النِّعمُ الحقِيقيَّةُ والنِّعمُ المزيَّفةُ

لقدْ أنعمَ اللهُ سبحانَهُ على الكونِ نِعماً عظيمةً لا تُعدّ ولا تُحْصى، منها ما هو ظاهرٌ أمامَ العينِ والفكرِ، ومنها مَا لا تَستطيعُ العينُ أن تَراهُ، ولا الفكرُ أن يُدركَه، ولذلكَ وجبَ على الإنسانِ أنْ يتأمّلَ ذاتَهُ وما فيها من نِعمٍ، وأن يتفكّرَ في الكونِ من حولِهِ ليكتَشِفَ كمْ فيهِ منَ العظائمِ الدّالةِ على قدرةِ اللهِ وعنايتِهِ في خلقِهِ لضمانِ استمراريّةِ الوجودِ.

ولكنّ المرءَ العاقِلَ المفكِّرَ النّاقدَ الباحثَ عن الحقائقِ قد يتساءلُ: هل ثمّةَ في الحياةِ نِعمةٌ حقيقيّةٌ وأُخرى مُزيَّفةٌ! وأخصُّ بالحديثِ هُنا نِعمةَ الثّراءِ والغِنى، وقدْ يَبدو السُّؤالُ غريباً ومنافِياً لمنطقِ العُرفِ الاجتماعيِّ والمعرفةِ الرّاسخةِ في عقيدةِ النّاسِ وأعرافِهم، انطِلاقاً من مفهومِ النِّعمةِ الموروثِ من الفكرِ الكهنُوتيّ القائمِ على التَّسليمِ المُطلَقِ بأنّ النِّعمةَ هي مِنحةٌ إلهيّةٌ خصَّها اللهُ بعضَ مخلوقاتِهِ البشريَّةِ دونَ سِواهُم؛ لأنَّ هؤلاءِ المنْعَمُونَ قدْ أحاطتْهم الرّعايةُ الرّبّانيّةُ، فأغدقَتْ عليهم تلكَ النِّعمَ دونَما حسابٍ أو تقديرٍ، أمّا الرُّعاعُ الأعظمُ من المخلوقاتِ البشريَّةِ الأُخرى فلَم تَشْملْهُم تلكَ العطاءاتُ القدَريّةُ؛ لأنّهم ليسُوا أهْلاً لها، أو أنّ اللهَ أنزلَ نِعمَهُ على بعضِ حيتانِهِ لاستدراجِهم وكشفِ حقائقِهم مثلَما أعْطى قارونَ من أموالٍ، وحرَمَ أسماكَهُ الطّيِّبةَ البسيطةَ من تلكَ النِّعمِ حتّى يَمتحِنَ قدرتَها على الصّبرِ في ذلكَ الامتحانِ واختبارِ قدرتِها على تحمُّلِ البلاءِ، مثلَما حرمَ أيّوبَ وابتلاهُ.

ومن هُنا وبناءً على الآيةِ :{إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قسَّم الخالِقُ البشرَ إلى فِئتينِ مُتضادّتينِ: فئةِ قارونَ سواءً كانتْ على ضلالٍ أو على هُدىً، وفئةِ أيّوبَ المؤمنةِ الّتي ابتَلاهَا اللهُ؛ لاختبارِ إيمانِها وقُدرتِها على تَحمُّل البلاءِ.

ولكنّ التّساؤلَ المحرّمَ الّذي يُدخِلُكَ في دائرةِ الزّندقةِ والكُفرِ هو: لماذا لا يكونُ الامتِحانُ في المادّةِ نفسِها لجميعِ المخلوقاتِ البشريّةِ، إمّا في الغِنى فيَنقسِمُ الخلْقُ جرّاءَه إلى فِئتينِ: فئةٍ ضالّةٍ تُسيءُ استِخدامَ المالِ لمصالحِها وملذّاتِها ورفاهِيتِها. وفئةٍ مُهتديةٍ تُنفِقُ المالَ في نفعِ النّاسِ ونشرِ المحبّةِ والسّلامِ، والقضاءِ على الفقرِ ومحاربةِ المجاعةِ واستئصالِ بذورِها، والتّخلُّصِ من الأمراضِ ومحاربةِ الجهلِ. وحينَها تكونُ نتيجةُ الامتحانِ دقيقةً وعادلةً، وكلٌّ من الفئتينِ مسؤُولٌ عمّا يفعلُهُ من خيرٍ أو شرّ، وحينَذاكَ يُمكِنُنا القولُ: دعْ لقارونَ ما لهُ ولا تَقترِنْ بهِ فتهلكَ، وتأمّلْ ما لأيّوبَ واحفلْ بهِ فتَهتَدي وتَتُوبُ إلى علّامِ الغيُوبِ.

وإمّا أنْ يكونَ الامتحانُ في الفقرِ والبلاءِ، فينقسِمُ البشرُ إلى طائفتينِ أيضاً: طائفةٍ صابِرةٍ تُؤمنُ بأنَّ البلاءَ مِنحةٌ ربّانيّةٌ يجِبُ شكرُ اللهِ علَيها، وطائفةٍ كافِرةٍ تَرى أنَّ البلاءَ كارثةٌ من صُنعِ شياطينِ البَشرِ، وبالتّالي تكونُ العدالةُ مطابِقةً لمقاييسِ الفِكرِ الّذي يَسْعى لتحريرِ البشريَّةِ من الظُّلمِ والاستِعبادِ والتّسلُّطِ الكهنُوتيِّ الّذي كلّفَ أوروبّا حصادَ قُرونٍ عديدةٍ في مُقارعةِ المفكِّرينَ ورجالِ الثَّوراتِ لتلكَ الدّكتَاتوريّاتِ المتسلِّطةِ بالمالِ والدِّينِ على رقابِ الشُّعوبِ.

ونَعودُ للإجابةِ على سُؤالِ المتَسائلِ: هلْ هناكَ نِعمةٌ حقيقيَّةٌ وأُخرى مُزيّفةٌ؟

نعَمْ! ثمّةَ نِعمتانِ: أُولاهُما حقيقيَّةٌ، وأُخراهُما مُزيّفةٌ.

ولكنْ كيفَ؟ وما الدّلائلُ والبراهينُ والقرائنُ لإثباتِ الحالِ من المُحالِ؟!

الدَّليلُ يا صَديقي في الحقيقةِ المُطْلقةِ: ليسَ كلُّ ما يَلمعُ ذهَباً، وليسَ كلُّ ما فقدَ بريقَهُ فحْمةً، وليسَ كلُّ كلامٍ مُنمَّقٍ آيةً أو سِفْراً أو مِزمَاراً، وليستْ كلُّ لغةٍ أعجميَّةٍ سَقَطاً وبُهتاناً، وليسَ كلُّ مَن يَتقمّشُ قُماشَ الزّاهدينَ ناسِكاً متعبِّداً، وليسَ كلُّ مَن يَعتَلي عرشَ الملوكِ ملِكاً حاكِماً، وليسَ كلُّ مَن يُوشّي صدرَ بزّتهِ العسكريَّةِ بالأوسِمةِ قائِداً مُظفَّراً، وليسَ كلُّ مَن يَتبجَّحُ بأعلامِ الحرّيّةِ والاستِقلالِ حُرّاً مستقِلّاً ، وليسَ كلُّ من قُتِلَ في وطنِهِ أو خارجَهُ شَهِيداً و يُرزَقُ حيَّاً، وليستْ كلُّ الدَّوابِّ الّتي تَحملُ فِكراً ظلاميَّاً وتَنتحِرُ من أجلِهِ مخلوقاتٍ آدميّةً… وليسَ كلُّ مَن يَتربَّعُ كرسيَّ العدالةِ في المحكمةِ قاضِياً عادلاً، وليسَ كلُّ أحمرَ دماً، ولا كلُّ سوادٍ ظلاماً، ولا كلُّ بياضٍ ابتِهاجاً وسُروراً ونوراً، ولا كلُّ زخرفةٍ حضارةً، ولا كلُّ زوبعةٍ إعصاراً، ولا كلُّ سكونٍ أمْناً وهُدوءاً، ولا كلُّ ضحكةٍ فرحَاً وغَبْطةً، ولا كلُّ ابتسامةٍ رضاً وتفاؤلاً، ولا كلُّ بكاءٍ ودمعةٍ حزناً ولوْعةً.. إلى مَا لا نِهايةَ لهُ منَ الكلِّيّاتِ المتَصارعةِ الأضدادِ في حياةٍ تغُصُّ بها عددَ النُّجومِ والحصَى والتّرابِ.

ولتوضيحِ ذلكَ لا بدَّ من التَّعرُّفِ على أصنافِ ذوي النِّعمةِ، حتّى يَتسنّى لنا الحُكمُ الصّحيحُ عليها والتّمييزُ الدَّقيقُ بين النِّعمةِ الحقيقيّةِ والنّعمةِ الزّائفةِ.

نعمْ ثمّةَ صِنفٌ من أصحابِ النِّعمةِ بسطَتْ لهمُ الحياةُ كفَّيها، فاجتهدُوا وسَعَوا في مناكِبِ الأرضِ حتّى اكتَنزُوا الذَّهبَ والألماسَ، وليسَ الفضّةَ، وأضْحَوا أثرياءَ.

وثمّةَ صِنفٌ ثانٍ منْ هَؤلاءِ ورثُوا الثّرواتِ عن آبائِهم وأجدادِهم، ففتحُوا أعيُنَهم على الدُّنيا والخيراتُ والنِّعمُ تَحفُّ بهِم، فلمْ يَبطرُوا ولمْ يَكفُرُوا بها، وإنَّما حافظُوا علَيها، وسَعَوا إلى توسيعِ خزائِنها بشتّى وسائلِ الجمعِ والضّربِ والطّرحِ والتّقسيمِ حتّى لا تنالَها عِلّةٌ رياضيّةٌ، كمَا سعَوا إلى توسيعِ مساحاتِها الجغرافيّةِ عبرَ البلدانِ والقارّاتِ مُستَخدِمِينَ كلَّ قوانينِ الجُغرافْيا الطّبيعيَّةِ؛ حتّى لا يَنالَها خسْفٌ أو هزّةٌ أرضيّةٌ على أدْنى درجاتِ مقياسِ ريخْتر، ولم يَنسَوا فلسَفةَ كارلْ ماركس في رأسِ المالِ والقِيمةِ النّاتجةِ عنهُ، فأدخلُوا الرّأسَ في البطنِ، وأخرجُوا القيمةَ من الظَّهرِ، وأنتجُوا الفائِضَ من القدمَينِ، ولعنُوا أنفاسَ الاشتراكيّةِ الطّوباويّةِ، كمَا لم يدَعُوا مجالاً للشّيطانِ كي يُوسوِسَ لهُم، فقدْ علّقُوا على كلِّ نعمةٍ من نعمِهم سُورَ المعوّذاتِ ومزاميرَ دفعِ الحسدِ وأناجيلَ البِشاراتِ الكُبرى في المحافظةِ على النّعمةِ، ووصلَتْ بهم الحالُ إلى الهندوسيّةِ في تقديسِ البقرةِ الّتي تدرُّ عليهِم بشتّى ألوانِ النِّعمِ.

وثمّةَ صنفٌ ثالثٌ من أصحابِ النِّعمةِ لم يُجهِدوا أنفسَهم لا في التّجارةِ القابلةِ للرّبحِ والخسارةِ، ولا سعَوا في مناكبِ الأرض بحثاً واستثماراً، وإنّما سخّروا تلك الشّياطينَ في إخفاء وسائلِهم وطرقِ خدائِعهم، فعمدُوا إلى غسيلِ الأموالِ باستخدامِ أحدثِ الغسّالاتِ الأوتوماتيكيّةِ الّتي تغسلُ وتُنشِّفُ وتنشرُ غسيلَها وتَطويهِ على الفورِ، متجاوِزةً كلَّ قوانينِ الحبالِ والملاقطِ، وهكَذا تستمرُّ الأموالُ في العبورِ وباستثماراتٍ قانونيّةٍ يحتاجُ فيها شياطينُ الجنِّ إلى دروسٍ ومحاضراتٍ كي يفكُّوا لُغزاً من ألغازِها أو طلْسَماً من طلاسِمِها، أو شِيفْرةً من شيفراتِها.

وهناكَ صِنفٌ رابعٌ بيدِه مفاتيحُ صُنعِ القرارِ ، وفي قدميهِ بوطٌ وطنيٌّ عسكريٌّ مصنُوعٌ من جلدِ النُّمور يحملُ أسفلَهُ ماركةَ الشَّركةِ الأجنبيَّةِ المصنِّعةِ لتلكَ الأحذيةِ الّتي تقودُ بلداناً وبلداناً، ولا شكَّ في أنَّ القرارَ والبوطَ العسكريَّ هما أقْوى قوانينِ الجمْعِ والضّربِ، دونَ الحاجةِ إلى التّقسيمِ والطّرحِ، فتنهالُ عليهمُ النّعمُ تارةً باسمِ القضيّةِ الكُبرى والدّفاعِ عن الوطنِ، وتارةً باسمِ الجِبايةِ والضّرائبِ والرّعايةِ ورسومِ العيشِ والبقاءِ أحياءً.. وخلالَ مدّةٍ وجيزةٍ يُصبحُ كلُّ ما على وجْهِ الوطنِ وفي أحشائِهِ وفوقَ رأسِه مُلْكاً اصطفَاهُ الخالِقُ لذي الجَلالةِ وسيادةِ البوطِ العسكريِّ الحاميةِ للوطنِ.. وكلُّ رعاعِ الشّعبِ خدمٌ وحشمٌ للقائدِ الملْهمِ، وكلُّ المنابرِ والنّواقيسِ تدعُو لذي الجلالةِ والسِّيادةِ والفخامةِ بالرّعايةِ الإلهيّةِ ودوامِ الإنجازاتِ العظيمةِ الّتي لولاهُ لما رأتْها عينٌ ولا سمِعَ بها إنسٌ ولا جانّ.

وصِنفٌ خامسٌ حديثُ العهدِ لمْ يُجهِد ذاتَه، ولم يَشغلْ فكرَهُ في البحثِ والتّنقيبِ، وإنّما جاءَهُ القدَرُ في ليلةِ القدْرِ ، فدُمِّرتْ أجزاءٌ من وطنِهِ وشُرّدَ نصفُ شعبِه، وذلكَ من أجلِ الدّفاعِ عن الوطنِ (الكُرسيّ) ومحاربةِ المؤامرةِ الكونيّةِ الكُبرى، فراحَ يعتمِدُ أسلوبَ التّعفيشِ الّذي لم يَردْ لهُ ذكْرٌ في كلِّ أسفارِ السَّلبِ والنَّهبِ والسَّبيِ والسَّطوِ والاختِلاسِ والقرصنَةِ، فلمْ يَدَعُوا في منزلٍ مهدَّمٍ مِسْماراً لجُحَا العربيِّ، ولا مِصباحاً لأديسون، ولا باباً لجاكسون، ولا نافذةً لطايسون، ولا سجّادةً لإبلْسون، ولا حذاءً لماركْسون، ولا جراباً لكالْسون، ولا بقرةً لهِندْسون، ولا حماراً لدونكْسون، ولا نعجةً لخروفْسون، ولا حديداً في الأسقفِ لسكايْسون، ولا بعرةً تدلُّ على البعيرِ لعربْسون..

ويجِبُ ألّا ننْسى أُمراءَ الحروبِ وتجَّارَ الدِّماءِ والمخدِّراتِ والخُمورِ والدَّعارةِ وتجّارَ الأعضاءِ البشريّةِ والمقامِرينَ وبائِعي مقدَّراتِ الأمّةِ بتاريخِها وتُراثِها وآثارِها وثرواتِها مقابِلَ كرسيٍّ عفِنٍ أو منصِبٍ أو دورٍ قذِرٍ لتحقيقِ مطامعِ الطّامِعينَ، وهؤلاءِ أخْطرُ أصنافِ أصحابِ الثّراءِ والنّعمةِ!

وجميعُ تلكَ الأصنافِ وتماشِياً مع قانونِ لينينْسون: منْ أينَ لكَ هذا؟ راحَ يردُّ على تُهمةِ السُّؤالِ بقولِ أبي العلاءِ المعرّيِّ- وشتّانَ ما بينَ هذا الّذي اتُّهمَ بالزّندقةِ لآنّه فيلسُوفٌ، وما بينَ هؤلاءِ المرتزَقةِ والمجرمِينَ واللُّصوصِ-: (هذا ما جَناهُ أبي عليَّ وما جنَيْتُ على أحد)،أو برفعِ يافِطاتٍ وطنيّةٍ عليها صُورُ القائدِ الحكيمِ، أو بإبرازِ باركوداتٍ دوليّةٍ تُشبهُ شيفرةَ دافِنْشي.. على مبدأِ مَن دخلَ دارَ أبي سُفيانَ فهوَ آمِنٌ،أو بإنشاءِ جمعيّاتٍ خيريّةٍ تشبّحُ على النّاسِ وتسبِّحُ بحمدِ اللهِ وتستغفرُ لهُ آناءَ اللّيلِ وأطرافَ النّهار تارةً باسمِ بستانِ شيخِ الجبلِ، وتارةً باسمِ حديقةِ فرسِ النّهرِ، وتارةً ثالثةً باسمِ بحرِ القرشِ، وتارةً رابعةً باسمِ السّرِّ الأعظمِ واللُّغزِ الأفخمِ، وصاحِبِ الزّمانِ المعجَّلِ غيرِ المؤجَّلِ، وتارةً خامسةً باسمِ مقاومةِ البُرودةِ والتَّصدّي للحرارةِ والاحتِفاظِ بحقِّ استعمالِ تحاميلِ خفْضِ حرارةِ الحُمّى وصونِ كرامةِ حفّاضَاتِ (البامْبِرز).

وأخيراً أصِلُ إلى الحديثِ عن صِنفٍ من الأثرياءِ وهو بيتُ القَصيدِ مِن مقالَتي، وهو صِنفُ المقاوِلينَ، وما أدراكَ ما المقاوَلةُ، مُحاولةٌ ومُحاورةٌ، مُداهَنةٌ ومُداورةٌ، خُططٌ ظاهِرةٌ وأُخرى ضامِرةٌ، عمّالٌ مغلوبُونَ على أمرِهِم، ومُهندسُونَ بارِعونَ برَرةٌ ليسَ عليهم قتَرةٌ، ضحِكَ الزّمانُ لهم فرقصُوا، وغنّى الزّمانُ لهم فوثَبُوا، ووشّتْ لهمُ الحياةُ صدرَها، فقبّلُوا قدمَيها، وصلُّوا وتنسَّكُوا، ورجَمَتْ لهمُ الملائكةُ إبليسَ، فتفنَّنُوا في قذْفِ الشّيطانِ بالجَمَراتِ!

ولنتأمّلْ تلكَ النّعمَ بمنظارِ العقلِ والمنطقِ والحكمةِ والعدلِ حتّى نتبيّنَ الخيطَ الأبيضَ من الخيطِ الأسودِ فيها، وحتّى لا نُتّهمَ بمعاداتِنا للسّاميّةِ أو الحاميّة أو الآدميّة أوالحوّائيّة..

أمّا الصّنفُ الأوّلُ الّذي استحْوذَ على الثّروةِ بطرقٍ مشروعةٍ، فقدْ يكونُ نتيجةَ ابتِكارٍ أو اختراعٍ أو تطويرٍ في ميادينِ الحياةِ التّكنولوجيّةِ الحديثةِ، فهؤلاءِ تُعتبرُ نعمتُهم حقيقيّةً لا غبارَ عليها؛ لأنّهم برعُوا في استثمارِ عقولِهم الّتي هي نعمةٌ إلهيّة بلا أدْنى شكٍّ، فبسطَتْ لهم كفُّ الحياةِ عطاياهَا، ومُعظمُ هؤلاءِ ليسُوا من حظيرةِ المؤمنينَ، لكنّهم رأَوا مآسيَ البشريّةِ، فلمْ يبخلُوا بالإنفاقِ على المشاريعِ الخيريّةِ التي تُخفّفُ من وطأةِ الحياةِ عنِ البائسينَ، وخيرُ مثالٍ على ذلكَ (بيل غيتس) صاحبُ شركةِ مايكروسوفْت، وهوَ رجلُ أعمالٍ ومبرمِجٌ أمريكيٌّ ومحسِنٌ. فقدْ أسّسَ عامَ 1975 شركةَ مايكروسوفْت مع (بول آلان)، وقد صنعَ ثروتَه بنفسِهِ، ويملكُ أكبرَ نصيبٍ فرديٍّ من أسهُمِها المقدَّرِ بتسعةٍ بالمئةِ من الأسهمِ المطروحةِ.

في يونيو 2008 تركَ بيل غيتس إدارةَ الشّركةِ لصديقِهِ (ستيف بالمر) الّذي كانَ رفيقَ دربِهِ في الدّراسةِ في جامعةِ هارفارد، فراحَ يعملُ بشكلٍ جزئيٍّ في الشّركةِ، وقرّرَ التّفرّغَ لمنظّمتِهِ الخيريّةِ مؤسّسةِ بيلْ وملِيندا غيتسْ، وهي أكبرُ جمعيّةٍ خيريّةٍ في العالمِ والمموَّلةِ جزئيّاً من ثروتِهِ. وأمثالُ بيلْ غيتسْ في الكسْبِ المشروعِ والإنفاقِ الخيريِّ عديدُون يعرِفُهم المؤمنُونَ وغيرُهم.

فهؤلاءِ أصحابُ نعمةٍ حقيقيّة غيرِ مزيّفةٍ تجدُ فيهم التّواضعَ لا التّعجرُفَ، والإنسانيّةَ لا الوحشيّةَ، يُنفِقون بعضَ أموالِهم في رفعِ البلاءِ عنِ الضّعفاءِ، وليسَ في سحْقِهم وتدميرِ منازلِهم وتشريدِهم وإثارةِ الحروبِ والفِتنِ هُنا وهناكَ، كما يفعلُ أصحابُ الأخدودِ وأصدقاءُ نمرودٍ وأبناءُ لوطٍ..

وأمّا الفئةُ الثّانيةُ من أصحابِ النّعمِ الّذينَ ورثُوا ثرواتِهم عن أسلافِهم، فلا نَدري كيفَ جمعَها المورِّثُون، فهلْ كانُوا مثلَ بيل غيتس أمْ أذيالاً للمُستعمِرينَ وأتباعِهم، أم كانُوا تجّاراً ومقاوِلينَ أو معفِّشينَ قدماءَ أو قراصِنةً وقطّاعَ طرقٍ أو أمراءَ حربٍ أو تجّارَ قضَايا وطنيّةٍ كُبْرى؟!

فعلْمُ ذلكَ عندَ علّامِ الغُيوبِ.. ولكنْ قدْ تجِدُ عندَ هؤلاءِ نوعاً من الامتِلاءِ وشيئاً من التّواضعِ؛ لأنّ النّعمَ الّتي يمتلِكُونَها لم تعُدْ تُساوي إلّا قيمةَ إحساسِهم بها، وفي الغالبِ قدْ فقدُوا الكثيرَ من المشاعرِ نتيجةَ التُّخمةِ والرّفاهيةِ الزّائدةِ، فأصبحَ حالُهم حالَ البقرةِ في مرعىً خصيبٍ، كما يُقالُ في المثلِ الشّعبيّ: (كثرةُ المرعى تُعمِي عينَ الدَّابّة).

والصّنفُ الثّالثُ منْ ذوي النّعمةِ همْ أصحابُ غسيلِ الأموالِ الّذينَ آثرُوا النّظافةَ على القذارةِ والشُّبهاتِ العالِقةِ بالعملِ ورأسِ المالِ والفائضِ من الإنتاجِ والتّعفيشِ المُزْريْ وصرَعاتِ البحثِ والابتكارِ والاختراعِ والتّطويرِ وغيرِها، فعمَدُوا إلى التّجارةِ بالأموالِ وتهريبِها عبرَ شركاتٍ وهميّة قانونيّة، وهي أموالٌ مسروقةٌ، تُصبحُ بحكمِ الاستثمارِ أموالاً مشروعةً وينتقِلُ عملاؤُها بينَ ليلةٍ وضُحاهَا من مرحلةِ العدمِ والهيولّى إلى مرحلةِ الصّيرورةِ والقفزِ فوقَ كلِّ قوانينِ النّشأةِ الإقطاعيّةِ والبورجوازيّةِ والرّأسماليّةِ.. وبالطّبعِ فإنّ نعمتَهم زائِفةٌ؛ لأنّهم لصوصٌ مارقونَ على كلِّ الشّرائعِ السّماويّةِ والوضعيّةِ، وهؤلاءِ في الغالبِ قطيعٌ من الوحوشِ الكاسرةِ في غابةٍ يحكمُها غضنْفرٌ شريكٌ لهم حتّى في مخلّفاتِ الضّحَايا، مع مراعاةِ قانونِ القيمةِ (حصّة الأسد).

وأمّا الصّنفُ الرّابعُ من هؤلاءِ المُنعَمينَ فهمْ أصحابُ فِرعونَ وقادتُهُ ومتنفّذُوهُ الّذينَ يملكُونَ الأرضَ ما فوقَها وما تحتَها باسمِ المملكةِ العُظْمى، فهؤلاءِ ليسُوا أكثرَ من مُقاولينَ، تُديرُهم مكاتبُ الاستثمارِ عن بعدٍ، لكنّهم يَنعمُون بكلِّ خيراتِ الدُّنيا، ويسلبُونَ المُستضعَفينَ لقمةَ عيشِهِم ، تارةً باسمِ الوطنِ وصونِهِ، وتارةً باسمِ الضّرائبِ والجِباياتِ، وتارةً ثالثةً باسمِ قانونِ الحمايةِ والرّعايةِ واستنشاقِ الهواءِ والاستحمامِ بأشعّةِ الشّمسِ وتنشيفِ الجُفونِ على ضوءِ القمرِ وأداءِ الصّلواتِ في معابدِ تصنيعِ العُقولِ المسطَّحةِ الّتي تنامُ وتصحُو على سيرةِ بني هلالٍ، وفروسيّةِ عنترةَ، ومغامراتِ الشّاطرِ حسَن. وهؤلاءِ نِعمُهم مقدَّسةٌ لا تَقبلُ السِّينَ ولا الجيمَ، ولا تخضعُ لكلِّ قوانينِ سيبويهِ ولا نفطويهِ ولا ابنِ خالوَيهِ ولا ابنِ مِسكويهِ ولا ابنِ عمّويهِ ولا ابنِ قحبَوَيهِ..

والصّنفُ الخامسُ هُم أصحابُ ذي الهمّةِ الّذين لا همَّ لهُم إلّا التّعفيشُ وسرقةُ المدنِ المهجورةِ الّتي دمّرتْها طائراتُ العدوّ الحقيقيِّ للشَّعبِ والإنسانِ والتّاريخِ، ولا عملَ لهم غيرُ السَّطْوِ على الحواجزِ، وكلُّ ذلكَ باسمِ الولايةِ العُظْمى والحقِّ الدّينيّ المقدَّسِ، وشريعةِ الوطنِ والقائدِ المظفَّرِ الّذي لولاهُ، لما كانَ ثمّةَ وطنٌ ولا شعبٌ، والقانونُ لمنْ يملكُ القوَّةَ في غابةٍ لا يحكمُها سِوى الوحوشِ الكاسرةِ والصّقورِ والنّسورِ الجارحةِ، ونِعمُ هؤلاءِ مشروعةٌ حقيقيّةٌ لا تقبلُ كلمةً تمَسُّ حضارةَ أخلاقِها ورقيِّ طرقِ الاستِحواذِ عليها، ولا تخضعُ لقانونٍ سماويٍّ ولا أرضيٍّ ولا شيطانيٍّ!!

وأمّا بقيّةُ الأصنافِ فيُقالُ فيها ما قيلَ في غيرِهَا ممّا سبقَ، ولن أُطيلَ الحديثَ عنها؛ لأنّها جلِيّةٌ واضحةٌ وضوحَ الشّمسِ، إلّا أنّني آثَرتُ الحديثَ عن آثارِ تلكَ النِّعمِ على أصحابِها وعلى خلقِ اللهِ ممّنْ يُحيطُ بهِم، أو يَعيشُ بينَ ظهرانِيهم، فلا شكَّ أنّ هؤلاءِ جميعاً ليسُوا سِوى عبيدٍ وحرّاسٍ، أخذتْهمُ الدُّنيا ببهرجتِها، وأعمَتْ أبصارَهم عن رؤيةِ وجهِها الجميلِ وروحِها البسيطةِ الطّيِّبة، فهَرعُوا إلى امتلاكِ قوّةِ المالِ؛ حتّى يُسيِّروا الحياةَ بما تشتهيهِ مطامِعُهم ونزوَاتُهم ونوايَاهُم، فامتلكُوا جسدَ الحياةِ القبيحَ، ولكنَّهم حُرمُوا من روحِها الطّاهرةِ النّقيّةِ الّتي لا يشعرُ بها إلّا البُسطاءُ والطّيِّبون الّذينَ لم يَجدُوا في دنياهُم كنزاً أثمنَ من قناعتِهم، ولا ثروةً أغْلى من كلمةٍ طيّبةٍ وإحساسٍ نبيلٍ، ولا قوّةً أعْتَى من طاقاتِهم وقُدراتِهم على الصَّبرِ والتَّحمُّلِ، ومن هُنا أعودُ لأُثبِتَ إيماني من جديدٍ بأنَّ صبرَ أيّوبَ كان أقْوى من مالِ قارونَ، وبأنّ كِسرةَ خبزٍ تسدُّ الرَّمقَ وتُدخِلُ السّعادةَ إلى نفسٍ آدميّةٍ أغْلى وأجْملُ من أعلافٍ متنوّعةِ الأصنافِ، ولو قُدِّمتْ على مائدةٍ ملاعِقُها من ذهبٍ وآنيتُها من ألماسٍ..

ولا نَنْسى أنّ ابتسامةَ فلّاحٍ في حقلِهِ أرقى وأجملُ من قهقهةِ تاجرٍ يخدعُ نفسَه وعملاءَه حتّى في ضحكاتِه..

ولا نَنْسى أنّ تناولَ رغيفِ خبزٍ مع بصلةٍ في أحضانِ الطّبيعةِ بعدَ مشقّةِ الكدْحِ، أروعُ وأنبلُ من تناولِ وجباتِ عالميّةِ الشُّهرةِ بينَ الرّاقصاتِ والمغنّياتِ وبائعاتِ الهَوى، حيثُ الخلاعةُ والسّكرُ والعربدةُ التي تُشبِه حضورَ مسارحَ مصارعةِ الثّيرانِ البشريّةِ والحيوانيّةِ..

ولا ننْسى أنَّ العيشَ في بيتٍ حجريٍّ قديمٍ تحُفُّ به الأُلْفةُ والمحبّةُ بين أفرادِ أسرةٍ ريفيّةٍ تعيشُ فيه على الكَفافِ، وتَعبقُ من زواياهُ رائِحةُ الدِّفءِ في قَرِّ الشّتاءِ، كما تفوحُ رائحةُ البرودةِ ونسماتُها في حرّ الصّيفِ، ويعبقُ فضاءُ فنائِه بعبيرِ ورودِه وأزهارِه الّتي تُكلّلُ جدرانَ أسوارِه كعرائسِ المروجِ، وينْتَشي أُذنُ الجَوزاءِ بتغريدِ الطُّيورِ وزقزقةِ عصافيرِ الدُّوري وهيَ تتراقصُ طرباً فوقَ أغصانِ شجرةِ التّوتِ الّتي تقبعُ ملِكةً وسطَ باحةِ الدّارِ.. أروعُ وأبْهى وأنْقى وأرْقى من حياةٍ مصنَّعةٍ من الدّيباجِ والحريرِ ، مرصَّعةٍ بأثمنِ وأجودِ أنواعِ الجواهرِ والأحجارِ الكريمةِ في قصورٍ تخلُو من الألفةِ والمحبّةِ والرّحمةِ، تتَصارعُ في حناياهَا نسماتُ البُرودةِ مع شتّى موجاتِ الحرارةِ الغائِرةِ منَ الفضاءِ الخارجيِّ أو المرتدّةِ مع أنينِ أجهزةِ التّكييفِ.. كما تتصارعُ روائحُ الطّعامِ بين شرقيّةٍ وغربيّةٍ مع روائحِ العطورِ الباريسيّة ونكهاتِ الشّايِ والقهوةِ في حياةٍ تتصارعُ الأضدادُ في ثناياهَا، بين جمالٍ مُبهرجٍ تكسُوهُ الزّخرفةُ، وتخلُو مضامينُه من الرّوحِ الّتي تَفيضُ بالمشاعرِ والأحاسيسِ الّتي حَبَاها اللهُ حياةَ الوجودِ ووجودَ الحياةِ!

فمَا أقبحَ المالَ الّذي يُغيّرُ سلوكَ الإنسانِ، ويلوّنُ نبراتِ صوتِه بالعظمةِ المصطَنعةِ، والفخامةِ الخادِعةِ، وتتحوّلُ في استحواذِه المظاهرُ الطّبيعيّةُ البسيطةُ إلى عالمٍ مركَّبٍ معقَّدٍ تُشوّهُ معالمَهُ الأضدادُ المتصارعةُ، وتنقلِبُ فيهِ الآدميّةُ إلى وحشيّةٍ، والطّيبةُ إلى خبثٍ، والبساطةُ إلى دهاءٍ ومَكر، والابتسامةُ إلى قهقهةِ السّكارى، وحركةُ الأسماكِ النّاعمةُ في جوفِ اليمِّ إلى زلزلةِ التّماسيحِ حينَ تَنقَضُّ على فرائسِها، وحركةُ الكواكِبِ في أفلاكِها إلى صراعِ النّفوذِ والهيمنةِ على الكويكباتِ الّتي تدورُ حولَها؛ وكأنّ الحياةَ ليستْ إلّا صراعاً لابتلاعِ كلِّ خيراتِها وحِرمانِ المخلوقاتِ الأُخرى من الوجودِ.. هذا هوَ منطِقُ الأثرياءِ، وهذا هو الحقُّ الّذي يَسعَون لابتلاعِه وامتلاكِه، وكأنّهم همُ الحياةُ، ولا حياةَ لمنْ سواهُم، وكأنّهم همُ الوجودُ ولا وجودَ لمن دونَهم، وكأنّهم همُ السَّادةُ والآخَرون عبيدٌ، وكأنّهم همُ الملائكةُ والآخرونَ شياطينُ، وكأنّهم ظلُّ الإلهِ على الأرضِ ولا ظلَّ لمنْ سِواهُم!!

الشارقة في 7/12/2020

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات