الشّكُّ واليقينُ -2

الشّكُّ واليقين في الحبِّ

مثلما يتصارعُ الشّكُّ واليقين في تأمُّلِ الحياة والوجودِ والفناء، فإنّنا نجدُ صدى هذا الصّراعِ في علاقاتِ النّاس، فتارةً يتأجّجُ الصّراعُ نتيجةَ الشّكِّ، وتارةً يخبُو أُوارُهُ حينما يغمرُ الحبُّ القلوبَ باليقينِ، تارةً تملأُ دياجيرُ البغضِ أفئدةَ النّاسِ بالكراهية والضَّغينةِ بسببِ الشُّكوك، وتارةً يجلُو يقينُ المحبّةِ الإنسانيّة الصّافيةِ ضبابَ القلوبِ الّتي أعْمى بصيرتَها ضلالُ الفِكر.. ولكنْ حينَما تذوبُ القلوبُ في القلوبِ عشقاً، وتمتزجُ الأرواحُ بالأرواح غراماً، تحلُّ السّكينةُ محلَّ الضّياعِ والقلق، وتسكنُ الجوارحُ إلى الجوارحِ محبّةً ويقيناً، ويجرُّ الشّكُّ سحبَ ضبابِه من النُّفوس، فتعيشُ في أمنٍ وسلام وفي غبطةٍ ووئام.

وهاكُم طائفةً من أقوالِ المفكّرين والشُّعراء تؤكّدُ أنّ الحبَّ والشّكَّ لا يجتمِعان، فإنْ دخل الشّكُّ القلوبَ من بابٍ غادرَها من البابِ نفسِه، من ذلك قولُ ألكسندر دوماس: “الحبُّ الخالصُ والشّكُّ لا يجتمِعان، فالبابُ الّذي يدخلُ منه الشَّكُّ يخرجُ منه الحبُّ”. وربّما يستطيعُ الحبُّ أن “يتحمَّلَ الموتَ والبعد أكثرَ ممّا يتحمَّلُ الشّكَّ والخيانة”. كما يرى أندريه موروا.

وممّا يفسدُ علاقةَ المتحابّين كثرةُ الظّنونِ والشُّكوك، فإن ساءَ فعلُ الإنسانِ كثُرت شكوكُه، وساءَت ظنونُه، فراح يُعادي خلّانَه ومحبِّيه بوشاياتٍ من أعدائِه، حتّى يبيتَ في ظلامٍ حالكٍ من الشُّكوكِ، كما نرى في قولِ أبي الطّيّب المتنبّي:

إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ

وَصَــــــــــدَّقَ مــا يَعــــــــــــــتادُهُ مِن تَـــــوَهُّـــــمِ

وَعـــــادى مُحِبّيهِ بِقَـــــــــــــولِ عُـــــــــــــــــداتِهِ

وَأَصبَحَ في لَيـــلٍ مِنَ الشَـــــكِّ مُظلِمِ

ولكنْ حينما يُحسنُ الشّاعرُ الظّنَّ بحبيبتِه، فإنّه يرى في كلِّ حركةٍ من حركاتِها حبّاً، وفي كلِّ إيماءةٍ عشقاً، وإن كانَ في ذاتِه شيءٌ من الظّنِّ، فإنّما هو ظنٌّ من شدّةِ الحبِّ والحرصِ والإخلاصِ والوفاء، كما قال الشّاعرُ:

وَلَمَّــــــــا رَمَــــــــــــــــــــــتْ بِالطَّــــــــــــــــــرْفِ ظَنَـــــــــــــنْتُهَا

كَمَا آثَـــــــــرَتْ بِالطَّرْفِ تُؤْثَـــرُ بِالْقَـــــلْبِ

وَإِنِّي بِهَـــــــــــــــــــــا فِي كُلِّ حَـــــــــــــــــالٍ لَـــــــــوَاثِقٌ

وَلَكِنَّ سُوءَ الظَّنِّ مِنْ شِدَّةِ الْحُبِّ

وحينما يصيرُ الحبُّ يقيناً، ويمتزجُ الجسدانِ في روحٍ واحدة، فإنَّ الحبَّ مهما سمَا وبلغ من حالةِ الارتواء، لا بدَّ أن يحنَّ إلى شيءٍ من الفراقِ حتّى تهتاجَ الجوارحُ من جديدٍ إلى اللّقاء، وحتّى يشتدَّ الهيامُ كي يحلوَ اللّقاءُ، فقد علّمتْنا الطّبيعةُ أنّ اللّقاءَ لا يحلُو إلّا بعد الافتراقِ، وأنّ الدّموعَ لا تكون رائعةً إلّا بعد حزنٍ وألمٍ من بُعدِ الفراق، وأنَّ أسئلةَ الشّكِّ لا تحملُ جواباً رائعاً إلّا بعد شوقٍ وحنين إلى موعدِ اللّقاء، فالطّيرُ تغادرُ في كلِّ موسمٍ هضابَها الّتي أنِستْ إليها؛ لتعودَ وفي أفئدتِها لهفةُ العودةِ إلى موطنِها الجميلِ في الذّرا، والشّمسُ لو لم تغِبْ لفقدَت بهجتَها ومحبَّةَ النّاسِ لها، فبِالفراقِ يتحوَّلُ الحبُّ إلى أسئلةٍ من الشّكِّ والعذاب، وبالفراقِ يصيرُ الحبُّ أسطورةً تهفُو النّفوسُ لفهمِ ألغازِها، ويغدو سراباً جميلاً وسؤالاً لا يلْفى له جواباً، وبالفراقِ يزدادُ الجميلُ جمالاً، وبالبينِ تزهُو المسافاتُ وتبدو أكثرَ اقتراباً، وكلُّ ذلك يجعلُ الحبَّ أعمقَ وأشدَّ وأحلى بين قلْبَي الحبيبين، كما يكونُ الحبُّ واللّقاء أجملَ حينما تلثمُ حبّاتُ التّرابِ قطراتِ الغيثِ بعدَ انقطاعٍ، وهذه المعاني نلمسُها في أجملِ وأبهى الكلماتِ والصّور في قصيدةِ نزار قبّاني (أسألُكَ الرّحيلَ):

لنفترِقْ أحباباً

فالطّيرُ في كلِّ موسمٍ

تُفارقُ الهِضَابا

والشّمسُ يا حبِيبي

تكونُ أحْلى عندَما تُحاولُ الغِيابا

كُنْ في حياتي الشَّكَّ والعَذابا

كُن مرَّةً أسطورةً

كُن مرَّةً سَراباً

وكُن سؤالاً في فَمي

لا يعرِفُ الجَوابا

من أجلِ حُبٍّ رائعٍ

يسكنُ منّا القلْبَ والأهْدابا

وكي أكونَ دائماً جميلةً

وكي تكونَ أكثرَ اقتِراباً

أسألُكَ الذَّهَابا

ولعلَّ أجملَ معاني الشّكّ واليقينِ تسيل فيضاً من الدُّرر على لسان شاعرِنا الصّوفيّ الكبير عمر الخيّام في رباعيّاتِه، فهي تلخّصُ فلسفةَ الحبِّ الإلهيّ في النّفسِ البشريّة، وتطلِقُ العنانَ لأسئلةِ الكون الكُبرى حول الوجودِ والعدم، وحول طبيعةِ النّفسِ البشريّة المجبولةِ على الصّراعِ والتّناقضات والمصوغةِ على اللّهو واللّذةِ والألمِ والإثم والتّوبة.. على الشّكِ والإيمان.. على حبِّ الدّنيا واللّهفةِ إلى نعيمِ الآخرة.. فهل يا تُرى يعذِّبُ من خلقَ الأكوانَ كلَّها نفوساً جبلَها على هذا الصّراعِ، وصاغَها على هذه التَّناقضاتِ، فقد أبدعَ اللهُ في الحياةِ جمالاً ما بعدهُ جمالٌ، ولذَّةً ما بعدها لذّةُ، وغراماً لا ينتهي إلّا بالرّدى.. فصار الإنسانُ نهْباً للهوى والمعصيةِ، وصار ريشةً في مهبِّ الرِّيح بين الشّكِّ واليقين.. فالقصيدةُ مُفعمةٌ بالمعاني الصّوفيّةِ العميقة الّتي يحارُ الفهمُ في إدراكِ مقاصدِها البعيدة، حتّى ثارتْ موجةٌ من التّساؤلاتِ حول إيمانِ الشَّاعر أو شكوكِه:

كأنّنا أعداءُ هذا القَضَاءْ

بيْنا تَرى الإبريقَ والكأسَ قَد

تَبادَلا التَّقبيلَ حوَل الدِّماءْ

تفتّحَ النّوَّار صُبَّ المدامْ

واخلَع ثيابَ الزُّهدِ بين الأنامْ

وهاتِها مِن قبلِ سطْو الرّدى

في مجلسٍ ضَمَّ الطّلى والغرامْ

حَار الوَرى ما بينَ كفرٍ ودينْ

وأمعَنُوا في الشّكِّ أو في اليقينْ

وسوف يدعُوهم مُنادي الرّدى

يقولُ ليسَ الحقُّ ما تسلُكُونْ

نَصبْتَ في الدُّنيا شِراكَ الهَوى

وقلْتَ أُجزي كلّ قلبٍ غوَى

أتنصِبُ الفَخَّ لصيْدي وإنْ

وقعتُ فيهِ قلْتَ عاصٍ هَوى

أنا الَّذي أبدعْتُ مِن قدرتِكْ

فعشْتُ أرعى في حِمى نعمتِكْ

دعْني إلى الآثامِ حتّى أَرَى

كيفَ يذوبُ الإثمُ في رحمتِكْ

إن تُفْصَلِ القطْرةُ في بحرِها

ففي مداهُ مُنتَهى أمْرِها

تقاربَتْ يا ربُّ ما بينَنا

مسافةُ البُعدِ علَى قدْرِها

وإنَّما الدُّنيا خيَالٌ يزولْ

وأمرُنا فيها حديثٌ يَطُولْ

مشرِقُها بحرٌ بعيدُ المدَى

وفي مَداهُ سيكونُ الأُفُولْ

جهِلْتِ يا نفسي سرَّ الوجُودْ

وغِبْتِ في غَورِ القضاءِ البعيدْ

فصَوِّري مِن نَشْوتي جنّةً

فربّما أُحْرَمُ دارَ الخُلُودْ..

وأختتمُ مقالتي ونفسِي مليئةٌ بالأسئلةِ الّتي لا تنتَهي بين شكٍّ ويقينٍ.. بين علمٍ وجهلٍ.. بين ضعفٍ وقوّةٍ.. بين لذّةٍ وألمٍ.. بين سعادةٍ وشقاءٍ.. بين فقرٍ وغنىً.. بين حبٍّ لا يعرفُ النّهايةَ وبين كرهٍ تروي ظمأَهُ سمومُ الحياةِ.. لكنّني سأظلُّ أقاومُ ظلماتِ نفسي بإيقادِ شموعِ النّور في حنَايا فِكري وذاتي، فإنْ أفلحَ يَراعي في خطِّ حرفٍ على جدارِ الزّمانِ العَاتي، فذاكَ فضيلةٌ، وإن أخفقْتُ في نشرِ رسالتي في خضمِّ محيطٍ يترجْرجُ فيه مركَبي، فحسْبي أنّني وجّهتُ أشرِعتي في وجهِ العواصفِ غيرَ مبالٍ بلعنةِ المحنِ.. 

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات