الشّكُّ واليقينُ -1

سأتناول في هذه المقالةِ الصّراعَ بين فلسفة الشّكِّ وفلسفةِ اليقين في الحياة، وما لهُما من أثرٍ على سلوكِ البشر، فلكلٍّ منهما آثارٌ إيجابيَّةٌ وأُخرى سلبيّةٌ، وما على الإنسانِ إلّا أن يوازنَ بين فكرِه وقلبِه، وألّا يكونَ مطيّةً لأحدِهما على حسابِ الآخر، فليس كلُّ ما يطمِئنُّ إليه القلبُ جوهرَ الحقيقة، وليس كلُّ ما يأنسُ إليه الفكرُ عالماً مثاليّاً لا تشوبُه النّواقصُ والعيوبُ والضّلال.

محاسنُ الشّكّ واليقين

إنّ أجملَ أنواع السّعادة تلك السّعادةُ الّتي تُولد من رحمِ الشّقاء، وأروعُ لقاء بين روحينِ يأتي من سحبٍ ملبَّدةٍ بالحرمان، وأخلدُ طمأنينةٍ تستظلُّ ظلَّ شجرةِ صراعِ الوجود، وأعْتى قوّةٍ في مواجهة الظّلمِ تلك الّتي تأتي بعد مخاضٍ عسير في قولِ الحقّ، وأقْوى إيمانٍ بالله ينبجسُ من بينِ غيومِ الرّيبة؛ لذلك نجدُ فقيهَنا وفيلسوفَنا أبا حامدٍ الغزاليّ يعدُّ الشّكَّ “أوّلَ مراتبِ اليقين”.

ومن الشّكِّ يتولّدُ الفكرُ، ويتّسعُ أفقُ العقل، فلولا الشّكُّ في أسبابِ المرض لما سعى فكرُ الأطبّاء والعلماءِ إلى البحثِ عن تلك المسبِّباتِ لإيجادِ العلاج المناسبِ، ولولا تشخيصُ المرض لما عُرف الدّواءُ النّاجع، ولولا الشّكُّ في أفكار الكهنوتِ الدّيني باستواءِ سطحِ الأرض، لما توصّل الفكرُ الإنسانيُّ إلى كرويّةِ الأرض، ولولا الشَّكُّ بأنّ وراء الأفقِ البعيد خلفَ المحيطاتِ الشّاسعة عالماً آخرَ، لما استطاع كولومبوس اكتشافَ القارّةِ الجديدة، ولولا الشّكُّ في خلوّ الكواكبِ من المخلوقاتِ، لما تنافس العلماءُ للبحثِ في الفضاء عن عالمٍ آخرَ قد يفوقُ عالمَنا الأرضيَّ حضارةً وتمدُّناً ورقيَّاً..

وبعد الشّكِّ يأتي اليقينُ، وبعد اليقينِ يأتي العملُ، وبعد ثباتِ اليقين تأتي الدَّافعيّةُ والإصرار على العمل، فحينَما يزول الشّكُّ بأنّ الكونَ مسيَّرٌ بقدرةِ إلهٍ، يأتي العملُ في ممارسةِ العبادة، وعندما تستقرُّ عظمةُ الخالق في النُّفوسِ بالدّلائلِ والبراهين العلميّة، يتفانى الجسدُ في الطّاعةِ، وتذوبُ النَّفس في الخضوعِ والخشوع، كما عبّر عن ذلك الأديبُ المفكّر توفيقُ الحكيم: “التّفكير هو حركةُ الشّكّ، والعملُ هو ثباتُ اليقين، والإيمانُ هو قوّةُ الثّباتِ والدّفعُ والإصرارُ على التّحقيقِ العمليّ ليقينِ العقيدة”.

ولكنّ البشريّة بطبيعتِها قد تعشقُ الجهلَ بالرّغم من لذّةِ العلم، وقد تقدِّسُ الحربَ رغمَ مرارةِ ويلاتِها، وقد تزحفُ برجليها إلى العبوديّةِ رغمَ درايتِها بما للحرّيّةِ من عزّةٍ وكرامة وإباء، وقد تنحَني أمام شياطينِها المضلّينَ لها عن سبلِ السّواء رغمَ تقاطُرِ دعواتِ الإصلاح والهدايةِ إلى سمعِها وقلبِها من مخلّصيها الشُّرفاء، والبشريّةُ بالرّغم من يقينِها بحتميَّةِ الموتِ الّذي لا يشوبُه شكٌّ، يظلُّ يقينُها أشبهَ بشكٍّ لا يقينَ فيه، فهي تذوقُ طعمَ الموت، لكنّها سرعانَ ما تنساهُ أو تتناساهُ؛ وكأنّه خيالٌ لا حقيقةٌ، وهي تسعى في الحياةِ سعيَها للخلودِ فيها، ولا ترى في الموتِ عظةً، فإذا نظرتَ إلى أعمالِ البشرِ ألِفتَهم يعملُون ويجمعُون ويجتهدُون وكأنّهم لن يموتُوا أبداً، ولا نجدُ ليقينِهم أثراً في حياتِهم، كما في قولِ الحسنِ البصريّ: “ما رأيتُ يقيناً لا شكّ فيه أشبهَ بشكٍّ لا يقينَ فيهِ من الموت”.

ولعلّ أسلمَ طريقةٍ في الوصولِ إلى سنمِ الحقيقةِ هي التفكيرُ قبلَ الكلام؛ لأنّ جواهرَ الحقيقةِ لا يمكنُ أن تنصهرَ إبريزاً خالصاً إلّا بعد صهرِها بحممِ الفِكر، وإن لم يُشرقْ بريقُها في ثنايا اللِّسان، فلينتظِرْ؛ لعلَّها تسيلُ مع لعابِ الصَّمت، كما عبّر عن ذلك الإمامُ الشّافعي -رضي الله عنه- في قوله: “إذا أراد أحدُكم الكلامَ فعليه أن يفكّرَ في كلامِه، فإن ظهرَت المصلحةُ تكلَّمَ، وإن شكَّ لم يتكلّمْ حتّى تظهرَ”.

وأجملُ سلوكٍ يمارسُه الإنسانُ العقلانيُّ هو الشّكُّ؛ لأنّ الشّكَّ تواضعٌ، ولكنّ اليقينَ الأعمى أمام مسائلِ الكون الكُبرى غطرسةٌ وخضوعٌ أعمى للجهلِ، على نحو ما عبّر عن ذلكَ بيل مار الكوميديُّ الأمريكيّ السّاخر: “السّلوكُ الوحيد المناسبُ للإنسان حولَ الأسئلةِ الكبرى ليس اليقينَ المتغطرسَ بلِ الشّكُّ.. الشّكُّ تواضعٌ”.

ويأتي اليقينُ بعد رحلةِ شكٍّ طويلة قائمةٍ على البحثِ والتّأمّل والتّفكيرِ في ذروةِ سلَّم المعرفةِ الّتي نجدُ صداهَا من التّفكُّر والتّأمّلِ في رحلةِ الإنسان لاكتشافِ ذاتِه ومعرفةِ إبداعِ الخالق في كوامنِ ذاتِه البشريّة، من خلال الدّعوةِ الرّبّانيّةِ للبشريّة: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) -الذاريات: 21. وفي أسرارِ الكونِ العجيبة الّتي تنبئُنا عن قدرةِ الله وعظمتِه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) – فُصّلت: 53. وهذا اليقينُ الّذي تفتّقتْ بذورُ خمائلِه من جذورِ الشّكّ بين رمالِ الإلحاد بعد أن رُويتْ بماءِ المعرفة وجهدِ المشقّة والألمِ هو ذلك اليقينُ الشّامخ شموخَ الجبال لا تستطيعُ أن تقتلعَه كلُّ أعاصيرِ الشّكوكِ ولا عواصفُ الخطوبِ مهما استبدَّت بطغيانِ الضّلال والبُهتان، وهذ ما عبّر عنه الكاتبُ الرّوسيّ الكبيرُ فيودور دوستويفسكي: “لا، إنّني لم أؤمِنْ بالله، ولم أعترفْ به كما يفعلُ طفلٌ، وإنّما أنا وصلتُ الى هذا الإيمانِ صاعداً من الشّكِّ والإلحادِ بمشقَّةٍ كبيرة وعذابٍ أليم”.

ولكنْ مَن يظنُّ أنّ رحلةَ الشّكِّ نزهةٌ تأنسُ إليها النّفسُ بعد عناءِ الشّقاء، أو لذّةٌ للشّهرةِ يرنُو إليها المتفلسِفُون، وإنّما هي رحلةٌ محفوفةٌ بمخاطرِ الألم والشّقاءِ والتّعب، ومع ذلك فهي رحلةٌ منطقيّةٌ تناسبُ العقلَ النّاضجَ المفكّر الّذي يأْبى أن يكونَ أسيراً في حظيرةِ العقائدِ المتوارثةِ الّتي تحطُّ من قدرِ الإنسانِ، وتسيّرُه في ظلامٍ دون أن ترى نفسُه بصيصَ أملٍ أو شعاعَ نورٍ تسمُو به إلى نعيمِ الرّشدِ والاستقامةِ والصّلاح، كما في قولِ برتراند راسل صاحبِ الإبريقِ الكونيّ: “قد يكون الشكُّ أليماً، وقد يكونُ متعِباً، ولكنّه على الأقلِّ منطقيٌّ، وربّما كان الشّكُّ مرحلةً مؤقّتة، ولكنّ النّجاةَ منه لا تكونُ بالعودةِ إلى العقائد المنبوذةِ الّتي تنتمي إلى جيلٍ أغْبى من هذا الجيل”.

ومن هنا وجبَ علينا ألّا نخشَى الشّكَّ، وإنّما علينا أن نستقبلَه بأحضانِ الفكرِ ونوسّعَ له مجلسَ النّقاشِ والحوار، وألّا نهاجمَه بالتَّكفيرِ والطّرد من رحمةِ الله، فمَن ذا الّذي يستطيعُ أن يوزّعَ على النّاسِ أوسمةَ نجاحِ الإيمان، ومَن ذا الّذي يستطيعُ أن يرميَ الآخرينَ بجمراتِ الشّيطان؛ لأنّه يشكُّ في إيمانِهم، على نحوِ ما عبّر عنه ريتشارد فاينمان: “لا ينبغي أن نخشى من الشّكِّ، بل يجبُ أن نرحّبَ به ونناقشَه”.

وللشّكِّ خصائصُ تجعل منهُ علامةً من علاماتِ الذّكاء، ومفتاحاً لولوجِ أبوابِ المعرفة والحكمةِ، وإن بدَا في ظاهرِه داءً فهو الدّواءُ لتعلُّم الحكمةِ والوصول إلى جوهرِ الحقيقة، وكلّما زادتِ المعرفةُ كثرَ الشَّكُّ، ولكنّه قد يصيرُ عيباً إذا ما تسلّحَ به الأحمقُ، كما أنَّ السّذاجةَ تُودي بالعاقلِ في مهاوي الضّلالِ والهلاك، وشكُّ العاقلِ مفتاحُ المعرفة، وشكُّ الجاهلِ دربٌ من دروبِ الحماقةِ والتّهوُّر، وشكُّ العاقلِ نبراسُ الاستقامةِ وعمقِ الإيمان، وشكُّ الجاهلِ تخبّطٌ دون هدايةٍ، ونومٌ مع يقينٍ سليم خيرٌ من صلاةٍ تشوبُها شكوكٌ ويعتريها دنسٌ، وهذه المعاني نلمسُها في الأقوالِ الآتية: “الشّكُّ اسمٌ من أسماءِ الذّكاء”. خورخي لويس بورخيس – “الشّكُّ مفتاحُ كلِّ شيء”. – “مَن لا يشكُّ بشيءٍ لا يعرفُ شيئاً”. مثلان فارسيّان – “الشّكُّ داءٌ لكنّه قد يعلّمُ الحكمةَ”. بوبيلوس سيروس -“الشّكُّ دواءٌ تصفُه الحكمةُ”. مثل لاتيني – “الشّكُّ أساسُ الحكمة”. رينيه ديكارت – “الشّكُّ هو بدايةُ الحكمة”. مثل فرنسي – “يؤدّي الشّكُّ إلى الامتحان، ويؤدّي الامتحانُ إلى الحقيقة”. مثل لاتيني – “مع المعرفةِ يكبرُ الشّكُّ”. غوته – “الشّكُّ عيبُ الأحمقِ والسّذاجةُ عيبُ العاقل”. ديدرو – “ظنُّ العاقلِ أصحُّ من ظنِّ الجاهل” و “نومٌ على يقينٍ خيرٌ من صلاةٍ على شكّ”. علي بن أبي طالب. – “أُظهرُ الشّكَّ لأُثبتَ أنّ الإيمانَ موجود”. روبرت براوننغ..

وفي الحروبِ يأتي اليقينُ بحدِّ السّيفِ، وتنجلي غمامةُ المتشكّكينَ في النّصر، فتنطلقُ سجيّةُ أبي تمّام في بيان حقيقةِ النّصر المعقودِ على بريقِ اليمانيّ الّذي يفرّقُ بين الجدِّ والهزل، فهو أصدقُ إنباءً من كتبِ المنجّمينَ الّذين لم ينصحُوا الخليفةَ المعتصمَ بالله بفتحِ عمّوريّة، فكان جلاءُ الشّكّ والرّيبِ بين لمعانِ السّيوفِ وشهُبِ الأسِنّة والرّماح حينما التحمتِ الجيوشُ، لا فيما خطَّتهُ أقلامُ المنجّمين بين صفحاتِ الكتب من كذبٍ اعتماداً على تأويلاتِهم في علمِ النّجوم:

السَـــــــــــــيفُ أَصــــــــــدَقُ أَنبـــــــــــــاءً مِنَ الكُتُبِ

في حَـــــــــــدِّهِ الحَــــــــــدُّ بَينَ الجِــــــــــــــــدِّ وَاللَعِـــــبِ

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في

مُتــــــــــــــونِهِنَّ جَــــــــــــــــلاءُ الشَـــــــــــــــــــكِّ وَالــــــــــــــــرِيَبِ

وَالعِـــــــــــــلمُ في شُهُبِ الأَرمــــــــــــــــــاحِ لامِعَــــــــــــــــــةً

بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُــــــهُبِ

أَينَ الــــــــــــرِوايَةُ بَل أَيــــــــنَ النُــــــــــجومُ وَمــــــــــا

صاغـــــــــــوهُ مِن زُخــــــــــرُفٍ فيها وَمِـن كَذِبِ

ولعلَّ أجملَ ما يقعُ عليه الفكرُ في صدقِ اليقينِ وعمقِ الإيمان المطلقِ في التّسليمِ لله عزّ وجلّ، حينما تضيقُ بنا الدّنيا، وينحبسُ عنّا الرّزقُ، فترتفعُ الأكفُّ بالتَّضرّعِ والدّعاء إلى مَن لا يخيّبُ الرّجاءَ ولا يتأخّرُ عن تلبيةِ النّداء، ما نراه في قصيدةِ الإمام الشّافعي رحمهُ الله (إليكَ إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي). ففي القصيدةِ نتلمَّسُ إيمانَ المؤمن ويقينَه الّذي يُسيّرُه في حياتِه، فيستَولي على حركاتِه وسكناتِه، ويقودُه طائعاً إلى عبادةِ خالقِه، فيرفعُ إليه الدّعاءَ موقناً من استجابةِ الخالقِ، ومستسلماً لقضائِه وقدَره:

تَوَكّلْـــــــتُ في رزقي على اللهِ خَــــــــــالقِي

وأيْقَــــــــنْــتُ أنَّ اللهَ لا شَــــــــــــــــــكَّ رَازقِي

ومَـــــــا يَكُ مِنْ رزقٍ فَليْسَ يَفُـــــــــوتُني

ولوْ كانَ في قـــــاعِ البِحَار العَوامِق ِ

سَــــــيأتي بِه ِاللهُ العَظــــــــــــيمُ بِفَضْلِه

ولوْ لمْ يَكُنْ مِنّي اللِّسَــــــانُ بِنَاطِق ِ

فَفِي أيّ شَيءٍ تذهَــــــــــــــــبُ حَسْـــــــــــــــــرةً

وقَد قَسَمَ الرَّحْمَنُ رزقَ الخلائقِ

مثالبُ الشّكّ واليقين

رأيْنا فيما سبقَ ذلك الوجهَ الجميلَ لكلٍّ من الشَّكِّ واليقين من خلال عرضِ ما قالهُ المفكّرون وما فاضَت به قرائحُ الشُّعراء، ولكنْ ألا يكتنفُ ملامحَ ذلك الوجهِ شيءٌ من القبحِ وبعضٌ من التّشويه، ولا سيَما حينما تشوبُه مبالغةٌ عمياءُ أو يلوّنُه تصنُّعٌ مزيّفٌ يُبعِدُه عن الحقيقة؟!

نعمْ بلا شكٍّ! ثمّةَ مثالبُ عديدةٌ للشّكِّ واليقين حينما يتحوَّلُ كلٌّ منهما إلى عقيدةٍ راسخة دونَما نظرٍ دقيق بمنظارِ الفكرِ واستسلامٍ أعمى لمشاعرِ الفؤاد، فليس كلُّ لامعٍ ذهباً، وليس كلُّ ناسكٍ ملاكاً.. ليس كلُّ ما يقولُه المنجّمُون حقيقةً، وليس كلُّ ما يؤوّلُه الفلاسفةُ يقيناً.. ليس كلُّ ما رُوي كتاباً منزلاً، وليس كلُّ ما قيلَ معادلةً رياضيّة لا تقبلُ التّشكيكَ، ومن جملةِ الأقوال الّتي تؤكّدُ ما أذهبُ إليه، قولُ فولتير: ” ليس الشّكُّ وضعاً مستَساغاً، لكنَّ اليقينَ حماقةٌ”. فهو يؤكّد على أنّ الشَّكَّ إن تجاوزَ حدودَه، فليس مستساغاً، كما أنّ اليقينَ في كثيرٍ من أمور الحياةِ دون تمحيصٍ حماقةٌ لا تُطاق.

وثمّةَ أنواعٌ من الشُّكوكِ قد تُفسِدُ التّفكيرَ، وتنحرفُ بسلوكِ الفرد عن الصِّراطِ المستقيم حينما يكونُ عقيماً بلا جدْوى، كما يرى لويس باستور: “لا تدعِ الشّكَّ العقيمَ يلوّثُك”. ومنه ما ينتجُ عن سوءِ الفهم والتّقديرِ، كما في قولِ دان براون: “إنّ سوءَ الفهم يُولّدُ الشّكَّ”. ومنه ما يتولّدُ عن ضعفٍ روحيٍّ، كما يقولُ توماس بين: “الشّكُّ هو الصّديقُ الحميم للأرواحِ الضّعيفة”.

ومنه ما يُسبّبُ الخيانةَ للفردِ إذا ما كثُرت شكوكُه على رأي فولتير:‏ “من كثُرت شكوكُه فإنّه يدعُو إلى خيانتِه”. ومنه ما يرافقُ الإنسانَ منذ طفولتِه فيظنُّه يقيناً، وما إن يكبرُ ويُعمِلُ عقلَه فيما حولَه يدركُ أنّ ذلكَ اليقين وهمٌ، كما قال الكاتبُ الرّوائيُّ عبدُ الرّحمن مُنيف: “أشياءٌ كثيرةٌ يتعلّمُها الإنسانُ في وقتٍ مبكّر ويتصوَّرها يقيناً لا يقبلُ الشّكَّ، لكنَّ الحياةَ تعلّمُه أنّ ذلك اليقينَ مجرّدُ وهم”.

ومن الشَّكِّ ما يمنعُ الوصولَ إلى اليقين حينَما ينهالُ على فكر الإنسانِ كما تنهالُ حبّاتُ المطرِ على الثّرى، وحينها تتعثَّر ولادةُ اليقين، ولا سيما حينَما يختلطُ الحابلُ بالنّابل فيعمُّ العالمَ فسادٌ واضطرابٌ نتيجةَ انقلابِ الصّورة عكسَ وجهِ الحقيقة، إذ يُشهِرُ الحمقَى سيوفَ الثّقةِ في وجهِ العقلاءِ حينَما يكتنِفُهم بحرٌ من الشّكوك، كما يرى برتراند راسل: “إنَّ السَّببَ الأساسيَّ في اضطرابِ هذا العالمِ اليومَ، هو أنّ الأحمقَ واثقٌ أكثرَ ممّا ينبغي، والعاقلَ يكتنفُه الشّكُّ”. وليس ثمّةَ في الجودِ يقينٌ مُطلق؛ لأنّ الإنسانَ مهما بلغَ من الإيمان ومهما وصلَ إلى ذروةِ الاطمِئْنان، لا بدَّ أن تنتابَهُ لحظةٌ من الشّكِّ أو هُنيهةٌ من القلقِ أو حينٌ من التّردُّدِ والانكسار أو لحظةٌ من قربِ السّقوطِ في الهاوية، كما عبّر عن ذلك الكاتبُ والمفكّر واسيني الأعرج: “اليقينُ المطلق غيرُ موجود”.

ولا يمكنُ للشّكِّ أن يتحوّلَ إلى فلسفةٍ أو عقيدة مهما بلغ صاحبُها من الحكمةِ والعبقريّة، فأمثالُ هؤلاء الفلاسفةِ لا يمكنُ أن يعيشُوا إلّا في شقاءٍ مُميت؛ لأنّ العقلَ البشريّ لا يمكنُ أن يتحمّلَ ذلك الضّنكَ الشّديدَ من العذاب الّذي يقود صاحبَه إلى خطأ تلوَ الخطأ، في حين أنّ اليقين يُغنيكَ في كثير من الأحيانِ عن التّخبُّطِ في البحث والوقوعِ في الأخطاء، فالإيمانُ هنا راحةٌ للنّفسِ وواحةٌ لسعادةِ الرُّوح، فلماذا يفضّلُ هؤلاء الشّقاءَ والوقوعَ في الخطأ على الإيمانِ المُريح للنّفس، كما يرى جان جاك روسو: “كيف يمكنُ للإنسانِ أن يتّخذَ الشّكَّ عقيدةً ويلتزمَ بها عن حسنِ نيّة؟ هذا ما لا أستطيعُ فهمَه. هؤلاءِ الفلاسفةُ الشّكَّاكون إمّا لا وجودَ لهم، وإمّا هم أشْقى سكّانِ الأرض. الارتيابُ في أمورٍ تهمُّنا معرفتُها وضعٌ شاقٌّ بالنّسبةِ للعقلِ البشريّ. لا يتحمَّلُه طويلاً، ويلزمُه الاختيارُ فيفضّلُ أن يُخطئَ على ألّا يُؤمن”؟!

ومَن يُكثرُ من الشّكوكِ بغيةَ أن يحقِّقَ لذاتِه شهرةً زائفة على مبدأ (خالِفْ تُعرَفْ) أو ليُقالَ عنه إنّه ذكيٌّ أو متحضّرٌ أو متشرّبٌ من ثقافةٍ غير ثقافةِ أمّته.. وما أكثرَ هؤلاءِ الإمَّعاتِ والنَّكِرات والشّواذَّ! ومثلُهم فئةٌ لا تقولُ كلمةَ الحقّ فيمَن يستحِقُّونها من المدحِ والإعجاب؛ كي يُقالَ عنهم إنّهم مستقِلُّون لا تابعُون، فأمثالُ هؤلاء لا مكانَ لهم إلّا في خانةِ الاحتقار وفي دائرةِ المنبُوذين، كما عبّر عن ذلك العلّامةُ الكبير محمّد الغزالي: “أحتقرُ مَن يُثيرُ الشُّكوكَ؛ ليُقالَ بأنّه ذكيّ ومَن يكتمُ إعجابَه ليُقالَ بأنّه مستقِلٌّ لا تابعٌ”.

ومن مثالبِ الشَّكِّ أنّه يجعلُكَ فاقداً للثّقةِ، كأنّما أنت واقفٌ على أرضٍ تهتزُّ من تحتِ قدمَيك، على نحو ما يرى غوته: “إذا شكَكْتَ بنفسِك تكون واقفاً على أرضٍ مهتزّة. والشّكُّ داءٌ مخيفٌ يدمّرُ النَّخوةَ في نفوس النّاسِ، ويقتلُ المحبّةَ في قلوبهم، ويُطفِئُ نورَ الإيمان في عيونِهم، كما ترى كوليت الخوري: “الشّكُّ داءٌ مخيفٌ يدمّرُ النّخوةَ في النّفوس، ويقتلُ المحبّةَ في القلوب، ويُطفئُ بريقَ الايمانِ في العينين”. يُضاف إليها أنَّ الشّكَّ داءٌ شديدُ الإيلام، فهو ساديّةٌ في الأرواح النّاقمةِ، على رأيِ إميل سيوران: “الشّكُّ ساديَّةُ الأرواحِ النّاقمة”. “والشّكُّ ألمٌ في غايةِ الوحدة لا يعرفُ أنّ اليقينَ هو توأمُه” كما رأى جبران خليل جبران.. والشّكُّ في “الله يعني الشّكَّ في ضميرِ المرء، وهذا يؤدّي إلى الشّكِّ في كلِّ شيء”. كما رأى خوسيه ريزال.. وسيظلُّ الصّراعُ بين الشّكِّ واليقين “أعمقَ موضوعٍ في تاريخِ صراعِ الإنسان” كما يقول غوته.. وأخيراً ستظلُّ العلاقةُ بين الشكِّ واليقين علاقةً جدليّة يُكمِلُ فيها أحدُهما الآخرَ، فهُما “مثلَ اللّيلِ والنّهار ” على نحوِ ما تصوَّر الرّوائيُّ العربيّ الكبير نجيب محفوظ.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات