلماتِ وينصبُ حبالَ المشانقِ للقصائد ويهدمُ المدنَ فوق رؤوسِ سكّانها دون تفريقٍ بين امرأةٍ أو طفلٍ أو شيخ، فحينَها ينطلقُ القولُ في الملأ: لعنةُ الله على هكذا وطنٍ، ولعنةُ الملائكةِ على هكذا مُومِس.

لكنّ الأملَ يظلُّ بارقةً في عيونِنا وأفكارنا ونحنُ نقرأ قصائدَ غرامِ الشّاعر الدّمشقيّ الأصيلِ نزار قبّاني حين يجعلُ من الأنثى وطناً ومن الوطنِ أنثى نحاولُ أن نحبَّها خارجَ كلِّ الطّقوس، وخارج كلِّ النّصوصِ، وخارج كلِّ الشرائعِ والأنظمة.. ونحاول أن نحبَّها في أيِّ منفىً ذهبْنا إليه، لنشعرَ حين نضمُّها يوماً إلى صدورِنا، بأنّنا نضمُّ ترابَ الوطن. وحينَها تصبحُ الأنثى وطناً يُنسينا الحديثَ عن المدنِ والأوطان، كما قال: “لماذا أتحدَّثُ عن المدنِ والأوطان؟ أنتِ وطني، وجهُكِ وطني، صوتُكِ وطني، تجويفُ يدِك الصَّغيرةِ وطني، وفي هذا الوطنِ وُلِدتُ وأريدُ أن أموتَ”.

هكذا هي الأنثى وهكذا هو الوطنُ عندما يشعرُ الأبناءُ بالرّحمة والحبِّ والحنان، ولكنْ حينَما يتحوّل الوطنُ إلى شقّةٍ فاخرة لعنترةَ، فالمعجمُ العربيُّ ثريٌّ بالمصطلحاتِ المعبّرةِ عن الخلاعةِ.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات