صراعُ الأضداد: النّعيم والجحيم

كلُّ ما يسعِدُ الإنسانَ في الحياةِ نعيمٌ إذا ما اقترنَ بسعادةِ الآخرين لا بشقائِهم، وكلُّ ما تجنِيه يدُ الإنسان من خيرٍ له وللإنسانيَّةِ فهو فردوسٌ، وكلُّ ما يَسْمو بكرامةِ الإنسانِ من قولٍ أو فعلٍ دون الإجحافِ بحقوقِ الآخرين غضارةٌ، وكلُّ ما يجعلُه حرّاً طليقاً دون إسفافٍ بحرّيةِ الآخرين فهو نضَارةٌ، وكلُّ إيمانٍ بالغيبِ دون إكراهٍ بالسَّيفِ أو إخضاعٍ بالاستحمارِ فهو رخاءٌ إذا لم يُنافِ تعاليمَ الأديانِ السّماويّةِ الّتي تُؤمنُ بالغيبِ فِكراً ولُبّاً بعيداً عن تُرّهاتِ المُجترّين والمقَولَبِين في قواقعِ الجهلِ والعَمى..

كلُّ ما يُشْقي الإنسانَ في الحياة من جهلٍ وعاداتٍ وأفكارٍ تحطُّ من قدرِه وتجعلُه عبداً ذليلاً لا يملكُ من كرامتِه وحرّيّتِه ذرَّةَ إحساسٍ جحيمٌ، وكلُّ ما يكبِّلُ الإنسانَ ويحدُّ من طاقاتِه وإبداعاتِه جهنَّمُ.. كلُّ ما يُؤلمُ الإنسانَ جسداً وروحاً هو غمٌّ، وكلُّ ما يَحرمُ الإنسانَ من إنسانيَّتِه في العيشِ الكريم هو بؤسٌ.. كلُّ ما يُذِلُّ الإنسانَ من فاقةٍ وعوزٍ وحرمانٍ فهو لجّةٌ مستعرةٌ من أعماقِ الجحيم.. كلُّ نظامٍ استبداديٍّ يَطغى على مواطنِيه بقوّةِ السِّلاح -وهو أرنبٌ جبانٌ أمام أعدائِه- سعيرٌ يشوِّهُ نعيمَ اللهِ على الأرض!

حينَما يَحيا الإنسانُ بإيمانِه النّابعِ من ذاتِه لا بإيمانِه الّذي يُخدَّرُ به اجتراراً وتلقيناً، فهو في نعيمٍ دنيويٍّ يُدْنيه إلى نعيمِه الأبديِّ.. وحينَما يعيشُ الإنسانُ حرّاً أبيّاً لا تُكبِّلُه الأغلالُ، ولا تصفِّدُه سلاسلُ الجبابرةِ الطُّغاةِ يَحيا في نعيمٍ يسمُو به إلى نعيمِه السَّماويِّ.. حينَما يرتَقي الإنسانُ بجودِه وخيرِه في نفعِ البشريّةِ تسمُو به يدُ اللهِ إلى فردَوسِه المفعَم بالخيرِ والعطاء.. حينَما تتفجَّرُ طاقاتُ الإنسانِ في الإبداعِ والابتكارِ والاختراع لخدمةِ الإنسانيَّةِ في سلمِها وأمنِها وسعادتِها وطمَأْنينتها ورفاهيَّتها تطيرُ به أعمالُه إلى عالمِ الغيبِ والشَّهادة دونَ الحاجةِ إلى مفاتيحِ السَّماسرةِ الّذين يوزّعُونها بصكُوكِ القتلِ والإجرامِ وإرهابِ العالم..

كلُّ معتقدٍ يجمعُ النّاسَ على المحبّةِ والخير والسّلامِ، ويصونُ الحقوقَ، ويحقّقُ العدالةَ نعيمٌ تمتدُّ خيوطُ صراطِه المستقيمِ من الأرضِ إلى السّماء دون وسائلِ الدِّعايةِ من لحىً تتقطَّرُ دماً وشقاءً وبؤساً، ودون عباءةٍ تفيضُ من ظلماتِها الأفاعي والوحوشُ، وتسيلُ من حواشيها سمومُ الزّقُّومِ والغِسْلين..

النَّعيمُ والجحيمُ في اللُّغة:

النَّعِيمُ: حسنُ الحالِ وراحةُ البال، ما يُتلذّذُ به في الدُّنيا من الصِّحَّةِ والفراغ والأمنِ والمطعم والمشربِ، جنَّاتُ النَّعيم: الفردوسُ السَّماويُّ، دارُ النَّعيم: الفِرْدوسُ، مقرُّ الأبرار، فِرْدَوس النَّعيمِ: اسمُ الجنَّةِ الّتي أسكنَها اللهُ آدمَ حتّى عصَى، فلانٌ نعيمُ البالِ: هادئٌ مرتاحٌ، نعيمُ اللهِ: رحمتُهُ، نقيضُه العذابُ الأليمُ..

الجَحيمُ: مكانُ عذابٍ لا يُحتَملُ، أو مكانٌ شديدُ الحرِّ، صارت حياتُه جحيماً، جحيمُ المعركةِ: نارٌ شديدةُ التَّأجُّج، عكسُه نعيمٌ: كقوله تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ). إلى الجحيمِ: دعاءٌ بالهلاكِ، هذا الحرُّ أصبحَ جحيماً: حرٌّ لا يُطاق. الجحيمُ: اسمٌ من أسماءِ جهنَّم: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ).

ولو عدْنا إلى مفهومِ النَّعيم في التُّراثِ الإسلاميّ لوجدْنا أنّ النّعيمَ الدُّنيويَّ -الّذي لا يُمكن الوصولُ إليه إلّا بالإيمانِ المطلقِ القائمِ على العباداتِ السّليمةِ والأخلاقِ النّبيلةِ الّتي تحقّقُ للمؤمنِ الصّالح سعادةً دنيويَّةً تُنيسهِ آلامَه وبؤسَه وشقاءَه وتعودُ بالخير عليه وعلى مجتمعِه- هو في جوهرِ السَّعادةِ الإيمانيّةِ الدّنيويّةِ وهي مقدّمةُ السّعادةِ الأبديّةِ في عالم النّعيمِ الخالد.

أمّا في الإصلاحِ الدّيني البروتستانتيّ، فقد تمَّ الرّبطُ بين سعادةِ الدّنيا وسعادةِ الآخرة، أو بين نجاحِ الدّنيا ونجاحِ الآخرة، بعد أنْ كان السّعيُ إلى النّجاح الدّنيويِّ رذيلةً؛ لأنّه يصرفُ الإنسانَ عن العملِ من أجلِ الآخرة، لكنّه وفقَ هذا الإصلاحِ فقد أصبح فضيلةً؛ فأيُّ نجاحٍ في هذه الدُّنيا دليلٌ على النَّجاحِ في الآخرة، فمَن يستطيعُ تحقيقَ ملامحِ فردوسٍ آنيٍّ على الأرض، يستحقُّ بشكلٍ مبدئيّ سعادةَ فردوسِ السّماء.

النّعيمُ والجحيم في النَّثر

أمّا الأدباءُ والمفكّرونَ فلهُم نظراتٌ مختلفةٌ في الوصولِ إلى النَّعيمِ إنْ في الأرضِ أو في السَّماء؛ لأنّهم يُدركُون بعبقريّاتهم أنّ الإنسانَ بسلوكِه وأخلاقِه لا بخرافاتِه وترَّهاتِه هو من يرسمُ معالمَ النَّعيمينِ حينَما يسعى لخيرِ النّاس وسعادتِهم، لا لدمارِهم وبؤسِهم وشقائِهم وعذابِهم وآلامِهم.

فها هو الكاتبُ والمفكّرُ الأمريكيُّ (كورت فونيجت جونيور) يرى أنّ النّعيمَ الدُّنيويَّ سيكون في أبهى معالمِه المثاليّة لو أنّ البشرَ طيِّبون وحكماءُ. لكنّ هذهِ الرّؤيةَ من عالمِ الأحلامِ مثلَ جمهوريّةِ أفلاطونَ لا يمكنُ تحقيقُها، وقد جاءَت مقترنةً بـــ (لو) على لسانِ الكاتب، فمِن أين سنأتي بالطّيِّبينَ والعالمُ غابةُ وحوشٍ يفترسُ فيها الغنيُّ الفقيرَ، ويطحنُ فيها القويُّ الضَّعيفَ، وتقودُه الآلهةُ البَلْهاء بينَما تغصُّ الزَّنزاناتُ بالحكماءِ والقبورُ بالفُقراء؟!

وأنا سأُجيبُك أيُّها الكاتبُ المسكين على رؤيتِكَ الفلسفيَّةِ الّتي تُلْقي باللّائمةِ على البشرِ، وكان عليكَ أن تحدّدَ أيَّ نوعٍ من البشرِ تقصدُ؟!

هناكَ بشرٌ في العالمِ طيّبون في مختلفِ بقاعِ المعمُورة، وهناكَ حكماءُ في العالمِ ترونَهم خارجينَ على قوانينِكم، فأنتم تريدونَ قطعاناً من البشرِ تقودونَها إلى المراعي كي تحقّقُوا مطامعَكم ومصالحَكم، وتريدون حكماءَ يُنظّرون لسياساتِكم في السَّيطرةِ على العالم.. وها أنا أعطيكَ الأدلّةَ تلوَ الأدلّةِ فيما أرى من وجوهِ الحقائقِ على الأرض مستخدماً أسلوبَك الرّومانسيَّ المثاليَّ القائمَ على الشّرطِ المستحيلِ تحقيقُه؛ لأنّكم تمتلكُون إجاباتِ التَّحقُّق بغطرستِكم.

• لو أنّكم ما صنعتُم الحروبَ والأسلحةَ الفتّاكة ودمَّرتُم مدناً ودولاً وسحقتُم أمماً بدائيّة طيِّبةً، لكان العالمُ نعيماً يُضاهي نعيمَ السَّماء بالطّيّبينَ والحكماءِ!

• لو أنّكم عرفتُم ربَّ النَّعيم في السَّماء وما جعلتُم مصالحكُم إلهاً في الأرضِ تعبدُون في محاريبِها المالَ والقوّةَ والسّلاح وتتهافتُون كالجراد إلى نهبِ ثرواتِ الشّعوبِ الفقيرة المغلوبةِ على أمرِها لكانتِ الأرضُ نعيماً يماثلُ نعيمَ الآخرة!

• لو أنّكم لم تنشرُوا الفسادَ والدَّمار في الأرضِ وتركتُم النّاسَ البُسطاء يعيشُون على مقدَّراتِهم، لكانتِ الأرضُ في سلامٍ يضارعُ سلامَ الفردوسِ في السّماء!

• لو أنّكم لم تنشرُوا أساطيلَكُم المدمِّرةَ في شتّى أصقاعِ البحارِ والمحيطاتِ، لعاشَ النّاسُ الطّيّبون في أمنٍ وطمأنينةٍ عيشَ الخالدينَ في النَّعيمِ السّماويّ!

• لو أنّكم تركتُم العالمَ يسنُّ قوانينَ السّلامِ فيما بين أجزائِه دون أن تصنعُوا فيتُو من هنا وإجماعاً دوليّاً من هناكَ يضمُّ ثلّةً من القِطعان الخاضعةِ لكُم لمحاربةِ دولٍ ومجموعاتٍ ما زالتْ تعيشُ في الكهوفِ والأنفاقِ، لكان العالمُ في جنّةٍ من جنانِه على الأرض!

• لو أنّكم قُدْتُم العالمَ إلى السّلامِ بالأخلاقِ الإنسانيَّةِ النَّبيلة الّتي لو تحلَّيتُم بها، لما كان في العالمِ إرهابيٌّ واحدٌ كما تزعمُون ويزعمُ أذنابُكم في عالمِنا الشَّرقيّ الغارقِ في أحلامِ اليقظةِ على لمعانِ سيفِ عنترةَ العبسيّ وهدهدةِ أنشودةِ (الواوا)، لتوسّدَت الدُّنيا بأسرِها وسائدَ النَّعيم!

• لو أنّكم لم تلوِّثُوا الفضاءَ بدخانِ حقدِكم وصناعاتِكم الجائرةِ للسَّيطرةِ على العالم، لتنفَّسَت البشريَّةُ نسائمَ الجِنانِ القادمةِ من نعيمِ السّماء!

• لو أنّكم تركتُم الكواكبَ تنعمُ بالسّلامِ بعيداً عن مغامراتِكم الشّرّيرة، لما أصبح كوكبُنا الأرضيُّ في خطرٍ تتهدَّدُه المذنّباتُ والكواكبِ الجامحةُ بشتّى أصنافِ المخاطر!

• لو أنّكم لم تسرقُوا أفكارَ العباقرةِ والملهمينَ لتنسبُوا إبداعاتِهم إليكُم بعد أنْ مسحتُم أجسادَهُم وأرواحَهم وسجِلّاتِهم من الأرضِ، لكانَ العالمُ يغصُّ بالعلماءِ والحُكماء!

• لو أنّكم لم تتَفانَوا في صناعةِ الأوبئةِ والفيروساتِ الّتي تقضُّ مضاجعَ العالمِ كلَّ هنيهةٍ، لعاشَت أرواحُ النّاسِ بلا آلامٍ كما يحيىَ الأبرارُ في النَّعيم!

• لو أنّكم لم تؤلِّبُوا الشُّعوبَ والأممَ بعضَها على بعضٍ في حروبٍ مدمّرةٍ تستدعي تدخُّلَكُم الأفلاطونيَّ الحكيمَ، لعاشتْ أممُ الأرضِ في سلامٍ ربّانيٍّ سليمٍ!

• لو أنّكم انكفأْتُم على أنفسِكم وصنعتُم ما تشاؤونَ من تقدُّمٍ علميٍّ وتكنولوجيّ، وزهدتُم عن العالمِ يقرّرُ مصيرَه كما يشاءُ، لما آلتِ السّياسةُ إلى مدرسةٍ تخرّجُ الشّياطينَ الّتي يعجزُ عن إدراكِ خبثِها شياطينُ الجحيم!

• لو أنّكم لم تصنعُوا في العالمِ دكتاتوريّاتٍ مارقةً على كلِّ القيمِ الأخلاقيّةِ والدّينيّةِ، لعاشتِ الشُّعوبُ حرّةً كريمةً دون نظريَّاتِكُم الطّوباويّةِ في الحرّيّةِ والدّيمقراطيّةِ وحقوقِ الإنسانِ والحيوان!

• لو أنّني أمتلكُ مثلَكَ أيّها الكاتبُ حرّيّةَ القولِ والفعلِ والاختيارِ، لما تردَّدْتُ في اختيارِ رجلٍ حكيمٍ يقودُ البشرَ إلى طيبتِهم، وبذلكَ نكونُ قد وضعْنا خُطانا على أبوابِ النَّعيم! كما تمنّى الفنّانُ اللّبنانيُّ الكبير وديعُ الصّافي لو أنَّ نيرونَ رعى مع (الرّعيان) وقادَ روما جبرانُ خليل جبران، لكنّ عبارةَ (يا ليت) لا تعمّرُ بيتاً ولا تَبني داراً.

• لو أنّكم تحترمُون الحكماءَ لما منعتُم المفكّرينَ الشُّرفاء من دخولِ بلادِكم كما فعلتُم مع الكاتبِ الكولُومبي (غابرييل غارسيا ماركيز)، فقد رفضتُم منحَه تأشيرةَ دخولٍ إلى وطنِكم المقدَّسِ حين دَعَتْهُ إحدى المؤسَّساتِ الأدبيّة في بلادِكم لإجراءِ حوارٍ معه حول روايتِه المشهورة (مئة عام من العزلة) الّتي أَهّلَتْه للفوزِ بجائزةِ نوبل للآداب. فقال قولتَهُ الشَّهيرةَ الّتي أصبحَت مثلاً على ألسنةِ الأدباء والمفكّرين: “هؤلاءِ الأغبياءُ لا يعرفُون بأنَّ تأثيرَ الكاتبِ ليس بجسدِه بل بأفكارِه، أفكاري دخلَتْ بلادَهم دونَ تأشيرةِ دخولٍ”.

وأعودُ بعد أن أشبعتُ (لو) شرحاً وتبسيطاً وتعليلاً إلى ما بعدَها من أقوالٍ ورؤىً في عالميّ النّعيمِ والجحيم؛ لأحلِّلَ وأسكبَ عصارةَ فكري في مخابرِ التَّحليلِ؛ لعلّني أصلُ إلى نعيمٍ من الفكر؛ لأصدَّ نفسي وغيري عن أبوابِ الجحيم.

فها هو الكاتبُ والشّاعر الفرنسيُّ الكبير فيكتور هوغو يُؤْثر “جحيمَ العاقلِ على جنّةِ الغبيِّ”.

أمّا الكاتبُ الأمريكيُّ أرنست همنغواي فيشبِّهُ وقتَه بالجحيم وهو بعيدٌ عن حبيبتِه، ويتمنّى أن يتماسكَ مع ذاتِه، لكنَّ الشَّوقَ قتّالٌ، كما قلتُ في عنوانِ مقالٍ آخرَ: (ومن الشَّوقِ ما قتَل): “الوقتُ هنا يُشبهُ الجحيمَ وأنا بعيدٌ عنكِ، أحاولُ التَّماسكَ ولكنّني أشتاقُ لكِ كثيراً لدرجةِ الموتِ”.

لكنَّ المثلَ الرّوسيَّ يضربُ عُرضَ الحائطِ بأهوالِ الجحيم غيرَ مدركٍ حجمَ العذابِ والشّقاء الّذي يُعانيهِ أهلُ النّار في الجحيم فيَرى أنّه “بإمكانِ المرءِ أن يعتادَ كلَّ شيءٍ حتّى الجحيم”.

ولكنّني لا أدري ما وجهُ الشّبهِ بين الجنّةِ والحقيقةِ، وكيف تمرُّ الطّريقُ المؤدّيةُ إلى كلَيهما عبرَ الجحيم، فقد يُعرّضُ مَن يقولُ الحقيقةَ نفسَه للجحيمِ، ولكنَّ الطّريقَ إلى الجنّةِ واضحةُ المعالمِ ودروبَ الجحيم متعرّجةٌ شائكةٌ تنذرُ بالهلاكِ، كما زعمَ أحدُ الكتّاب حينَ قال: “وجهُ الشّبهِ بين الجنّةِ والحقيقة أنّ الطّريقَ المؤدّية إلى كلَيهما تَمُرُّ على الجحيم”.

ونقفُ على قولٍ طريفٍ مع الكاتبِ البرازيليّ باولو كويلّو حين يقارنُ حديثَ النّاسِ إلى الطّبيبِ النّفسيّ مع حديثِهم إلى قسّيسٍ: “يتحدّثُ النّاسُ بصراحةٍ أكبرَ مع الطّبيبِ النّفسيّ أكثرَ من الحديثِ مع قسّيسٍ.. لأنّ الطّبيبَ لا يهدِّدُهم بالجحيم”.

ويُطالعُنا الشّاعرُ الإنجليزيُّ (ألفريد تنيسون) -وهو من أبرز شعراءِ القرنِ التّاسعَ عشر- برأيٍ فريدٍ يجعلُنا في حيرةٍ من أمرِنا بمبتغاهُ القريبِ أو البعيدِ من تفاوتِ الرّجالِ ما بين الدُّنيا والجنّةِ وتفاوتِ النّساءِ ما بين الجنّةِ والجحيم: “تفاوتَ الرّجالُ ما بين الجنّةِ والدُّنيا، وتفاوتَ النّساءُ ما بين الجنّةِ والجحيم”. ولم نعرفْ ما مقياسُ هذا التّفاوتِ أهو فكريٌّ أم نفسيٌّ أم سلوكيٌّ أم دينيٌّ أم فلسفيٌّ؟! وهل هذا التّفاوتُ نرمزُ له رياضيّاً بعلامةِ (أصْغر) أم (أكْبر) في حالِ الرّجال بين الجنّةِ والدُّنيا، وكذلكَ الأمرُ ما بينَ الجنّةِ والنّار في حالِ النّساء، لكنّنا لا نستطيعُ القولَ إلّا “العلمُ عندَ الله” أو ربّما أوقعَنا المترجمُ في هذا التّخبُّط!

وتبلغُ الفلسفةُ الواقعيّةُ ذروتَها في قولِ المثلِ البولونيّ الرّائعِ (عندما تبدأُ الحربُ يفتحُ الجحيمُ أبوابَه) الّذي سيفاجئُ رجالَ الكهنوتِ وأغبياءَهم ممّن حملُوا مفاتيحَ الجنّةِ في أعناقِهم وقتلُوا البشرَ دونَ وجهِ حقّ أو قُتِلُوا في الحربِ متوهّمينَ أنّهم يبنونَ مجدَ اللهِ على الأرضِ، وإذا بهم قد دمَّروا كلَّ ما بنَتْهُ العنايةُ الإلهيَّةُ والجهودُ الإنسانيّةُ، وإذا بمفاتيحِهم لا تصلحُ لبابٍ من أبوابِ الجنّة، وإنّما هي مفاتيحُ لأبوابِ سراديبَ تقودُهم مباشرةً إلى الجحيم.

أمّا المثلُ التشيكوسلوفاكي القائلُ: (اصنعِ الجميلَ للشّيطانِ يُعطِكَ الجحيمَ) فقد عبّر عن حالِهم، فحينَما مدُّوا يدَ الجميلِ للشّيطانِ السّوفييتيّ استعبدَهم، وحينَما مدّوا يدَهم بالجميلِ إلى الشّيطانِ الحقيقيِّ حرَّرَهم، فلم يفهمُوا معنى التَّحرُّرِ فقسَّمَهم إلى دولتينِ (التشيك) و(سلوفاكيا)، وإن تمادَوا في نكرانِ فضلِ الشّيطان فسيصبحُ كلُّ حرفٍ دولةً، كما صارتْ وتصيرُ دولُنا في الشّرقِ الأوسط!

ويحرصُ المثلُ التشيكوسلوفاكي على الصّداقةِ حتّى في الجحيم، وهو شعورٌ نبيلٌ يستوجبُ الوقوفَ عندَه: “حتّى في الجحيمِ من المستحسَنِ اتّخاذُ صديقٍ”. وربّما نسيَ مَن قال هذا المثلَ أنّ أصدقاءَ السّوءِ كثرٌ، فلا خوفَ على فقدانِهم في الجحيم، كما أنّ المصائبَ تجمعُ ولا تفرّق على نقيضِ النّعمِ فهي تمزّقُ حياةَ الفردِ والأسرةِ والقبيلةِ والدّول والعالمِ بأسره.

ويُطالعُنا المفكّرُ والأديبُ طهَ حسين عميدُ الأدبِ العربيّ بقولٍ جميلٍ يؤكّد نظريّةَ تناغمِ المتناقضاتِ في الحياة بقولِه: “الجمالُ لا يستقيمُ إلّا إذا جاورَه القبحُ، والنَّعيمُ لا يَكمُلُ إلّا إذا جاورَه الجحيمُ”. وأتركُ التّعليقَ لذهني في الخيالِ حتّى لا أُثيرَ ثائرةَ شياطينِ الأرض المتلبّسينَ بعباءاتِ الملائكة.

وهذا رأيٌ فلسفيٌّ منطقيٌّ رائعٌ تفيضُ به عبقريّةُ المفكّرِ والمؤلّف الأمريكيّ (ديل كارنيجي) حولَ أحلامِ الرّجال الّتي تاهَت في صحارى نفوسِهم الضّيّقةِ إذ يقول: “الرّجلُ الّذي يريدُ المرأةَ ملاكاً عليه أن يكونَ لها جنَّةً، فالملائكةُ لا تعيشُ في الجحيم”.

لكنّ عبقريّةَ الكاتبِ الرّوسيّ الكبير (فيودور دوستويفسكي) تتدفَّقُ شلّالاً من الحِكم يعبّر في بعضِها عن حقيقةِ البشرِ الّذين يتنافسُون في الحياةِ لا ليكونُوا الأفضلَ في الخيرِ والسّلام، وإنّما ليكونُوا الأسوأَ في نشرِ الشّرِّ والخرابِ، فيُطمْئِنُهم بيقينٍ: “اطمئِنُّوا الجحيمُ يتّسعُ للجميع، فالأمرُ لا يستحِقُّ كلَّ هذهِ المنافسةِ الشّرسِةِ على مَن سيكونُ الأسوأَ فيكُم”.

وتتجلّى عبقريّةُ دوستويفسكي في حوارٍ بين الشّيطانِ والكاهن: “قال الشّيطانُ للكاهن: اخلَعْ عنكَ ثيابَكَ الحريريّةَ، جُعْ كما يجوعُ البائِسون، استلْقِ على الأرضِ الباردةِ القذرةِ مثلَهم، ثمّ حينَها حدِّثْهم عن الجحيم”.

ويُعرّفُ دوستويفسكي الجحيمَ في مقولةٍ أخرى بقوله: “ما هو الجحيمُ؟ معناهُ ألّا أكونَ قادراً على الحبِّ”.

ويكشفُ دوستويفسكي طبيعةَ المرأةِ العاطفيّةَ الّتي تدفعُها إلى الانتقامِ من الرّجلِ لحظةَ غضبِها، وكيف تتحوَّلُ مشاعرُها إلى الرّقّة والرّأفةِ والحبِّ حينَما تخبُو نيرانُ الغضبِ في أعماقِها: “ليذهبْ كلُّ الرّجالِ إلى الجحيم، هذا ما ستقولُه امرأةٌ غاضبةٌ الآنَ، وفي الصّباحِ ستُجري اتّصالاً معَ الجحيم، تُخبرُه بأنّها لم تنَمْ؛ لأنّها لم تسمعْ نبرةَ صوتِه”.

ونجدُ قولاً رائعاً للكاتبِ والفيلسوفِ اليونانيّ (نيكوس كازانتزاكيس) يقاربُ قولَ دوستويفسكي في حوارِ الشّيطانِ والكاهنِ حول الشّعورِ بالبائسينَ للتّخلُّصِ من وساوسِ التّهديدِ بالجحيم، إذ يقول: “وحدَه الّذي يتخلّصُ من جحيمِ ذاتِه هو الّذي يشعرُ بالجوع حينَ يرى أحدَ أبناءِ جنسِه يتضوّرُ جوعاً”.

وقريبٌ من حوارِ الشّيطانِ والكاهنِ في فكرةِ التّخويفِ من الجحيمِ كشرطةِ آدابٍ لإخضاعِ البائسينَ قولُ (ريتشارد دوكينز) المؤلّفِ البريطانيّ وهو عالمُ سلوكِ الحيوانِ والأحياءِ التّطوّريةِ: “إنّ مجرّدَ التّفكيرِ بأنّ هناكَ من المؤمنينَ مَن يستخدم فكرةَ الجحيم كشرطةِ آدابٍ هو أمرٌ مثيرٌ للقلقِ بشكلٍ عميق”.

ومثلُه قولُ الكاتبِ (إدواردو هيوس غاليانو): “التّهديدُ بالجحيمِ أشدُّ فعاليةً من الوعدِ بالفِردوس، لذلكَ يستمرُّ المتديّنُون بإخافةِ العامّة”.

أمّا الكاتبُ الإنكليزيُّ العبقريُّ (وليم شكسبير) فقد أدركَ في زمنِه أنَّ الجحيمَ فارغٌ بدليلِ كثرةِ الشّياطينِ البشريّةِ من حوله: “الجحيمُ فارغٌ، كلُّ الشّياطينِ هنا”.

ولكنّ المثلَ الرّومانيّ اللّطيفَ ينعتُ الرّجالَ المتزوّجين بعدمِ الخوفِ من الجحيم: “بعد أنْ يتزوّجَ الرّجلُ لا يخافُ من الجحيم”. وربّما يعودُ ذلك إلى أنّ الزّواجَ نصفُ الدّين، وكلُّ ما يحتاجُه الرَّجلُ فوق هذا النّصفِ عبادةٌ من هُنا وعملُ خيرٍ من هناكَ فيكونُ من الفائزينَ بالنّعيم، أو ربّما يرى الرّجلُ الجحيمَ أمامَ ناظريهِ في الزّواج، فلن يخشَى جحيمَ الآخرة بعدَما عاشَه سنواتٍ من حياتِه!

أمّا المفكّرُ الإسلاميّ جلالُ الدّين الرّوميّ فيرى أنَّ فمَ الإنسانِ فُوّهةُ الجحيمِ باعتبارِ أنَّ لسانَه كألسنةِ اللّهبِ في الجحيم: “أيّها الفمُ، إنّكَ فوّهةُ الجحيم”.

وأمّا (توماس هوبز) عالمُ الرّياضيّات والفيلسوفُ الإنجليزيّ، فيرى أنَّ الجحيمَ “هو الحقيقةُ الّتي نُدركُها بعدَ فواتِ الأوان”.

ويرى (هيركيول بوارو) وهو الشّخصيّةُ الخياليّةُ الرّئيسةُ في العديدِ من الرّواياتِ البوليسيّةِ للكاتبةِ (أغاثا كريستي) أنّ الإنسانَ اخترع العملَ للهروبِ من جحيمِ التّفكير: “لقد أدركتُ الآنَ مدى حكمةِ المقولةِ المأثورةِ الّتي تقول: إنّ الإنسانَ اخترع العملَ لكي يهربَ من جحيمِ التّفكير في حياتِه”.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

الخيرُ والشّرُّ

الخيرُ قالُوا: – غايةُ العلمِ الخيرُ. أفلاطون – إنْ تعبْتَ في الخيرِ، فإنَّ التَّعبَ يزولُ والخيرُ يَبْقى، وإن تلذَّذْتَ بالآثامِ، فإنَّ اللَّذَّةَ تزولُ والآثامُ تبقَى.…

تعليقات