زُهُورُ الأملِ

إذا تلبَّدتِ السَّماءُ بالغيومِ، واحلَولكَتْ ليالي العمْرِ بالظُّلماتِ، وهاجَتْ أعاصيرُ الزَّمنِ بالمِحَنِ، وثارَت نائباتُ الزَّيفِ والبُهتانِ، وزمْجرَتْ عادياتُ القمعِ والاستبدادِ والطُّغيانِ، ودقَّتْ ساطياتُ الجهلِ والتَّجهيلِ طُبولَها في الحِمى مُعلنةً انتصارَها على الفِكرِ والعقلِ والإنسانِ:

فلا بدَّ أن تُزهرَ وردةٌ بينَ أشواكِ الحياةِ..

ولا بدَّ أن تَنبجِسَ قطْرةُ ماءٍ من تحتِ رمالِ الصَّحراءِ..

ولا بدَّ أن يَنبثِقَ شعاعُ أملٍ من رحِمِ اليأسِ..

ولا بدَّ أن يَنشَقَّ صِراطٌ منَ العدلِ بينَ مُنعرَجاتِ القهرِ والجَورِ..

ولا بدَّ أن يُطلَّ طيْفٌ منَ السَّعادةِ بينَ ركامِ البؤسِ والشَّقاءِ..

ولا بدَّ أن تُولدَ بذورُ الرَّحمةِ في بيداءِ الأفئدةِ البشريَّةِ..

ولا بدَّ أن تشُقَّ قوَّةُ الفكرِ والمنطقِ أُخْدوداً في صخورِ الجهلِ..

ولا بدَّ أن تتَغلْغلَ حُمَّى الإبداعِ والتَّجديدِ في أوصالِ جسدِ العقائدِ المشلُولِ بالعاداتِ وطواغيتِ التَّخلُّفِ وجيَفِ أفكارٍ مُتوارثةٍ ما أنزلَ اللهُ بها منْ سلطانٍ!

مَنْ قالَ: إنَّ الرُّجولةَ اندثرَت، وغدَتْ علَقاتٍ تتَساقطُ منَ الأرحامِ قبلَ أنْ ترتَسِمَ معالمُها، وتتكوَّنَ أكاسيرُها في مُختبرِ التَّفاعُلِ الكيميائيِّ بينَ النُّطفةِ الأنثويَّةِ المُتراقِصةِ طرَباً بأناشيدِ الحياةِ والحَيوانِ الذَّكريِّ المتدفِّقِ منْ شلاَّلِ ملايينِ الحيواناتِ المنويَّةِ!

أقولُ لهُ: إنُّ الرُّجولةَ لا تَموتُ، وإنَّ البطولةَ لا تَعْدمُ جوازيَهَا؛ فالتَّاريخُ حافلٌ بالرُّجولاتِ والبُطولاتِ منذُ ولادةِ التَّاريخِ الإنسانيِّ إلى أنْ يُنفَخَ في الصُّورِ، فتَنْبعثَ المخلوقاتُ الإنسيَّةُ مِن أجْداثِها.

ولكنْ علينَا أن نَنظرَ إلى البطولةِ والرُّجولةِ بمفُهومِهما المنطقيِّ الَّذي يضعُهما في إطارِ الدِّفاعِ عنِ الحقِّ، ونُصْرةِ المُستَضعفينَ، وليسَ في سجلِّ الإجرامِ والطُّغيانِ الَّذي مسَحَ شعوباً بأكملِها منْ صفَحاتِ التَّاريخِ، واستأْصلَ أجْناساً وأعراقاً آدميَّةً عن بِكرةِ أبيها مِن موطِنها الأصليِّ أو من وجهِ البسيطةِ.. ولنَا في صفحاتِ الدَّهر عِبرٌ إنْ مسحَتْها أيديْ قراصِنةِ التَّاريخِ منْ صفحاتِه، فإنَّها تَظلُّ خالدةً في ذاكرةِ الشُّعوبِ، لا تَستطيعُ أن تُزيلَها كلُّ ماحِياتِ العادِياتِ، مهْما تغيَّرَ الزَّمانُ أو تبدَّلتِ الأيَّامُ.

فليسَ منَ البُطولةِ أو الرُّجولةِ هيْمنةُ الإمبراطوريَّاتِ المارقةِ على مُقدَّراتِ الدُّولِ والشُّعوبِ الأخْرى، مهْما كانتِ الذَّرائعُ أو الحُججُ!

وليسَ منَ البُطولةِ أو الرُّجولةِ حصْرُ أنفاسِ الشُّعوبِ في زُجاجاتٍ، أو حبسُ كلماتِها في أفواهِها، وتَحويلُها إلى قِطعانِ ماشيةٍ تَرعى لتَعيشَ، وتَفْنَى ليَحيَا الرَّاعي وكلابُه!

البطولةُ أو الرُّجولةُ أنْ يُضحِّيَ قائدٌ بمصيرِه في سبيلِ حياةِ شعبِه.. في سبيلِ نشرِ العدلِ والحرِّيةِ والمعرفةِ في ربوعِ وطنِه.. في سبيلِ الدِّفاعِ عن رايةِ وطنِه والحيلُولةِ دونَ أن تَغدوَ بلدُه محميَّةً طبيعيَّةً يستَجِمُّ فيها الكِبارُ منْ وراءِ المحيطاتِ!

البطولةُ أو الرُّجولةُ أن يحافِظَ القائدُ على ثرواتِ بلادِه، وأن يُسخِّرَها لخدمةِ شعبِه وأجيالِهِ القادمةِ، لا أنْ يُضحِّيَ بكلِّ ثرواتِ وطنِه منْ أجلِ بقائِه إلهاً على ملكُوتِ الحُكمِ، ومهْما تكالبَتْ على وطنِه عادياتُ الوحوشِ، فإنَّه لا يَرهنُ خيراتِ بلادِه لطواغيتِ العالمِ منْ أجلِ جلوسِهِ على عرشِ كرسيٍّ مُزيَّفٍ!

البطولةُ أنْ يقفَ الكاتبُ أو الأديبُ موقِفَ الجِبالِ أمامَ طغيانِ الطُّغاةِ، ويُفجِّرَ في كتابتِه عروشَ الجَوْرِ والطُّغيانِ، ويُوقِدَ أمامَ قرَّائِه شُموعَ الحرِّيَّةِ ومشاعِلَ النُّورِ، لا أنْ يَكونَ بُوقاً في جوقةِ السُّلطانِ أو مُهرِّجاً هزِلاً يتلاعَبُ بمشاعِرِ الصِّبيانِ!

إنَّ التَّاريخَ الّذي أخرجَ منْ رحمِهِ أساطيرَ وملاحمَ في الشَّجاعةِ والبطولةِ والرُّجولةِ والفكرِ والعدلِ والتَّسامحِ والمحبَّةِ ونُصرةِ المظلومينَ وتحريرِ العبيدِ ومُقارعةِ الجهلِ وتحريرِ الأممِ وتوحيدِها، ليسَ مُحالاً عليهِ أن يُزهرَ بطولةً ورجولةً في كلِّ أزمانِه.. قدْ تمُرُّ حِقبةٌ منَ الدَّهرِ مُجدِبةً، لكنَّ السَّنواتِ العِجافَ ستَعقبُها سيُولُ الخيرِ والعَطاءِ!

إذا نثرَ الأشرارُ بذورَ الشرِّ في تربةِ الحياةِ، واستنبتُوها أشواكَ بؤسٍ وشقاءٍ يتجرَّعُ ثمارَ علْقمِها مُعذَّبُو الأرضِ من فُقرائِها وبؤسائِها وأشقِيائِها، فلا بدَّ أن تَنبتَ بينَ تلكَ الأشواكِ عُلَّيقَةٌ تَقْتاتُ العصافيرُ على حبَّاتِها، ويُحلِّي الإنسانُ مَرارةَ لسانِه على ثمراتِها، ولا بدَّ أنْ تَنبتَ بينَها شُجيراتٌ ترفدُ مخلوقاتِ الطَّبيعةِ بثِمارِها وأوراقِها وظلالِها!

ولا بدَّ أن تُولدَ منْ رحمِ الأشواكِ أزهارٌ تَعْبقُ الدُّنيا بأريجِها، وتتراقَصُ فراشاتُ الرَّبيعِ فوقَ تُويجاتِها، ويُكحِّلُ العَندليبُ ناظرَيهِ بسِحرِها، فيَملأُ الأوديةَ والرُّبا والدُّروبَ صُداحاً!

إذا اختَنقَتِ الدُّنيا قاطِبةً بدخانِ الحروبِ، واحترقَتْ بلهيبِها، فلا بدَّ أن تنهالَ السَّماءُ بسُحبِ الرَّحمةِ والسَّكينةِ؛ لتَرويَ بذورَ السَّلامِ والمحبَّةِ الإنسانيَّةِ على الأرضِ!

فكمْ مِن حروبٍ خاضَتْها البشريَّةُ في مَخاضِها العَسيرِ، لكنَّ تلكَ الحروبَ خمَدَتْ بعدَ أن ذاقَتِ الأممُ ما ذاقَتْ مِن مآسِيها وويلاتِها، فقدْ حصدَتْ ملايينَ الأرواحِ، ودمَّرَتْ كلَّ ما بنَتْه يدُ الحضارةِ، وحطَّمَت كلَّ ما خلَّدَتْه أزاميلُ النَّحَّاتينَ من جمالٍ، ومزَّقَت كلَّ ما أبدعَتهُ ريشاتُ الرَّسَّامينَ مِن لوحاتٍ ساحرةٍ، وأحرقَت كلَّ ما سطَّرتْه يراعاتُ الأدباءِ والمفكِّرينَ من كلماتِ ورؤَى وإبداعاتِ العبْقريَّةِ البشريَّةِ!

فانتهتْ براكينُ الحروبِ وخمدَتْ حِممُها، وعادتِ البشريَّةُ إلى إنسانيَّتِها، فانتصرَ العقلُ على الجُنونِ، وسيْطرَ الحِلْمُ على الجَهلِ، وحلَّتِ المحبَّةُ محلَّ الضَّغينةِ، وهبَطَ سُكونُ السَّلامِ على الأرضِ وأخْرسَ ضجيجَ الدَّمارِ، وكحَّلَتِ البشريَّة أعيُنَها بأنوارِ المحبَّةِ بعدَ أن طردَتْ لهيبَ النِّيرانِ المتأجِّجةِ بدخانِ الحِقدِ والكراهيَةِ، وخلَعتِ الأرضُ حُللَها الحمْراءَ و السَّوداءَ؛ لترتديَ أرديةَ الفرحِ والابتهاجِ بياضاً واخضِراراً وبشتَّى ألوانِ أزاهيرِ الحياةِ الّتي أبدعَتْها يدُ السَّماءِ على لوحةِ الأرضِ!

كمْ منَ الإمبراطُورياَّتِ تفجَّرتْ براكينَ كِبْرٍ واستِعلاءٍ، حينَما تجبَّرتْ وثارَت حِمَمُها وطغَتْ على العالمِ، لكنَّها ما لبِثَتْ أنْ تحوَّلتْ إلى رمادٍ وحجارةٍ، وأضحَتْ طلاسِمَ ورمُوزاً، يُنقِّبُ علماءُ الآثارِ بأزامِيلِهم عنْ تَمائِمِها وقِطعِ فخَّارِها وزُجاجِها ومعادنِها؛ لفَهمِ لُغزٍ منْ ألغازِ اندِثارِها وانقِراضِها!

إذا كانَ عالمُنا اليومَ يَشهدُ صِراعَ تلكَ الإمبراطويَّاتِ بأساليبَ أقذرَ وأغراضٍ أخسَّ وأسلحةٍ أعْتَى منْ سابِقاتِها، فلرُبَّما تمَّحِي عنْ وجهِ البسيطةِ، وتغْدُو هيَ وكلُّ أسلِحتِها ومُبتكراتِها المدمِّرةِ مُستحاثَّاتٍ سيُنقِّبُ عنها الباحِثُون وعلماءُ الفضاءِ مِن كواكبَ أُخْرى؛ ليَعثُرُوا على ذرَّةٍ مِن ذرَّاتِ وجُودِها تحتَ ركامِ دمارِها!

كلُّ إمبراطوريَّةٍ بمَا جنَتْ رهِينةٌ.. هكذَا علَّمَتْنا حِكمةُ الحياةِ، وكلُّ براقِشَ ستَجنِي على نفسِها، مهْما طالتِ الأيَّامُ، وامتدَّتِ الأزمنةُ!

كلُّ إمبراطوريَّةٍ تُصدِّر الحروبَ والدَّمارَ إلى العالمِ؛ لتُروِّجَ أسلِحتَها بعدَ أنْ تختبرَ قوَّتَها التَّدميريَّةَ فوقَ رؤوسِ الكائناتِ البشريَّةِ؛ لتَبيعَها بأبهظِ الأثمانِ، وتَنفرِدَ بقيادِ سماسِرةِ الحروبِ، سيَنْقلِبُ عليها ظهْرُ المِجَنِّ، وتأكلُها تلكَ الحروبُ والأسلِحةُ منْ داخلِها؛ لتتهاوَى وتتَداعَى على نفسِها!

إنَّ دورةَ الحياةِ تَقضِي بنهوضِ إمبراطوريَّاتٍ وزوالِ أُخْرى، لكنَّ نواميسَ الحياةِ ستَطرحُها جميعاً خارجَ الخِدمةِ، حينَما يَنْتهي أجَلُها، وتُصبحُ أوابدَ وذكرياتٍ، تتحدَّثُ عنها الكُتبُ والرِّواياتُ والأشعارُ، كمَا قالَ أميرُ الشُّعراءِ أحمدُ شَوقي متَحدِّثا عن آثارِ أُسوانَ ( ):

يا قصـــوراً نظَــــرْتُها وهيَ تَقْضِي:         فسكبْتُ الدُّموعَ، والحقُّ يُقْضَى

أنتِ سَطْرٌ، ومجْـــــــدُ مِصْرَ كتابٌ:        كيفَ سَـــــامَ البِلَى كتــــابَكِ فَضَّا؟

فأينَ أعظمُ الإمبراطوريَّاتِ في تاريخِ البشريَّة؟!

أينَ إمبراطوريَّةُ البُرتغالِ أو إمبراطوريَّةُ غُوك تُورْك أو إمبراطوريَّةُ اليابانِ أو الإمبراطوريَّةُ الفرنسيَّةُ الأولى أو الإمبراطوريَّةُ الإخمينيَّةُ أو الإمبرطوريَّةُ الإسلاميَّةُ أو الإمبراطوريَّةُ السَّاسانيَّةُ أو إمبراطوريَّةُ البرازيلِ؟!

أينَ إمبراطوريَّةُ الرُّومانِ أو المغُولِ والَّتتارِ أو الألمانِ أو الإمبراطوريةُ العثمانيَّةُ؟!

ستقولُ الرِّواياتُ القادمةُ مِن مستَقبلِ الزَّمانِ يوماً: أينَ الإمبراطوريَّةُ الأمريكيَّةُ الّتي تَفرَّدتْ بمصيرِ العالمِ لقرونٍ؟ وأينَ إمبراطوريَّةُ الرُّوسِ البيضاءَ أو إمبراطوريَّةُ الرُّؤوسِ الحليقةِ أو إمبراطوريَّةُ الرُّؤوسِ التي تُشبِهُ الأرجلَ؟!

كلُّ رواياتِ الاستِبدادِ الإمبراطوريِّ القائمةِ على الظُّلمِ والطُّغيانِ لا بدَّ أن تَنتهيَ، لقدْ ولَّتْ مَثيلاتُها، ودَفنَتْ معَها أحلامَها الإمبرطوريَّةَ، وتحرَّرَتْ جميعُ الشُّعوبِ منْ عبوديَّتِها، وشادَتْ صروحَ حضاراتٍ أعْظمَ ممَّا بنَتْهُ تلكَ الإمبراطوريَّاتُ لأمجادِها الاستِعماريَّةِ!

ستَتحرَّرُ الشُّعوبُ جميعاً، وستُشرقُ شَمسُ الحرِّيةِ والعدالةِ والإنسانيَّةِ، وسيُولدُ العالمُ منْ جديدٍ، كمَا وُلدَ وتَجدَّدَ أزماناً وأزماناً، وستُورِقُ أشجارُ الأملِ، وسوفَ تتَفتَّح أزهاراً، ولا بدَّ أن تُونِع أثْماراً.. ويَظلُّ التَّفاؤلُ عنوانَ الأملِ والعَملِ!!

 الشارقة في 24/2/2018

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

الخيرُ والشّرُّ

الخيرُ قالُوا: – غايةُ العلمِ الخيرُ. أفلاطون – إنْ تعبْتَ في الخيرِ، فإنَّ التَّعبَ يزولُ والخيرُ يَبْقى، وإن تلذَّذْتَ بالآثامِ، فإنَّ اللَّذَّةَ تزولُ والآثامُ تبقَى.…

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات