هُمُومُ الغُربةِ 

قالَ الإمامُ الشَّافعِيُّ ( ):

تَغرَّبْ عنِ الأوطانِ في طلبِ العُلا          وسافِرْ ففي الأسْفَارِ خمسُ فوائدِ

فتفريـْـجُ هَـمٍّ، واكتسابُ معيشـةٍ           وعلْــــمٌ وآدابٌ، وصحبةُ ماجِـــــــــــدِ

وقال أبو تمَّام ( ):

وطــــولُ مُقامِ المــــــــــــــرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ         لـــــديبَـــــاجَتـــــيهِ، فاغتـــــرِبْ تتـجـــــــــدَّدِ

فإني رأيْتُ الشَّــــمسَ زِيـــــــــــــدَتْ محبـَّةً        على النَّاسِ أنْ ليسَتْ عليهِم بسرمَدِ

قبلَ أنْ أتغرَّبَ كنتُ أعلِّلُ نفسِي بهذه الأفكارِ، فملَلْتُ إقامتِي، وضجَّ مَضجعِي، وهجرْتُ أُناسِي، وبعدَ أْن أعْمَى بصرِي بريقُ المادةِ، وجدْتُ في ذاتي عزيمةً لا تُقدَّرُ، فحزمْتُ أمتِعَتي ولوَّحْتُ للوطنِ: وداعاً إلى غيرِ لقاءٍ.

وتغرَّبتُ لعلَّني أستَفيدُ من تجاربِ الآخَرينَ، وأضيفُ إليها ما أستطيعُ، فهجرْتُ الوطنَ طلَباً للعُلا، وسافرْتُ كي أحقِّقَ تلكَ الفوائدَ الخمسَ، فرُحْتُ أفرِّجُ عمَّا تكبَّدَتهُ نفْسي من همومِ الوطنِ ومآسِيهِ، فلمْ يزِدْني ذلكَ التَّفريْجُ إلّا هُموماً ومآسِيَ، ورحْتُ أسعَى لاكتسابِ معيشةٍ، فوجدْتُني أَجْري وراءَ السَّرابِ؛ لأنَّ كلَّ لقمةِ عيشٍ جُبِلتْ بثلاثِ قطَراتٍ: قطْرةٍ من الدَّمِ، وقطرةٍ من عرقِ الجبينِ، وقطرةٍ ساخنةٍ من دموعِ العينِ.

لا شكَّ في أنَّ طولَ مُقامِ الإنسانِ في حيِّه مُمِلٌّ وقاتلٌ، وفي الاغترابِ تجدُّدٌ وانبعاثٌ وانطلاقٌ ووثوبٌ فوقَ الحواجزِ واستِشرافٌ لعالمٍ جديدٍ بآفاقِه ورؤاهُ وتطلُّعاتِه وكيانِه، ولكنْ ليسَ في اغترابٍ هروباً من مَللِ المقامِ وهيمنةِ الفقْرِ والحاجةِ والبحثِ عـن لُقمةِ العيشِ بيـنَ أنيابِ الذِّئابِ والوحوشِ الكاسرةِ إلى سجنِ الرِّمالِ تحتَ وطأةِ الهجيرِ وطُغيانِ كوابيسِ الثَّروةِ وانبِلاجِ بريقِ الذَّهَبِ من تحتِ تلكَ الصُّخورِ الرَّماديةِ الّتي يتَواثبُ عليها عُبابُ اليمِّ الطَّاغِي القادمِ من عالمِ البراقِعِ والألغازِ.

ما أجملَ الشَّمسَ كلَّ يومٍ تُشرقُ صباحاً وتَغربُ مساءً! وما أجملَ أنْ يُهاجِرَ الطَّيرُ ويعودَ إلى أوكارِه! وما أحْلى أن يتغرَّبَ المرءُ ثمَّ يؤوبَ إلى وطنِه دون آلامِ الاغترابِ ومرارةِ الهجرانِ!

آهِ من نارِ الهجرةِ ومن همومِ الغربةِ، ومن تشتُّتِ الإنسانِ وضياعِه في عالمٍ لا يجدُ فيه مَنْ يستطيعُ أن يَدخُلَ إلى أعماقِه، ولا يجدُ مَن يتعاملُ معهُ بلغةِ الإحساسِ والضَّميرِ!

آهِ ما أصعبَ أن يتركَ الإنسانُ تُربتَه الّتي نبَتَ فيها ونشأَ وتَرعرعَ في أحضانِها! وما أشدَّ ما يُؤلمُ من فراقِ الأهلِ والأحبَّةِ والأصدقاءِ!

بعضُ النَّاسِ يَبْكون بأجسادِهم، فيُهرِقُون الدُّموعَ، ويُمزِّقُون الثِّيابَ، وينتفُونَ الشُّعورَ، ويتملْمَلونَ بالبُكاءِ والصُّراخِ والعويلِ والنَّحيبِ.

وبعضُ النَّاسِ يَبكونَ بأرواحِهم، فلا تَسمعُ لهُم صوتاً، ولا تَرى فيهِم حركةً، بل يبكُونَ في صمْتٍ روحِيٍّ عميقٍ.

وبعضُ النَّاسِ حرمَتْهم يدُ الخالقِ من مَجاري الُّدموعِ في خرائطِ أجْسادِهم وجِنانِ أرواحِهم، فقدْ نضبَتْ طبائِعُهم من كلِّ قطرةِ حزنٍ، وخلَتْ سَماءُ ضمائِرِهم من كلِّ سحابةِ رحمةٍ ومحبَّةٍ إنسانيَّةٍ.

أحبُّ الحزنَ الّذي يهبُطُ وحيَاً من السَّماءِ، فيعصرُ المُهَجَ، ويُجْرِي في الدَّمِ بركاناً حارقاً، ويسكُبُ في الجوارحِ لهيباً لافِحاً، وفي المُقلِ دموعاً لا تَفيضُ على الجسدِ، بل تنْبجِسُ من أعماقِ الرُّوحِ. وأُحبُّ الحزنَ الّذي يرتسِمُ في تأمُّلاتِ النَّاسكِ الَّذي زهِـدَ في الدُّنيا لا كُرهاً بها ولا طمَعاً بالآخِرةِ، وأعشقُ زُهْدَ الفيلسُوفِ الّذي يَنشُدُ الحقَّ لوجهِ الحقِّ، والجمالِ لروعةِ الجمالِ، والخيرَ لرُوحِ الخيرِ، والسَّلامَ لمحبَّةِ السَّلامِ.

وأحبُّ الحزنَ الّذي تنشُرُهُ في الرُّوحِ أنَّاتُ الضَّميرِ الّذي صقَلَتْه يدُ الملائكةِ بالرَّحمةِ والإحْسانِ والمحبَّةِ، فباتَ يشعُرُ بتَقصيرِ الجوارحِ عمَّا يَنشُدُهُ الخالقُ منَ الكونِ.

بعضُ النَّاسِ يَفهمُون بالكلامِ، وبعضُ النَّاسِ يفهمُونَ بالإيماءِ وبعضُهُم يفهمُ بالعُيونِ، وبعضُهُم بالأرواحِ، وبعضُهم بالجُيوبِ، وبعضُهم لا يَفهمُ أبداً.

إنَّني أحترمُ الَّذينَ يفهمُونَ بالكلمةِ، وأحبُّ الَّذين يفهمُونَ بالإيماءِ، وأُجِلُّ الّذينَ يَفهمُونَ بالعُيونِ، وأُعظِّمُ الّذينَ يفهمُونَ بالأرواحِ، وأحتَقِرُ مَن يتعاملُ معَ الآخرينَ بلُغةِ الجيُوبِ، وأُبغِضُ مَن لا يَفهمُ قطُّ، فجميلةٌ لغةُ الأرواحِ، ومُقدَّسٌ بكاؤُها، وعظيمٌ زهدُ ذلكَ النَّاسكِ الفيلسوفِ!

بعضُ النَّاسِ يعيشُونَ في غربةٍ عنِ الوطنِ والأهلِ والأحبَّةِ والأصدقاءِ بأجسادِهم، لكنَّها ليستْ بغُربةٍ، وبعضُ النَّاسِ يعيشُون في غربةِ الرُّوحِ رَغـمَ قربِ الجسدِ، وفي غربةِ الفِكرِ رغمَ كثرةِ العقولِ مِن حولِه، إنْ في تربةِ الوطنِ، أو في مَنْفى الاغترابِ، وبعضُ النَّاسِ لا تعرفُ أجسادُهم ولا أرواحُهم طعْماً لغربةٍ! فتبَّاً لمثلِ تلكَ الأرواحِ، وسُحقاً لمثلِ تلك الأجسادِ!

إنَّني أُجِلُّ الّذينَ اغتربَتْ أفكارُهم، وهاجرَتْ أرواحُهم عبرَ مسافاتِ الإدراكِ وفي أغوارِ النَّفسِ؛ لأنَّها لم تجِدْ مسالكَ صالحةً في حياةِ النَّاسِ الّتي استعمرَتْها المادَّةُ وحوَّلتْ مجَاري أنهارِها الإنسانيَّةِ – الرُّوحيَّةِ والفكريَّةِ – إلى أنهارٍ ملطَّخةٍ بدماءِ الأبرياءِ، ملوَّثةٍ بجراثيمِ الشَّهواتِ والملذَّاتِ الحيوانيَّةِ، مليئةٍ بأشراكٍ وشِبَاكٍ تَصطادُ جمالَ الحياةِ؛ لتَدْفنَه في بطونِ وحوشٍ آدميَّةٍ.

الحياةُ مليئةٌ بالمعذَّبينَ، وللعَذابِ أصنافٌ وألوانٌ! فبعضُ النَّاسِ تُعذِّبُهم الحياةُ فتُرهِقُ كواهِلَهم بشقاءِ الجسدِ سعْياً وراءَ لُقمةِ العيشِ، وما أهْونَ عذابَهم! وبعضُ النَّاسِ رضِيَتْ عنهُم كفُّ الحياةِ فرفَعَتْ عـن أجسادِهم كلَّ ثِقْلٍ من العَناءِ، لكنَّهم وقعُوا في عذابٍ ما بعدَه عذابٌ؛ إنَّه عذابُ الرُّوحِ والفِكرِ، عذابُ الضَّميرِ والنَّفسِ،عذابُ المشاعرِ والأحاسيسِ، عذابُ الوجودِ والَّلا وجُودِ.

وبعضُ النَّاسِ غفِلَتْ عنهُم عينُ الحياةِ، فأراحَتْ أجسادَهُم من كلِّ عناءٍ، ولم يستيقِظْ في كَيانِهم وأعماقِهم أيُّ لونٍ من ألوانِ عذابِ الرُّوحِ والفِكرِ والضَّميرِ والنَّفسِ والمشاعرِ والأحاسيسِ والوجودِ والَّلا وجودِ، فباتُوا يعيشونَ في راحةٍ أينَ منْها راحةُ الحيواناتِ المُدجَنةِ في حدائقَ أُعـدَّتْ لها غايةَ الإعدادِ، وأُتقِنَتْ في براعةٍ مُتناهيةٍ بكلِّ ما تتطلَّبُه من مأْكلٍ ومَشْربٍ ومَسْكنٍ؟! آهِ ما أشدَّ عذابَ الرُّوحِ حين تستيقظُ ولا تجدُ في الدُّنيا روحاً تُعانقُها وتُشاطِرُها الحياةَ ؟! آهِ ما أعظمَ عذابَ الفِكرِ حين يتفتَّحُ مثلَ زهرةٍ في البيداءِ القاحِلةِ، فلا يجدُ حولَه إلّا الأشواكَ والسَّرابَ والهجيرَ!!

آهِ ما أفْجعَ أثرَ عذابِ الضَّميرِ حين ينهضُ مـن غفْوتِه، فيجِدُ الجسدَ مُلطَّخاً برِجْسِ الحياةِ، مُستسلِماً لقبضةِ المادَّةِ والشَّهواتِ والملذَّاتِ!!

آهِ ما أعظمَ أثرَ النَّفسِ في النَّفسِ حين تفتَحُ أبوابَها للسَّماءِ، فتجِدُها بعيداً عن شُعاعِ الحقيقةِ وأنوارِها الإلهيَّةِ!!

آهِ من عذابِ المشاعرِ والأحاسيسِ حين تُوقِظُها نسَماتُ الحبِّ وتُهِيجُها رياحُ الغربةِ، فلا تجِدُ أمامَها الرُّوحَ الّتي تَأْوي إليْها، والقلبَ الّذي تسْكنُ إليهِ، فتُلْقِي بنفْسِها في نيرانِ الذِّكرياتِ، فلَا تَزيدُها إلَّا آلاماً واحتِراقاً واهتِياجاً!

آهِ ما أتعسَ مَن يَتخبَّطُ ليلَ نهارَ بينَ الوجودِ والَّلاوجودِ! فلا خلاصَ من الاستِسلامِ إلى الوجـودِ المليءِ بالتَّناقُضاتِ وأعشاشِ الرُّتيْلاءِ، والمنتَهي إلى فراغٍ إثرَ فراغٍ وأوديةٍ تلوَ أوديةٍ تُضمِرُ في أعماقِها أسراراً لا تَعرفُ النِّهايةَ، ولا انفِلاتَ من قبضةِ الَّلاوجودِ حين يَنطلقُ الفكرُ عَبرَ مسافاتِ الَّلانهايةِ باحثاً عن مركبةٍ تحمِلُهُ إلى حدودِ الَّلا وجودِ، فيَسقُطُ صريعاً أمامَ هذا التِّنِّينِ الّذي يبتلعُ كلَّ لغزٍ وكلَّ ما في الكونِ من طلاسِمَ، ويَعودُ القَهْقَرى إلى مركبةِ الوجودِ يائِساً مُحطَّمَ الأجنحةِ!

آهِ ماذا أقولُ عن حبيبٍ وجدَ حبيبَتَه في لحْظةِ القدَرِ، فربطَ روحَه بروحِها، وعلَّقَ فكرَه بفكرِها، وسكبَ دمَه في دمِها، وسبَكَ من مشاعرِهِما قلباً ذهبيَّاً يَبرقُ في أعماقِهِ شُعاعُ العشْقِ الخالدِ الّذي لا بدَّ أنْ ينتَهيَ إلى السَّكِينةِ والاستِقرارِ!؟

ماذا أقولُ عـن مُحِبٍّ يَحملُ في جوفِهِ قلْباً يتَّسِعُ للدُّنيا، وروحاً تَهيمُ في الفضاءِ، ومشاعرَ رقيقةً شفَّافةً تُمزِّقُها نسْمةٌ عذبةٌ، وفِكْراً يَفيضُ إلى حدودِ الكونِ باحثاً في جِبِلَّتِه عن سُدرةِ المُنْتهى فيمَا وراءَ الَّلا مَحدودِ!؟

ماذا أقولُ عن عاشِقٍ وُلدَ في أحضانِ عشيقتِه ولم يَمضِ على ولادتِهما أيَّامٌ وأسابيعُ؟! فتمُدُّ الغربةُ سلاسِلَها وتقبِضُ عليهِ، وتشدُّه دونَ رحمةٍ ولا شفقةٍ إلى عالمِها القابعِ وراءَ الحدودِ والسُّدودِ؟!

هل يُقاوِمُ آلامَ قيودِ الغربةِ الّتي تعصِرُ مُهجتَه، وتخنُقُ الدُّموعَ في عينَيهِ، ويُجابِهُ عالماً لا يَعـرفُ للإنسانِ قيمـةً؛ لأنَّهُ عالمٌ يحترِقُ في لهيبِ الجشعِ والطَّمعِ والملذَّاتِ والشَّهواتِ؟! أمْ هل يُطلِقُ العنانَ لخيالِه عبرَ السماواتِ والأرضينِ، ويتركُ روحَه تُسافرُ بلا أجنحةٍ إلى ما وراءِ حدودِ الأفقِ البعيدِ؛ ليُعانِقَ حبيبتَه الّتي تركَها مَهِيضةَ الجناحِ، ولمَّا يَروِهَا من حبِّه، وتركَها عَطْشَى تَحترِقُ بلهيبِ الوجْدِ والحِرمانِ؟!

الويلُ ثمَّ الويلُ لليدِ الآثِمةِ الّتي تَصطادُ عُصفوراً في الفضاءِ راحَ يُغرِّدُ بينَ الحقولِ والبساتينِ باحثاً عن حَبَّةِ قمْحٍ يعودُ بها إلى حبيبتِه كلَّ يومٍ ليلتحِمَ بها روحاً وجسداً في عُشِّهما الملائكيِّ الُمفعمِ بالسَّعادةِ والبهجةِ والمسرَّةِ والطُّمأْنينةِ.

والويلُ..الويلُ للغربةِ الآثمةِ الّتي تَختطِفُ عاشقاً وليداً من عُشِّ حبيبتِه ولمَّا تمتلِئْ روحاهُما بنُورِ المحبَّةِ، ولمَّا يسكُنِ الفؤادُ إلى الفؤادِ، ولمَّا تروِ الجوارحُ الجوارحَ، ولمَّا يُثمِلِ الجسدُ الجسدَ!

والويلُ لنارِ الغربةِ الّتي تُهيجُ الأرواحَ مدَّاً وجَزْراً، وتُحوِّلُ آهاتِها إلى دموعٍ حارقةٍ يومَ الفراقَ ويومَ الِّلقاءِ، وطوالَ أيَّامِ البُعدِ والهجْرِ! آهِ كمْ يُعذِّبُني قولُك يا شاعرَ الغرامِ، يا بنَ دريدٍ ( )!

ومَا في الأرضِ أشْقَى مِـنْ مُحِـبٍّ         وإنْ وجَــــــــــدَ الهَـــوَى حُلْـــــــوَ المَذَاقِ

تـَـــــــــرَاهُ باكِيـــــَاً في كلِّ وقْـــــــــــــــــــتٍ          مخَـافـــةَ فُــــــــرقَــــةٍ أو لاشْــــــــتِيــــاقِ

فيَـــــبْكِي إنْ نـــَـأَى شَــــوقَـــاً إليْـهـمْ          ويَبكِي إنْ دنَـــــــوا خـَـــــــوفَ الفِــراقِ

فتَسْخُنُ عَيـــــــــنُــه عِنــْـــــــدَ التَّنَــائِي         وتَسخُنُ عيـــــنـُه عنـــــــدَ التَّـــــــــــلاقِي

آهِ ليتَني أستَطيعُ أن أبكِيَ بكاءَكَ أيُّها الَّشاعرُ العاشقُ! فتنفجِرُ نفسِي بالدُّموعِ، وبعدَها تَصيرُ إلى مُستراحٍ! آهِ.. ليتَ دُموعِي تَسخُنُ لحظةَ الوداعِ أو لحظةَ الِّلقاءِ وتَبْردُ بعدَها! إنَّ دموعَ حُزني خفيَّةٌ في أعماقِ روحِي، إنَّها حِممٌ بركانيَّةٌ تُحرِقُ كَياني كلَّهُ، وحُزني عَميقٌ.. عميقٌ في جذورِ نفسِي، ولكنْ يا لروعةِ حُزني! ويا لجَمالِ عَذابي في سبيلِ حبٍّ أزليٍّ!

إنَّ عزائِيَ الوحيدَ في حُزني وبكائِي هوَ أنَّني أُحبُّ هذا الَّلونَ من الحُزنِ والبكاءِ؛ لأنَّني أُضحِّي بجسَدِي وروحِي في سبيلِ مَن أُحبُّ. وأمَلي كبيرٌ.. كبيرٌ في أنَّ مَن أعشقُ، ستَقْلِبُ كلَّ لحظةِ حُزنٍ وبكاءٍ روحِيٍّ في أعماقِي إلى سعادةٍ روحيَّةٍ وجسَديَّةٍ ونفسيَّةٍ آسِرةٍ.

وواثِقٌ مِن أنَّ الّتي أعشَقُها وتَعشَقُني، تَملِكُ تلكَ الرُّوحَ الملائكيَّةَ الّتي لابدَّ أن تنْسابَ إلى أغوارِ روحِي، فتُحِيْلُها جِناناً منَ الرَّوعةِ والجمالِ والحبِّ، وتمتلِكُ الأنامـلَ السِّحريَّةَ الّتي لابدَّ مِن أنْ تَتفنَّنَ في عزفِ أُنشودةِ عِشقِي على أوتارِ قلْبيَ الشَّفَّافِ، ولديْها ذلكَ الجسدُ الأنثويُّ الّذي ينتفِضُ في سِحْرٍ انتِفاضةَ العُصْفورِ عندَما تَهمِسُ النَّسماتُ إليهِ، وحينَما يُهدْهِدُ أحلامَه نورُ الصَّباحِ!

لا أدْري إلى مَتى ستَظلُّ كلِماتي تُحرِقُني وتَجلِدُني كلَّما زارَ طيفُكِ خَيالي، وكلَّما رأيتُ زهرةً جميلةً، وكلَّما غرَّدَ طيرٌ في السَّماءِ والحدائقِ؟! آهِ.. إنَّ ما يُعذِّبُني هوَ كلُّ شيءٍ جميلٍ يُذكِّرُني بجمالِكِ الرُّوحيِّ والجسديِّ والفكريِّ!

دبي 25\10\1999م

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات