نظَراتٌ وعبَراتٌ 4 (أدلّةُ التّشاؤم والتّفاؤل)

ت‌- الأدِلّةُ والبراهِينُ على طبيعةِ الحضارتينِ:

o انظُرُوا معي أيُّها المتشائِمُون كيفَ سطعَتْ حضارةُ الشَّرقِ على الغربِ، ومازالُوا يَستنِيرُونَ بأنوارِها المتغلْغِلةِ في نفوسِهم، وفي زوايَا حياتِهم المظلِمةِ؟!

 تقولُ الكاتِبةُ الألمانيّةُ زيغْريد هونْكَه في كتابِها (شمسُ العربِ تسطعُ على الغربِ): “أجَلْ، إنَّ في لغتِنا كلماتٍ عربيَّةً عديدةً، وإنّنا لَنُدينُ- والتّاريخُ شاهِدٌ على ذلكَ – في كثيرٍ من أسبابِ الحياةِ الحاضِرةِ للعربِ. وكَمْ أخذْنا عنهُم من حاجاتٍ وأشياءَ زيَّنَتْ حياتَنا بزخْرفةٍ محبَّبةٍ إلى النُّفوسِ، وألقَتْ أضواءً باهِرةً جميلةً على عالمِنا الرَّتِيبِ، الّذي كان يوماً من الأيّامِ قاتِماً كالِحاً باهِتاً.”. (3)

o وتأمَّلُوا كنوزَ شرقِنا في غربِهم: “إنَّ الإسلامَ قدِ انتشرَ، وبانتِشارِه أصبحَ البحرُ حدَّاً فاصِلاً بينَ عالمَينِ اثنينِ، فجاءَتِ البُندُقيَّةُ لتَمُدَّ البحرَ من جديدٍ جسراً مَكَّنَ بلادَ الشَّرقِ، بكنوزِه النَّادرةِ حيناً والمجهولةِ أحياناً، من غزوِ بلادِ الغربِ الجائِعةِ.”. (4)

 بل إنَّ كثيراً من شعائِرِ الإسلامِ زخرفَتْ مُعتَقداتِهم وشعائِرَهم الدِّينيَّةَ: “وثمَّةَ أيضاً شعائرُ ورمُوزٌ عربيَّةٌ ما تزالُ حتّى الآنَ مُتَّبَعةً في الكنائسِ، كرمْزِ إكلِيلِ الوَردِ الّذي جاءَ عن طريقِ الإسلامِ من الهندِ؛ ليَحُلَّ في الكنيسةِ. وتَعدَّى ذلكَ إلى الآنِيةِ المقدَّسةِ، كالمباخِرِ، حتّى البَخُورُ ذاتُه، والمُرُّ وغيرُه. أضفْ إلى ذلكَ أوشِحةَ الحريرِ والصُّوفِ والأردِيَةِ المنَمَّقةِ الّتي لمّا تَزلْ محفوظةً في هياكلِ الكنائسِ الأوربيّةِ ومعابدِها، والّتي ما فتِئَتْ تُغطّي مناكِبَ الكَهَنةِ المسيحيّينَ في الاحتفالاتِ الدِّينيَّةِ فتُضْفِي بفخامَتِها الشَّرقيَّةِ المزوَّقةِ وزينتِها الثَّقيلةِ معْنىً قُدْسيَّاً رائعاً على القُدَّاسِ الكاثوليكيِّ.” (5)

o ولا تَنسَوا أيُّها المتَشائِمُون أنّ الغربَ مهْمَا بلغَ من التَّقدُّمِ التِّكنُولُوجيِّ، ومهْما امتلكَ من أسبابِ القُوَّةِ والسَّيطرةِ، فلنْ يستطيعَ دكَّ أسوارِ الشَّرقِ المُحصَّنِ بكتابِ اللهِ وأنـوارِ تعاليمِه السَّماويَّةِ، فاستمعْ إلى ما قالَه غلادستُون الوزيـرُ الإنكليزيُّ موحِّدُ أركانِ الإمبراطُوريَّةِ البريطانيَّةِ في الشَّرقِ: “ما دامَ القرآنُ مَوجُوداً، فلنْ تَستطِيعَ أوروبَّا السَّيطرةَ على الشَّرقِ، ولا أنْ تكونَ هيَ نفسُها في أمانٍ”. (6)

 فهُم يُدرِكُون ما لِلقرآنِ من تأثيرٍ في حياتِهم في مختلفِ مناحِي العُلومِ، ولا يَستطيعُون إنكارَ ذلكَ، وهذا ما صرَّحَ به الفيلسوفُ ديمُورْت، حينَ قال: “إنَّ العلُومَ الطَّبيعيَّةَ والفلسفيَّةَ والرّياضيّةَ والنُّجومَ كلَّها أُخِذَتْ من القرآنِ، وهذهِ العلُومُ قد دخلَتْ أوروبَّا من القرنِ العاشرِ بعدَ الميلادِ “. (7)

 كمَا أنَّهم يُدرِكُون أنَّ التَّشريعَ الإلهيَّ الّذي جاءَ به النَّبيُّ الكريمُ مُحمَّدٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ هدايةٌ لكلِّ أممِ الأرضِ، لا يَتنافَى مع الحِكْمةِ والعقلِ، فهَذا ليف تُولستُوي (1828-1910) الأديبُ العالميُّ الّذي يُعَدُّ أدبُه من أمتعِ ما كُتِبَ في التُّراثِ الإنسانيِّ قاطبةً عن النَّفسِ البشريَّةِ، يَقُول: “يَكفِي محمَّداً فخراً أنّه خلَّصَ أمّةً ذلِيلةً دمَويّة من مخالِبِ شياطينِ العاداتِ الذّمِيمَةِ، وفتحَ على وجوهِهم طريقَ الرُّقيِّ والتَّقدُّمِ، وأنَّ شريعةَ محمَّدٍ، ستَسُودُ العالمَ؛ لانسجامِها مع العقلِ والحكمةِ.”. (8)

o ونحنُ في الشَّرقِ أغنِياءُ، وعليْنا أن نُدرِكَ مصادرَ غِنانا، كمَا يجِبُ أنْ نكونَ على يقينٍ من أنَّ حضارةَ الغربِ غنيَّةٌ مادِّيّاً، لكنَّها خاويةٌ منَ الرُّوحِ والجوهَرِ، فلماذا نتسوَّلُ ونحنُ أغنياءُ؟ وهَذا ما عبّر عنه العلَّامةُ الدُّكتورُ يوسفُ القَرضاويُّ، حينَ قالَ: “الحضارةُ الغربيّةُ قدّمتْ للإنسانِ الغربيِّ الوسائِلَ، ولم تُقدِّمْ له الغاياتِ، قدَّمتْ له الرَّفاهيةَ، ولم تُقدِّمْ له السَّكِينةَ.. منحَتْهُ المادَّةَ وسلبَتْه الرُّوحَ.. أعطَتْه العِلمَ وحرمَتْه الإيمانَ.. هذا ما صنعَه الغربُ، ناهِيكَ بما صنعَهُ بغيرِه من الشُّعوبِ.. لقد قتلَ الغربُ الآخرينَ ليَحْيَا، وصنعَ من جماجمِهم حِجارةً لبناءِ رفاهيَتَه، وزخرفَ أبنيتَه بدمائِهم.. وإذا كانَ في الحضارةِ الغربيَّةِ من خيرٍ، فكلُّه قد سبقَ به الإسلامُ، ولسْنا في حاجةٍ إلى أنْ نتسوّلَ من غيرِنا ونحنُ أغنِياءُ” (9)

o ولا تَنْسَوا أنَّ تلكَ الحضارةَ وصلَتْ إلى تُخمتِها مادّيّاً، لكنَّها قفزَتْ إلى أقْصَى درجاتِ القلقِ والعبثِيَّةِ، وافتقدَتْ كلَّ تَوازنٍ حضاريٍّ، وكلَّ معنىً إنسانيٍّ، يقولُ الدّكتورُ محمّد عِمَارة: “يُعاني الغربيُّونَ من خلَلِ توازنِ ثَمَراتِ الإبداعِ، ففي ميادينِ القوَّةِ والوَفْرةِ المادّيّةِ قفزتْ حضارتُهم قفَزاتٍ عِمْلاقةً، على حينٍ أصابَها الفقرُ في غيرِ هذينِ الميدانينِ، فافتقَدَ إنسانُها التَّوازنَ الحضاريَّ، والاطمِئْنانَ الآملَ.. إنّه التَّوازنُ الأعـرجُ الّذي حقَّقَ لإنسانِ الحضارةِ الغـربيَّةِ قوّةَ الوحوشِ الكاسِرةِ، وشَبَعَ مَن يأكلُ في سبعةِ أمعاءٍ، معَ أقْصى درجاتِ القلقِ والعبثِيّةِ، وانعدامِ المعنَى الإنسانيِّ للحياةِ!”(10)

o وقدْ وصلَتْ حضارةُ الغربيّينَ إلى مرحلةِ الذُّبولِ، يقولُ الأديبُ مُصْطفى صادِق الرّافعيُّ: “حضارةُ الغربيّينَ كالشَّجرةِ الذَّابِلةِ، يُعلِّقُون عليها الأثْمـارَ ويَشـدُّونَها بالخيطِ! كلَّ يومٍ يَحلُّونَ، وكلَّ يومٍ يربِطُون، ولا ثمَرةَ في الطَّبيعةِ!” (11).

o وعليكُم أيُّها المُسلِمُونَ والعربُ ألّا تَنْخدِعُوا بحضارةِ الغربِ، إنّها وهْمٌ وسرابٌ، يقولُ شاعرُ الإسلامِ وفيلسوفُ الشَّرقِ الدُّكتور محمَّدُ إقْبال: “أيُّها المسلِمُ المخدوعُ بالغربِ، استيقِظْ إنّكَ تُجْرِي سفينةً في سرابٍ! إنّكَ تبحثُ عن الشَّمسِ بمصباحٍ! سِرْ على قدمَيكَ، واهجُرِ الهَودَجَ ولو في صُحْبةِ لَيْلى، واحترِقْ بحرارةِ ذاتِك، ولا تَقْبِسْ من أحدٍ ناراً” (12).

o ولا تَنْسَوا أنَّ تلكَ الحضارةَ تلفِظُ أنفاسَها الأخيرةَ، فقد بلغَتْ مرحلةَ الاحتِضارِ، يقولُ الدّكتور إسماعيلُ الفاروقيّ: “الحضارةُ الغربيّةُ مُتصدِّعةٌ مُقبِلَةٌ على انهيارٍ تامٍّ، لا لِضَعفٍ في قوَّتِها، بل لِفسادٍ في أساسِها، أليسَ مَسْخاً للإنسانِ أنْ يتحدَّثَ الإنسانُ الغربيُّ عنِ القيمِ، فيسْألُكَ عنِ الثَّمنِ؟” (13)

o وتأمَّلُوا معي مواطِنَ العللِ والأدواءِ والفسادِ في جوهرِ هذهِ الحضارةِ ممّا نراهُ في ثنايا أقوالِ المفكّرينَ.

 يُحدّدُ العلّامةُ أنورُ الجُندي مَواطِنَ الدَّاءِ في هذهِ الحضارةِ فيقولُ: “يَكمُنُ زيْفُ الحضارةِ الغربيّةِ في مقاتلِها الحقيقيَّةِ، وهي: قيامُها على الرِّبَا، ونسبيَّةُ الأخلاقِ، وموقفُها الفاسِدُ من المرأةِ والأُسرةِ والمجتمعِ” (14).

 ويقولُ الدّكتور عبدُ الوهَّاب عزّام: “ففي هذهِ الحضارةِ دمارُهَا، وتحتَ أنوارِها نارُها” (15).

 ويقولُ الدّكتور طهَ جابِر العُلواني: “رغمَ أنّ الفِكرَ الغربيَّ نجحَ في التَّقدُّمِ العِلميِّ، فإنّه قَصّرَ في مخاطبةِ الجوانبِ الإنسانيَّةِ في المجتمعِ، وأصبحَتِ الحضارةُ الغربيَّةُ قائمةً على صِراعِ القَويِّ ضدَّ الضَّعيفِ” (16).

 ويقولُ العلّامةُ المُجدِّدُ ابنُ باديسَ رحمَه اللهُ: “المدنيّةُ الغربيَّةُ هي مدنيّةٌ مادّيّةٌ في نهجِها وغايتِها ونتائجِها، فالقُوَّةُ عندَها فوقَ الحقِّ والعدلِ والرّحمةِ والإحسانِ، قدْ عمّرَتِ الأرضَ وأفسدَتِ الإنسانَ” (17).

o ويجبُ أن يتنَبَّهَ العالمُ إلى البَونِ الشَّاسعِ بين عواملِ نجاحِ حضارتِنا في الشّرقِ وبين عواملِ نجاحِ حضارتِهم في الغـربِ، يقــولُ الإمـامُ محمَّد عبْدَه: “ما استطاعَتِ الشّعوبُ الغربيّةُ أن تتقدَّمَ إلّا حين تخلَّتْ عن عقيدتِها، وما استطاعَتِ الشّعوبُ المسلمةُ أن تتقدَّمَ إلّا حين استمْسَكتْ بعقيدتِها. وما تأخَّرتْ إلّا من يومِ انحرفَتْ عن دينِها، فكلّما بَعُدَ عن المسلمينَ علمُ الدّينِ، بَعُدَ عنهم عِلمُ الدُّنيا” (18).

o كما أنّ الحضارةَ الغربيّةَ قامتْ على الإبادةِ، ولم تَقُم بالتَّعْميرِ، وهذا ما عبّرَ عنهُ العالِمُ الفرنسيُّ روجِيه جَارودي الّذي هجرَ حضارتَه الزَّائفةَ، ودخلَ في حضارةِ الإسلامِ الحقيقيَّةِ إذْ قال: “إنّ المدنيَّةَ الغربيَّةَ في طريقِها إلى الموتِ؛ لغيابِ الأهدافِ، إنّنا نَرى انتشارَ قتَلَةِ الأملِ الّذين يُحاولُون إقناعَ الشّبابِ بأنّ حياتَهم لا معنىً لها، ولا يُمكنُ أنْ يُترَكَ المستقبلُ للعالمِ الغربيِّ، فقد هيْمَنَ خمسةَ قرونٍ على مقدّراتِ البشريَّةِ، فاتَّجهَ للإبادةِ أكثرَ جِدَّاً ممّا اتّجهَ للتَّعميرِ” (19)

o ويجبُ ألّا يغيبَ عن أذهانِ الجميعِ أنّ أوربّا هندسَتْ شقاءَ العالمِ بجشعِها، وهذا ما عبَّرَ عنه المفكِّرُ السُّويديُّ جان ميردال في كتابِه (أوربّا ودورُها في شقاءِ العالمِ): “قد اعتصَرَتْ أوربّا ثرواتِ العالمِ، وسبَحَتْ في النَّعيمِ، تاركةً أهلَ تلك المواردِ في فقرٍ شديدٍ، ومتّهِمةً إيّاهم بأنّهم متأخِّرونَ ومُلوَّنُونَ ولا يَستحِقُّون الحرّيّةَ! ثمّ حجبَتْ عنهم عناصرَ التَّقدُّمِ، وفي مقدِّمتِها التّكنُولوجْيا”. (20)

o ولا تَستغرِبُوا ما قالَه يوماً الإمامُ مُحيي الدّين بنُ عربيّ لأهلِ الشَّام: “معبُودُكم تحتَ قَدَمي”، وهذهِ العبادةُ أخذتْ مظهراً آخرَ في الغربِ، وقد عبَّرَ عن ذلكَ الكاتبُ الأمريكيُّ جُون جِنْتر في كتابِه (داخلَ أوربّا)، حينَ قالَ: “إنّ الغربيّينَ يعبدُون المادّةَ وشهواتِها ستّةَ أيّامٍ في الأسبوعِ، ثمّ يذهبُونَ إلى الكنيسةِ ساعةً في اليومِ السَّابعِ!”. (21)

o وكفَى الغربيّينَ نعيباً واتّهاماً للشّرقِ الإسلاميِّ بتخلُّفِ المرأةِ، ألَا يكْفِيهم دليلاً على حرّيّةِ المرأةِ المسلِمةِ أنّ عدّةَ نساءٍ في الشّرقِ وصلْنَ إلى أعْلى المناصبِ السّياسيّةِ في دوٍل إسلاميَّةٍ عديدةٍ، في حينٍ يُحَرَّمُ على نسائِهم ارتيادُ تلكَ المناصبِ، أوَلَا يقرأُ الغربيُّونَ إعجابَ مفكِّريهِم بمكانةِ المرأةِ العربيَّةِ والمسلِمةِ.

 فهَذا فِيرجيل جيورجيو يصِفُ المرأةَ العربيَّةَ في كتابِه (حياةُ محمّد)، فيقولُ: “للمرأةِ عندَ العربيِّ مكانةٌ لا يَحْظى بها أيُّ شيءٍ آخرَ.. هي البساتينُ والأزهارُ، والفواكهُ والأنهارُ.. هي ينابيعُ الرّبيعِ وعطرُ الأعْطارِ.. المرأةُ عندَ العربيِّ هي كلُّ جمالِ وروائِعِ الكونِ!” (22).

 ويقولُ غوسْتَاف لوبُون: “يَنظرُ الشّرقيُّون إلى الأوربّيّين الّذين يُكْرِهُون نساءَهم على العملِ، كمَا ننظرُ إلى حصانٍ أصيلٍ يستخدمُه صاحبُه في جرِّ عربةٍ! فعملُ المرأةِ عندَ الشّرقيّين هو تربيةُ الأسرةِ، وأنا أشارِكُهم رأيَهم مشاركةً تامّةً، فالإسلامُ لا النّصرانيَّةُ هو الّذي رفعَ المرأةَ من الدَّركِ الأسفلِ الّذي كانتْ فيهِ، وذلكَ خلافاً للاعتِقادِ الشّائعِ!” (23).

o ولا تنسَوا أنَّ ثقافةَ الحضارةِ الغربيّةِ سقيمةٌ معتلَّةٌ، تُعاني من أزماتٍ حادّةٍ، فاقرؤُوا معي ملامِحَ تلكَ الأزمةِ في كتابٍ من تأليفِ عالِمِ الاجتماعِ (تيرم سُوركن) عنوانُه (أزمةُ عصرِنا) يقولُ فيه: “إنّ الثّقافةَ الغربيّةَ معتلَّةٌ، سقيمةُ الرُّوحِ والجسمِ، وتُعاني أزمةً حادّةً متغلغِلةً في كلِّ نواحي الحياةِ، وهي أزمةُ انهيارٍ عامٍّ وتحلُّلٍ شاملٍ، إنّنا نعيشُ في أواخرِ اللّيلِ الطّويلِ للحضارةِ المادّيّةِ، بما يَحويْ من أشباحٍ وظلامٍ رهيبٍ، وإرهابٍ ووحْشةٍ.. ومن وراءِ هذا اللّيلِ المُهْوِلِ سيستقبلُ النّاسُ القادمُون صُبحاً صادِقاً لثقافةٍ جديدةٍ جامِعةٍ ومعنويّةٍ” (24).

o ويتطلَّعُ العقلاءُ منْ مفكِّري الغربِ إلى فجرٍ صادقٍ يمحُو ظُلمِ الغربِ وظلامَه، فيكتبُ فِرجِيل جورجْيو: “ممّا لا ريبَ فيه أنَّ هذا الانهيارَ للمجتمعاتِ المادّيّةِ تعقبُه نهضةُ القيمِ الإنسانيّةِ والرّوحيّةِ، وأنّ هذا النّورَ العظيمَ سيجيءُ من الشّرقِ” (25).

o وأمامَ هذا الضّياعِ الرّوحيِّ والفكْريِّ، راح الغربيُّ يبحثُ عن إلهٍ يحرّرُه من صنميّةِ الموجوداتِ، بعد أنْ فشِلتِ المسيحيَّةُ في إيجادِ الخلاصِ. يقولُ عالِمُ النّفسِ أرنِست بيكَر: “إذا كانتِ المسيحيّةُ قد فقدَت فاعليَّتَها، فإنَّ الحاجةَ قائمةٌ لبروزِ تصوُّرٍ دينيٍّ نقيٍّ يحرِّرُ الإنسانَ من صنميّةِ الموجوداتِ، ويُخرجُه إلى فضاءِ الحرّيّةِ الّتي يُوفِّرُها الإلهُ الّذي ليس كمثلِه شيءٌ” (26).

o ولا بدّ للمعرفةِ الإنسانيّةِ أن تكونَ شُموليَّةً تَضمُّ تحتَ جناحيْها العقلَ والرُّوحَ، وهذا ما دفعَ مفكّري الغربِ إلى البحثِ عن مقدِّماتٍ فكريّةٍ تستندُ إلى العقلِ والرّوحِ..

 وهذا ما عبَّرتْ عنه الفَيْلسُوفةُ البريطانيّةُ كاثْلِين ريْن فتقُــولُ في بحثِها (نحوَ كونٍ حيٍّ): “الغربُ بحاجةٍ إلى بَدْءِ عصرٍ جديدٍ، تبدؤُه مقدِّماتٌ فكريّةٌ جديدةٌ تستَعيدُ شُمولَ المعرفةِ الّتي استَبْعدَها العِلمُ المادّيُّ، بحيثُ يُضافُ إلى معرفةِ العالمِ المادّيِّ- الشَّهادةُ- معرفةُ عوالمِ التَّصوُّرِ غيرِ المادّيِّ – الغَيْب – الّتي تدورُ الآنَ في الشَّرقِ، وتتّخِذُ الرّوحَ والعقلَ أساساً للمعرفةِ” (27).

 ويقولُ رانتُو: “إنّ اللّيلَ يُخيِّمُ على أوروبّا، ونحنُ نُولّي وجُوهَنا شيئاً فشيئاً قِبَلَ المشْرِقِ” (28).

o ولكنَّ هذا الغربَ المتَغطْرسَ، والمتعجرِفَ الّذي قَتلَ روحانيَّتَه بقنابلِه الذَّريّةِ المادّيّةِ، مازالَ تحتَ تأثيرِ مخدِّراتِ شهواتِه وملذَّاتِه ونشوةِ طُغيانِه على ثرواتِ العالمِ، لا يَنظُرُ إلى الشـّرقِ المنْتشِي بالرّوحِ، إلّا بمناظيرِ استعلائِه، بينَما تتَّجِهُ عدساتُ مفكّريهِ إلى نورِ الإسلامِ تتوخَّى فيه خلاصاً يحقِّقُ لهُمُ الخيرَ والقوّةَ، فانظرُوا كيفَ يَفضحُ المفكّرُ هيُوستن سمِيث عجرفةَ الغربِ وتكبُّرَه عن الاعترافِ بقدرةِ الإسلامِ على إنقاذِ الغربِ المنهارِ فيقولُ: “إنّنا نحْيا حالةً دفاعيّةً تعكسُ حيرتَنا أمامَ إمكانيّةِ التّصوُّرِ بأنّ يَكونَ هناكَ ما هوَ أحسنُ ممّا نحنُ فيهِ، كدينِ الإسلامِ الّذي يُمكِنُ أن يمُدَّنا (بالخيرِ والقُوّةِ) معاً، إذا ما فتَحْنا أنفسَنا لتقبُّلِه” (29).

o ناهيكَ عن صرَخاتِ الاستِنْجادِ منْ مفكّرينَ آخرينَ يكشِفُونَ زيْفَ حضارتِهِم المنهارةِ، الفارغةِ من كلِّ مضمونٍ.

 فهذا عالِمُ النّفسِ البروفِسُور (لويس روخَاس) يحذِّرُ المبهُورِين منّا بالحضارةِ الغربيّةِ فيقولُ: “احذرُوا يا عربُ، يا مسلمُونَ أنْ تَخلطُوا تصوُّراتِكم بالتَّصوُّراتِ الغربيَّةِ، فأنتُم أهلُ حضارةٍ عريقةٍ لها مقوِّماتٌ لا تملكُها حضارتُنا.. لا تتطلَّعُوا إلى الحضارةِ الغربيّةِ تطلُّعَ الممجِّدِ لها، إنَّها ستَبْلى” (30).

 ويقولُ الفيلسوفُ نيتْشَه: “بدأتُ مُغامراتِي الفِكريّةَ، وفرَرْتُ من الحَيْرةِ إلى الإلحادِ، فازدادَتْ حَيْرتي! فإلى أينَ أتَّجِهُ! أفلا يجدُرُ بي أنْ أعودَ أدراجِي إلى الإيمانِ، أو أنْ أُوفَّقَ لإيمانٍ جديدٍ؟” (31).

 ويقولُ: “أنا لا أُريدُ أن أكونَ نوراً لأبناءِ هذا الزّمانِ، بل أريدُ إيراثَهم العَمَى! وكلُّ مولودٍ جديدٍ يأْتي برجْسٍ إلى العالمِ! فإيّاكُم ومُمَارسةَ الفضائلِ! ولنكُنْ أعداءَ فيما بينَنا، وليحْشُدْ كلٌّ منّا قِواهُ ليُحاربَ الآخَرينَ! فخيرُ السَّلامِ ما قَصُرتْ مدَّتُه! وإنَّ منَ الخيرِ أن تكونَ الأقذارُ كثيرةً في هذا العالمِ! فلا معنىً للوجودِ، والحِكْمةُ قاتِلةٌ!” (32).

 ولعلَّ الدّكتورَ محمّدَ إِقْبال كان مُحِقَّاً حينَ وصفَ نيتشَه بقولِه: “مجنونٌ ولَجَ مصانعَ الزُّجاجِ! إذا ابتغَيْتَ نغمةً فَفِرَّ منهُ، فليسَ في نايِه إلّا قصْفُ الرّعدِ، وقد دفعَ مِبضَعَهُ في قلبِ الغربِ!”

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

لُغتُنا.. هُويّتُنا

المقدّمةُ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ الّذي نزّلَ القرآنَ العظيمَ هدىً ورحمةً للعالمينَ، وخصّهُ بلغةٍ بالمعاني تَتَعالى، وبالألفاظِ تتَباهَى، وبالبلاغةِ تتَهادَى، جلِيـلةً في قَدْرِها، عظيمةً في…

تعليقات