العدلُ والظّلم – تتمة

أمّا المفكّرُ الإسلاميُّ الكبير مصطفى محمود فإنّه يدلّلُ على وجودِ العدلِ الإلهيّ في الآخرة بانتِفاءِ العدلِ في الحياة الدّنيا مستشْهداً بقولِ المفكّرِ الهنديّ وحيدِ الدّين خان: “إذا كان الظّمأُ إلى الماءِ يدلُّ على وجودِ الماء، فكذلكَ الظّمأُ إلى العدلِ لابدّ أنّه يدلُّ على وجودِ العدل.. ولأنّه لا عدلَ في الدُّنيا.. فهو دليلٌ على وجودِ الآخرةِ مستقرِّ العدلِ الحقيقيّ”.

ويرى مصطفى محمود أنّ كلَّ ما يطلبُه رجالُ الفنّ والفكرِ والثّورة والشّريعةِ من الجمالِ والحقِّ والعدالةِ والإبداعِ هي مطالبُ وإن اختلفَت في الظّاهر فإنّها تتَّفقُ في الحقيقةِ في مَراميها، وهي من أسماءِ اللهِ جلَّ وعلَا: “الفنّانُ يطلبُ الجمالَ.. والمفكّرُ يطلبُ الحقيقةَ.. والثّائرُ السّياسيُّ يطلبُ العدالةَ.. والصّوفيُّ العارفُ يطلبُ الله.. وهم قد اختلفُوا في الظّاهر، ولكنّهم ما اختلفُوا في الحقيقةِ.. فإنّ الحقَّ، العدلَ، البديعَ، الجميلَ، كلُّها من أسماءِ الله”.

ويرى المفكّرُ الكبير أنّ ثمّةَ خيطاً رفيعاً بين الظُّلمِ الظّاهر والعدلِ الخفيّ، لا يراهُ إلّا أصحابُ القلوبِ النّقيّة: “وبين الظلمِ الظّاهر والعدلِ الخفيّ، خيطٌ رفيعٌ لا يراهُ إلّا أهلُ القلوب”. فكمْ من النّاسِ يقعُون تحتَ سيفِ الظّلمِ ونظنُّ أنّهم ظُلِموا، لكنّهم ربّما وقعُوا في شرّ أعمالِهم، فنالَت منهم العدالةُ الإلهيّةُ في الأرض، والتّاريخُ مليءٌ بالعبرِ عن الأقوامِ الظّالمين الّذين وقعَ عليهم ظلمٌ أشدُّ من ظُلمِهم.

أمّا الزّعيمُ الهنديّ الكبيرُ المهاتْما غاندي فيرى أنَّ محكمةَ الضّميرِ هي المحكمةُ العُليا الّتي تعلُو على كلِّ المحاكمِ الأخرى: “هناك محكمةٌ علْيا أعلى من محاكمِ العدلِ، هي محكمةُ الضّمير، إنّها تعلُو بكثيرٍ عن كلِّ المحاكمِ الأخرى”.

ويطالعُنا المفكّرُ الأمريكيّ كريستوفر هيتشنز بموقفٍ رائعٍ يدعو إلى اتّخاذِ موقفٍ صريحٍ من الظّلمِ والغَباء، وكلُّ مَن يصمُتُ إزاءَهما فالقبرُ بانتظارِه ليلوذَ إلى متَّسعٍ من الصّمتِ المريب: “لا تقِفْ أبداً موقفَ المتفرّجِ من الظّلمِ أو الغباء.. القبرُ سيوفّرُ متّسعاً من الوقتِ للصَّمت”.

ولكنَّ الطّامّةَ الكبرى في العالمِ هي الخديعةُ الّتي تُخفي الظّلمَ برداءِ التّقوى أو حقوقِ الإنسانِ والعدالةِ والحرّيّةِ والمساواة، كما عبّر عن ذلكَ المفكّرُ الإسلاميّ عليّ شريعتي: “عندما يلبسُ الظّلمُ رداءَ التّقوى تُولَد أكبرُ فاجعةٍ”.

ويدعُو شريعتي إلى الوقوفِ في وجهِ الظّلم، حتّى لو طالَتْك الشّتائمُ والتُّهمُ بالخيانةِ والكُفر، ويحذّرُ من السُّكوتِ عن الظّلم لكي يُقالَ عنكَ إنّك رجلُ سلام: “عندما تُقرّرُ الوقوفَ ضدَّ الظّلم، توقَّعْ أنّك سوف تُشتَمُ، ثمّ تُخوَّنُ ثمّ تُكفّرُ، لكنْ إيّاك أن تسكتَ عن الظّلم من أجلِ أن يُقالَ عنك: إنّك رجلُ سلام”. وإذا عجِز المر ءُ عن رفعِ الظّلم عن المظلومين، فعليهِ تعريتُه أمامَ الجميع وهو أقلُّ الإيمانِ كما قيلَ: “إذا كنتَ لا تستطيعُ رفعَ الظّلم، فأخبرْ عنهُ الجميعَ على الأقلّ”.

ويُشير شريعتي إلى واقعِ دولتِه الفارسيّة الّتي قامَت بالثّورةِ على ظلمٍ، لكنّها دخلَت في نفقٍ مُظلمٍ من الجهلِ والتّخلُّفِ والانحطاطِ الأخلاقيّ والفِكريّ: “لا فائدةَ من ثوراتٍ تنقلُ الشّعوبَ من الظُّلمِ إلى الظّلام”.

وتتجلّى عبقريّةُ شريعتي في توصيفِ الثّوراتِ المشوّهةِ الّتي تُطيحُ بالحاكمِ المستبدِّ، وتُبقي على مَن صنعُوا تلك الدكتاتوريّةَ؛ ولهذا تُخفِقُ الثّوراتُ ولا تُؤتي أُكلَها، وأعظمُ خطْباً من ذلكَ يا شريعتي أن يفشلَ الثّائرون في إسقاطِ المستبدِّ ومَن صنعُوا دكتاتوريّتَه، ويتحوّلَ الثّائرون إلى شراذمَ من الطّغاةِ والمرتزقةِ المتنفّذين، فتضيعَ حقوقُ الشّرفاءِ ودماؤُهم سُدىً: “مشكلتُنا في الثّوراتِ أنّنا نُطيحُ بالحاكم ونُبقي من صنعُوا دكتاتوريّتَه؛ لهذا لا تنجحُ أغلبُ الثّورات، لأنّنا نغيّرُ الظّالمَ ولا نغيّر الظّلمَ”.

وثمّةَ حقيقةٌ مطْلقةٌ يُلقيها المفكّر الإنكليزيّ برتراند راسل في ذاكرتِنا وهي لا تقبلُ الجدلَ: “يُوجدُ في الجزءِ الّذي نعرفُه من الكونِ الكثيرُ من الظّلم وغالباً ما يُعاني الطّيّبُون، وغالباً ما ينجحُ الأشرارُ”.

أمّا الكاتبةُ الجزائريّةُ المبدعةُ أحلامُ مستغانمي فإنّها تُلخّصُ فضائحَ أمَّتِنا العربيّة في العدالةِ والحرّيّة والتّقدُّمِ بذريعةِ تحقيقِ العدالةِ والحرّيّة والازدهارِ للإنسانِ العربيّ الّذي كاد أن ينقرضَ وما زالَ في مرحلةِ الأحلام: “إنّ العدلَ أقلُّ تكلفةً من الحرب، ومحاربةُ الفقرِ أجْدى من محاربةِ الإرهاب، وإهانةُ الإنسانِ العربيّ وإذلالُه، بذريعةِ تحريرِه، هما بمثابةِ إعلانِ احتقارٍ وكراهيةٍ له، وأنّ في تفقيرِه بحجّةِ تطويرِه، نهْباً لا غِيرةً على مصيرِه، والانتصارُ المبنيُّ على فضيحةٍ أخلاقيّةٍ هو هزيمةٌ، وإن كان المنتصِرُ أعظمَ قوّةٍ في العالم”.

الظّلمُ في مكانٍ ما من العالمِ كتفّاحةٍ فاسدةٍ في صندوقِ التّفّاح، تُفسِدُ ما حولَها، فإنْ لم نعزِلْها أفسدَت الصّندوقَ برمّتِه وكذلكَ الظّلمُ، فإن لم يُجتثَّ من مكانِه أفسدَ العدلَ في كلّ أنحاءِ العالم، كما عبّر عن ذلك المفكّر والمصلحُ الأمريكيُّ مارتن لوثر كنج: “الظّلمُ في مكانٍ ما يمثّلُ تهديداً للعدلِ في كلِّ مكان”.

وقريبٌ من هذا المعنى قولُ المفكّرِ الإسلاميّ محمّد متولّي الشّعراوي: “والظّالمُ حين يظلمُ لا يأخذُ حقَّ غيرِه فقط، بل يُغْري غيرَه من الأقوياءِ على أخذِ حقوقِ الضُّعفاء وظلمِهم، وإذا انتشرَ الظّلمُ في مجتمعٍ تأتي معهُ البطالةُ وتتعطّلُ حركةُ الحياةِ كلّها”.

أمّا المفكّر الإسلاميُّ مصطفى السّباعي فيحثُّنا على التّفاؤلِ والعمل، فمِنَ الفشلِ يبدأُ سلّمُ النّجاح، ومن الهزيمةِ ترتسمُ معالمُ النّصر، ومن المرضِ تعلُو الهمّةُ للعبادة، ومن الفقرِ يبدأُ الكفاحُ، ومن الآلامِ ينشقُّ بابٌ إلى الخلُود، ومن الظّلمِ تتولّدُ بواعثُ التّحرّر، ومن القيودِ تنبعثُ عزائمُ الانطلاقِ.

ويلخّصُ لنا شيخُ المجاهدينَ عمرُ المختار الفرقَ بين الظّالمِ والمظلُوم، فمِن الظّلمِ يولَدُ الأبطالُ: “إنّ الظّلمَ يجعلُ من المظلومِ بطلاً، وأمّا الجريمةُ فلا بدّ من أن يرتجفَ قلبُ صاحبِها مهما حاولَ التّظاهرَ بالكِبرياء”.

وحينَما تتحقَّقُ العدالةُ بين بني البشرِ لا يلتزمُ الإنسانُ وحدَهُ بالنّظام، بل تحدوهُ الحيواناتُ في ذلك، على نحوِ ما قال المفكّرُ الكبير إبراهيمُ الفقي: “عندما يتحقَّقُ العدلُ.. حتّى الحيواناتُ تلتزمُ بالنّظام”.

ونقفُ مع كوكبةٍ مشرقةٍ من أقوالِ الثّائر الكوبيّ تشي جيفارا في معاني العدلِ والظّلم، إذ يرى أنّ مقاومةَ الظّلمِ ليس لها انتماءٌ إلى دينٍ أو عرقٍ أو مذهب، وإنّما تولَدُ من طبيعةِ النّفسِ الأبيّة الرّافضةِ للذّلِّ والسّاعيةِ إلى التّحرُّر: “إنّ مقاومةَ الظّلم لا يحدّدُها الانتماءُ لدينٍ أو عرق أو مذهبٍ، بل تحدّدُها طبيعةُ النّفسِ البشريّة الّتي تأبى الاستعبادَ وتسعى للحرّيّة!”.

ويعبّر جيفارا عن سعةِ انتشارِ الظّلمِ في العالم بقولِه: “خلال رحلتِنا الطّويلةِ يا رفيقي، كان هناك شيءٌ واحدٌ دائماً ما نراهُ، شيءٌ أخذتُ أفكّر فيهِ طويلاً وكثيراً.. إنّه الظّلمُ، العالمُ مليءٌ بالظّلم”.

ويتضامنُ جيفارا مع المظلومينَ في العالم ويُحسُّ بإحساسِهم، ويَعدُّ كلَّ بقعةٍ من بقاع العالمِ وطنَه الّذي يسعى لتحريرِه من الظّلم: “أحسُّ على وجهي بألمِ كلِّ صفعةٍ تُوجَّهُ إلى مظلومٍ في هذهِ الدّنيا، فأينَما وُجِد الظّلمُ فذاكَ هو وطني”.

وتتدفّقُ فلسفةُ التّنويرِ الاجتماعيّ نوراً من ضياءِ فكرِ الإمامِ الكبير محمّد الغزاليّ حينَما يرى أنّ: “إقامةَ صروحِ العدلِ الاجتماعيّ في بلدٍ مختلٍّ، كإقامةِ قواعدِ الأدب في بلدٍ مُنحلٍّ”. وعلى رأي المثلِ: (لا يُصلحُ العطّارُ ما أفسدَ الدّهرُ).

وأنا أقولُ وقد فاضتْ قريحتي بالنُّور وتحرّرتْ من الدّيجور:

– لا يمكنُ لأمّةٍ مسلوبةِ الإرادةِ والمقدَّراتِ أن تحلمَ بالحرّيّةِ وإقامةِ العدل!

– لا يمكنُ لأمّة تمارسُ ألعابَ الأطفالِ بالبالوناتِ على الأرضِ أن تصنعَ مناطيدَ تستكشِفُ عوالمَ الكواكبِ في السّماء!

– لا يمكنُ لأمّةٍ ينهشُ فيها ذؤبانُها قطعانَها وعُقبانُها طيورَها أن تسنَّ قانوناً صحيحاً في العدالةِ!

– لا يمكنُ لأمّةٍ تتلاعبُ بها دببُ السّلامِ أن تحلمَ ذاتَ يومٍ بالأمنِ والسّلام!

– لا يمكنُ لأمّةٍ دينُها وديدنُها الكلماتُ والشّعاراتُ أن تبنيَ صرحاً واحداً من صروحِ الحضاراتِ!

– لا يمكنُ لأمّةٍ تطاردُ البلابلَ في البساتينِ، وتلاحقُ الفراشاتِ في الحقولِ، وتغتالُ الكلماتِ والقصائدَ في الأحلامِ أن تكتبَ جملةً واحدةً في سجلِّ تاريخِ الإنسانِ، وأن تمتطيَ خلقاً من أخلاقِ الحيوان!

– لا يمكنُ لأمّةٍ دأبُها في الظّاهرِ عبادةٌ وإيمانٌ وجوهرُها شركٌ ونكرانُ أن تكونَ بمكانةِ أمّةٍ تتعبّدُ في محاريبِ الفيَلةِ وترى النّعيمَ من فُوّهاتِ خراطيمِها!

– لا يمكنُ لأمّةٍ أخفقَت في ثقبِ إبرةٍ لترقيعِ ثوبِها المهترئِ أن تنجحَ في ثقبِ أعماقِ البحارِ والمحيطاتِ بغوّاصةٍ!

– لا يمكنُ لأمّةٍ كلُّ مذهبٍ فيها عقيدةٌ، وكلُّ زعيمٍ فيها أمّةٌ، وكلُّ فيلسوفٍ فيها ربُّ الفلاسفةِ أن تحلمَ بوحدةِ العقيدةِ أو بوحدةِ الكلمةِ أو بتكاملِ علومِ المعرفة!

– لا يمكنُ لأمّةٍ تشتري الأقلامَ والدّفاترَ أن تصنعَ جيلاً من العلماءِ يبني الأرضَ ويغزو الفضاءَ!

– لا يمكنُ لأمّةٍ تبذُرُ في عقولِ أبنائِها بذارَ الجهلِ أن تُنبِتَ أشجاراً من اللّيمونِ في حدائقِ الحياة!

– لا يمكنُ لأمّةٍ تستعبدُها قوانينُ الطّبيعةِ بأبسطِ أشكالِها أن تبنيَ سدوداً من العلمِ والتّكنولوجيا لمقاومةِ ما يهدّدُها من ديدانٍ تنهشُ في أحشائِها!

– لا يمكنُ لأمّةٍ تتّخذُ الدّينَ سياسةً وتحاربُ الدّينَ عقيدةً أن تكونَ أمّةً بينَ الأمم!

العدلُ والظّلم في الشّعر

تناولَ الشُّعراءُ موضوعَ العدلِ والظّلم، وبيَّنُوا أنواعَ الظّلم، وسخِرَ بعضُهم من العدلِ الّذي لم يتحقّق يوماً في الأرضِ، ومن المحالِ أن يتحقّقَ؛ لأنّه لا يخضعُ لقانونٍ أو عقوبةٍ كما قال ابنُ خلدونَ فيما قدّمْنا، ولكنَّ الأملَ معقودٌ على العدلِ الإلهيِّ الّذي نجدُ ظلَّهُ في الأرض وننتظرُ نعيمَهُ في الآخرة.

فها هو جبرانُ خليل جبران يسخَرُ من هذا العدلِ الإنسانيِّ الّذي يُبْكي الجنَّ إن رأَوه، ويستضحِكُ الأمواتَ لو شاهدُوه، ومن مشاهدِ العدلِ المضحكةِ أن ترى صغارَ الجُناةِ في السّجونِ أو القُبور، لكنّ الجناةَ الكِبار يكافؤُون بالمجدِ والفخرِ والثّراء، ومن صورِه المضحكةِ المبكيةِ أنّ سارقَ الزّهر منبوذٌ ومحتَقرٌ، وسارقَ الحقلِ صنديدٌ ومغوار، وكذلك قاتلُ الإنسانِ جسداً يُقتلُ بجنايتِه، أمّا قاتلُ الرّوح فلا يدري به البشرُ:

وَالعَدلُ في الأَرضِ يُبكي الجِنَّ لَو سَمِعُوا بِــهِ        وَيستَضْحِكُ الأَمـــــــــــــــــــواتَ لَــو نَظَـــــــــــــــروا

فَالسِّجنُ وَالمَــــــــــــــوتُ لِلجـــــــانينَ إِن صَغُرُوا         وَالمَجـــــــــــــــدُ وَالفَخْـــــــــرُ وَالإِثــــــــــــراءُ إِن كبُرُوا

فَســـــــــــــــارقُ الزَّهـــــــــــــــرِ مَـــذمُـــومٌ وَمُحْــــتَقَرٌ        وَســـــارِقُ الحَقــلِ يُدْعى الباسِــــــــــلُ الخَــــطرُ

وَقـــــــــــاتـــــلُ الجِســـــــــــــــمِ مَقتـــــــولٌ بِفعلَــتِهِ        وَقــــــــــــــاتلُ الـــــــــرُّوحِ لا تَــــــدْري بِــــــــــــهِ البَشَـــرُ

أمّا الشّاعرُ محمود سامي الباروديّ، فيرى أنَّ أشدَّ أنواعِ المصائبِ الغدرُ بعدَ الثّقة، وأقبحَ أنواعِ الظّلم الصّدُّ بعدَ الإقبالِ، وهذا يكونُ في كلِّ أنواعِ العلاقاتِ الإنسانيّةِ في الحبيبِ والصّديقِ والقريبِ والبعيدِ:

أدهى المصائبِ غـدرٌ قبلَهُ ثِقةٌ        وأقبحُ الظُّلمِ صدٌّ بعــــــدَ إقبـــــالِ

وأمّا أبو الطّيّبِ المتنبّي فيعدُّ الحسدَ أشدَّ أنواعِ الظُّلم:

وَأظلَمُ أهلِ الظّلمِ مَن باتَ حاسِداً        لمَـــــــــــنْ بَـــــــــــــاتَ في نَعْمـــــــــائِهِ يَتَقَلّــــــــــبُ

ويصفُ طرفةُ بنُ العبد أثرَ ظلمِ الأقاربِ على الإنسان، ويرى أنَّ وقعَه على النَّفسِ أشدُّ من طعنِ السّيفِ المهنّدِ على الجسم:

وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَـدُّ مَضاضَةً         عَلى المَرءِ مِن وَقْعِ الحُســــامِ المُهَنَّدِ

ويعبّر الشّاعرُ إيليا أبو ماضي عن سخريتِه من الخضوعِ التّامّ لرأيِ الأكثريّة، فقد ينْطوي هذا الرّأيُ على كثيرِ من الحَيفِ والظّلمِ والبهتان، ورأيُ الأكثريّةِ يختلفُ من مجتمعٍ إلى آخرَ ومن دولةٍ إلى أُخرى، فما يكونُ حلالاً هُنا قد يكونُ محرّماً هناكَ والنّقيضُ صحيحٌ، وقلْ ذلكَ في كلِّ العاداتِ والتّقاليدِ الّتي تعبّرُ عن رأيِ الأكثريّة، والإنسانُ أمامَ هذه التَّبعيَّةِ لحكمِ الأكثريّة إمّا أن يُثابَ بمكافأةٍ أو يُجْزى بعقابٍ كالطّفلِ الّذي يرضَى بظلمِ أبويهِ إمّا طمعاً بهديّةٍ أو خوفاً من عقابٍ:

لَمّا سَــأَلْتُ عَــــــــــــــــنِ الحَقيقَــــةِ قيــلَ لي        الحَـــــــــــــــــقُّ مـــــــــا اِتَّفَـــــــقَ السَّــــــوادُ عَلَــــيهِ

فَعَجِبْتُ كَيفَ ذَبَحتُ ثَورِيَ في الضُّحى         وَالهِنْــــــــــــــــدُ ســــــــــــــاجِدَةٌ هُنـــاكَ لَدَيـــــــــــهِ

نَـــــــــــرضَى بِحُــــــــكمِ الأَكـــثَرِيَّـــــــــةِ مِثلَـــــما         يَرضَى الوَليـــــــــــــــدُ الظُّلـــــــــمَ مِــــــن أَبَوَيـــــــهِ

إِمّـــــــــــــــا لِغُـــــــــنْمٍ يَـــــــــــرتَجِــيــــــــهِ مِنهُمــــا         أَو خِيْـــــــــــــــــفَةً مِـــــــــــــــــنْ أَن يُسَـــــاءَ إِلَيــــــــــهِ

أمّا الشّاعرُ فاروق جُوَيدة فقدْ زهدَ في هذهِ الدّنيا الّتي بخلَتْ على الفقراءِ والضُّعفاء بعدلِها ولم تُنصِفْهم، ورضيَ بعدلِ الله في جنَّةِ الخُلد حيثُ الرّحمةُ الواسعةُ الّتي تُؤْوي هؤلاءِ الفقراءَ والمحرومين فتعوّضُهم عمّا افتقدُوه في دنياهُم:

إنْ كانتِ الأرضُ بالإنصافِ قدْ بخلَتْ!        في جنّـــــــــــــــةِ الخُلـــــدِ نلْقى العـدلَ راضِينا

في رحمــــــــــــــــــــةِ اللهِ أبــــــوابٌ مجنَّـــحــــةٌ        تُؤْوي القلــــــــــوبَ الّتي عـــــــــانَتْ وتُؤْويـــــنا

ويعبّرُ الشّاعرُ العبّاسيُّ أبو العتاهية عن هذا المعنَى، فإنَّ الظّلمَ شؤمٌ ومصدرُه الظّالمُ المصرُّ على ظلمِه، وإن أفلتَ من الحسابِ في هذهِ الدُّنيا فعندَ الله يجتمعُ الظّالمون والمظلُومون، فينالُ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه:

أمَا واللهِ إنَّ الظُّلْــــــمَ شُــؤمٌ        وما زَالَ المُسيءُ هـوَ الظَّلُومُ

إلى ديّانِ يــومِ الدّينِ نَمضِي        وعنّدَ اللهِ تَجتمعُ الخُصُــومُ

لكنَّ الإمامَ الشّافعيَّ رحمَهُ اللهُ لهُ مذهبٌ آخر، إذ يرى أنّ الظّالمَ يَلقى جزاءَه في الدُّنيا قبلَ الآخرة، فكَم من ظالمٍ مستبِدٍّ اتّخذَ الظّلمَ مذهباً، وراح يتيهُ في اكتِسابِه ولا يُلقي بالاً على أحدٍ فيظنُّ النّجومَ تحتَ إمرتِه، فيأتيهِ عقابُ اللهِ بصروفِ الدّهرِ والنّائباتِ، فيُصبحُ بلا مالٍ ولا جاهٍ ولا حسناتٍ في كتابِه، فكان جزاؤُه من اللهِ على ما جنَتْ يداهُ بصبِّ سوطِ العذابِ عليه:

إِذَا ظَـالِمٌ يَسْتَحْسِنُ الظُّلْمَ مَذْهَباً        وَلَــــــــجَّ عُـتُــــــــــوًّا فِـي قَـبِـيـحِ اكْتِسَــــابِهِ

فَـكِـلْـهُ إِلَـى صَـــــــرْفِ الـلَّـيَــــالِي فَــإِنَّهَا        سَـتُبْدِي لَهُ مَــــــــا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَــــابِهِ

فَـكَـــــــــــمْ قَـدْ رَأَيْـنَــا ظَـالِـمـــاً مُـتَـمَرِّداً         يَـرَى الـنَّجْــــــــــمَ تِيهـاً تَحْـــتَ ظِلِّ رِكَابِهِ

فَـعَـمَّـا قَـلِـيــــــــلٍ وَهْــوَ فِـي غَـفَـــلَاتِـهِ         أَنَـاخَــــــــــتْ صُــــــرُوفُ الْـحَـادِثَاتِ بِبَابِهِ

فَأَصْـبَـحَ لَا مَــــــــالٌ وَلَا جَــاهَ يُـرْتَجَى         وَلَا حَـسَـــــــــــــنَـاتٌ تُـلْـتَـــقَـى فِي كِتَــــــــــابِهِ

وَجُـــــــوزِيَ بِـالْأَمْـرِ الَّـذِي كَانَ فَـــاعِلًا        وَصَـبَّ عَـلَـيْــــــــــــهِ الـلـهُ سَــــــوْطَ عَـــــذَابِهِ

وقد عبّر الشّاعرُ الكبير نزار قبّاني عن الظّلم الّذي لحقَ بأهلِ فلسطينَ الحبيبةِ، فقد تكحّلتْ نساؤُها بكحلِ الحزنِ والأسى، كما امتلأَتْ بيتُ لحمٍ بالقاصراتِ والقُصَّر، ويبسَ اللّيمونُ في يافا؛ لأنّ الشّجرَ يأبى أن يُزهرَ في قبضةِ الظّلم:

نـســاءُ فِـلسطـيـنَ تـكـحّـلْـــنَ بالأسَــــى        وفـى بيْتِ لَـحـــــــمٍ قـاصِــراتٌ.. وقُـصَّــرُ

ولــيمُـونُ يــافـــا يـــابسٌ فـي حــقولِـــــهِ        وهل شجَــرٌ في قبضـةِ الظُّلـــــــــمِ يُزهِرُ؟

لكنّ شاعرَ الثّورةِ والتَّمرُّد أحمد مطر يَكفُرُ بالأقلامِ والدّفاترِ واللّغةِ الفُصحى وبالشّعرِ إن لم يستطِعْ إيقافَ الظّلمِ وتحريكَ الضَّمائر:

كفرْتُ بالأقلامِ والدّفاتِرْ

كفرْتُ بالفُصْحى الّتي

تحبلُ وهيَ عاقِرْ

كَفَرتُ بالشِّعرِ الّذي

لا يُوقِفُ الظُّلمَ ولا يُحرِّكُ الضّمائرْ

وختاماً أقولُ مهما طالَ الظّلامُ فلا بدَّ من بزوغِ الفجرِ، ومهْما طالَ أمدُ الظّلم فلا بدَّ للعدالةِ الإلهيّةِ أن تبسطَ العدلَ وتُهلكَ الجَورَ، والويلُ لمن اتّخذَ الظّلمَ منهجاً وسلوكاً.. الويلُ لمن يفرّقُ بين جنسينِ أو لونينِ أو عرقينِ أو مذهبَين، ولا يقيمُ العدلَ بينَهما في الأجرِ والمعاملةِ، فالتّاريخُ بينَنا قريبٌ لنشهدَ عواقبَ الظّلمِ الممنهجِ في كلِّ ركنٍ يحملُ يافطاتِ الكذبِ والخداعِ والبهرجةِ الزّائفة!

الشّارقة في 28/12/2023

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات