لُغتُنا.. هُويّتُنا

المقدّمةُ

الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ الّذي نزّلَ القرآنَ العظيمَ هدىً ورحمةً للعالمينَ، وخصّهُ بلغةٍ بالمعاني تَتَعالى، وبالألفاظِ تتَباهَى، وبالبلاغةِ تتَهادَى، جلِيـلةً في قَدْرِها، عظيمةً في شَأْنِها، حافِلةً بالمزايَا وافِرةً بالعَطَايا. والصَّلاةُ والسَّلامُ على خيرِ العبادِ، على أجودِ ناطقٍ بالضَّادِ، وأفْصحِ مَن تكلَّمَ فأجادَ، نبيِّنا محمّدٍ عليهِ صلَواتُ اللهِ وسلامُهُ، أمَّا بعدُ.

فإنّ الكلِماتِ، مهْما بلغَتْ منَ البلاغةِ والفصَاحةِ، ومهْما امتَطَتْ من صهَواتِ المعَاني، تَعْجزُ عنْ إعطاءِ اللُّغةِ العربيَّةِ حقَّها منَ التَّقديرِ والتَّبْجيلِ؛ لأنَّ لُغتَنا العربيَّةَ لغةٌ عَبقريَّةٌ بمُفرداتِها ومَعانِيها وأساليبِها وتراكيبِها، ببلاغَتِها وفصَاحتِها، بنَحْوِها وصَرْفِها، بخَطِّها وإملائِها، بمَنظُومِها ومنثُورِها، وفي هَذا المجالِ، ولكلِّ مقامٍ مَقالٌ، يقُولُ شاعرُنا العربيُّ صاحِبُ البلاغةِ الواضحةِ عليّ الجارِم: ( )

يا بْنــــةَ السَّــــــــــــــابقينَ مِــنْ قَحْطانِ         وتــُـراثِ الأمْجَـــــــــادِ مـِـــــنْ عَــــــــــدْنـــانِ

أنـــــــــــتِ علَّمْتـِـني البيَــــــــانَ فمَـــــا لـي         كلَّمـَـا لُحْـــــــــــتِ حارَ فيْــــــــــــــكِ بيـَـــاني

رُبَّ حُسْنٍ يَفُوقُ عـنْ وصْفِ حُسْنٍ        وجَمــــــــــالٍ يَنْسي جَمــــــــــــالَ المعَـــــاني

يا بنةَ الضّادِ أنتِ سِـرٌّ منَ الحُسْــــــــــ         ــــــــــــنِ تَجَــــــلَّى علــى بَنِـي الإنْســـــــــانِ

فكيفَ ننْسَى لغةً لهَا منَ البلاغةِ والفصَاحةِ أدْواحٌ تَفيءُ إليْها أفْهامُ العَباقرةِ حينَما تتَصحَّرُ الكلِماتُ، وتَنتَبِذُ ركْناً قصِيَّاً في معانِيها المعجَميَّةِ الحبيسَةِ بينَ أوراقِها الصَّفراءِ؟! وكيفَ نُجَافي لغةً تتلاقَحُ كلِماتُها تلاقُحَ الأزاهيرِ بحبَّاتِ الطَّلعِ الّتي تَذْرُوها الرّياحُ؟!

اللّغةُ العربيّةُ والقرآنُ

لقدْ أنزلَ اللهُ سبْحانَه وتَعالى آياتِه بيِّناتٍ باللُّغةِ العربيَّةِ الفُصْحى الّتي بها تُتْلى آياتُ القرآنِ الكريمِ، وبها تُقامُ الصَّلواتُ وتُؤدَّى الفُروضُ.

قالَ تَعالى: ﴿الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (سورة يوسف 1و2).

وقالَ تَعالى ﴿وَكَذَلِكَ أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ أو يُحْدِثُ لَهم ذِكْراً﴾. (طه 113)

ولقدْ جعَلَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى اللُّغةَ العربيَّةَ لغةَ أَهلِ الجَنّةِ، قالَ الشَّاعرُ عبدُ الرَّحمنِ العَشْماويّ: ( )

لُغةُ الخُلْدِ أنَا، تَفْنى لُغَـاتٌ         وأنَا ألبسُ تاجَـــاً سَــــــرمَــــديَّا

سوفَ أَغدُو لغـةَ الجَنّةِ لمـّـا         يَرفـــعُ الرَّحمنُ مَـــن كانَ تقِيّا

والعلاقةُ بينَ اللُّغةِ العربيَّةِ والقرآنِ الكريمِ وطِيدةُ الوَشائِجِ، ثابِتةُ الأركانِ والدَّعائِمِ، إذْ إنَّ الغَوصَ إلى دُررِ العربيَّةِ واستِنْضَاحِ ما فِيها من بلاغةٍ وبيانٍ وفِقْهٍ وأسرارٍ معنويَّةٍ، يقُودُنا، في شغَفٍ، إلى تدبُّرِ آياتِ كتابِ اللهِ، واستِكْشافِ ما فِيها منْ مُعجِزاتٍ أسلوبيَّةٍ وبلاغيَّةٍ ونحْويَّةٍ تَرتقِي بالأفهامِ إلى تلمُّسِ ما فِيها مِن مُعجِزاتٍ علميَّةٍ تشْملُ الكونَ بكلِّ ما فيهِ مِن طلاسِمَ وأسرارٍ تَعِزُّ على العلماءِ والباحثينَ.

كمَا أنَّ القرآنَ الكريمَ هوَ المورِدُ الأوَّلُ للُّغةِ العربيَّةِ الّذي لم تستطِعْ أن تنالَ منهُ كلُّ محاولاتِ الطَّامعينَ والمستَعمِرينَ والحاقِدينَ، وهو الّذي حافظَ على نقائِها من كلٍّ دنسٍ، وجعلَها قلعةً حصينةً أمامَ زحفِ كلِّ التَّيَّاراتِ المعاديةِ على مرِّ العصورِ.

فاللُّغةُ العربيَّةُ لغةُ القرآنِ ولغةُ الدِّينِ الإسلاميِّ، فقدْ شرفُتِ اللُّغةُ العربيَّةُ بالقرآنِ وعظُمَتْ به، وصارَ لها مِن المكانةِ في النُّفوسِ ما لَها، فأيُّ مسلِمٍ على وجهِ الأرضِ لا يُمكِنُه تلاوةُ كتابِ اللهِ إلّا باللُّغةِ العربيَّةِ، ولا يُمكِنُه إقامةُ الصَّلواتِ إلّا بها! فكيفَ يمكِنُنا أنْ نهجُرَ لغتَنا، وكيفَ لَنا أنْ نُهمِلَها، ونتبَجَّحَ بلغاتٍ غيرِ لغتِنا؟ أليسَ مِنَ الحَريِّ بِنا أنْ نُبجِّلَها، ونَرفعَ مِن شأنِها، ونُعْطيَها منَ الأهمِّيَّةِ ما تَستحِقُّه؛ لأنّها لغةُ قرآنِنا ودينِنا وتراثِنا وحضارتِنا؟

اللّغةُ العربيّةُ ودورُها الحضاريُّ

تعَالَوا بِنا أيُّها الأعزَّاءُ لنَرى مَا الدَّورُ الحضاريُّ الّذي قدَّمتْهُ اللُّغـةُ العربيَّةُ في مَيدانِ الحضارةِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ بشكلٍ خاصٍّ، وفي مِضمارِ الحضارةِ الإنسانيَّةِ بصُورةٍ عامّةٍ.

عندَمَا جاءَ الإسلامُ عـزّزَ مِن مكانةِ اللُّغةِ العربيّةِ، فكانَ المسلِمُونَ يُرسِلُون أبناءَهُم إلى الباديةِ لتعلّـُمِ الفصَاحةِ، وقدْ فرضَ الرَّسولُ الكريمُ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- على أَسْرى بدْرٍ أنْ يُعلِّمَ كلُّ أسيرٍ عشَرةً مـِن أبناءِ المسلمينَ القِراءةَ والكتابةَ.

ومعَ الفتوحاتِ الإسلاميَّةِ أخذَتْ أنوارُ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ تسْطُعُ على البلادِ المفتوحةِ، وتَنفُذُ إلى عقولِ النَّاسِ وأفئِدتِهم، مُعتمِدةً على طاقاتِ اللُّغةِ العربيَّةِ وفصاحَتِها وبيانِها في نشْرِ تعاليمِ الدِّيـنِ الحَنيفِ في كلِّ الأرجاءِ، ولمْ تَمضِ فترةٌ وجيزةٌ إلّا وقدْ أصبحَ المسلمُونَ على اختلافِ مشاربِهم وأجناسِهم يُجِيدُون اللُّغـةَ العربيَّةَ نُطْقاً وكتابةً، يُرتِّلُونَ آياتِ اللهِ البيِّناتِ، ويُقِيمُون الصَّلواتِ، حتّى تَمكَّنتِ الشُّعوبُ الإسلاميَّةُ تحتَ رايةِ الإسلامِ منَ التَّحدُّثِ بالعربيَّةِ، واستَطاعَتْ أنْ تُقدِّمَ كوكَبةً من أبرزِ العلماءِ والمفكِّرينَ يَكتبُونَ نِتاجاتِهم بالعربيَّةِ، والأمثلةُ على ذلكَ أكثرُ مِن أنْ تُعَدَّ وتُحْصَى. ومِن هؤلاءِ العلماءِ: الفَارابيُّ والخَوارزميُّ وابنُ سِينا والبَيرونيُّ والبُخاريُّ والذَّهبيُّ وابنُ خلْدونَ وابنُ خِلِّكانَ وعُمرُ الخيَّامِ وأبُو الأسْودِ الدُّؤليُّ وسيبويهِ وغيرُهم.

وفي الأندلسِ ازدهرَتِ الجامعاتُ والمعاهدُ الّتي أخذَتْ تنشُرُ نورَ العلمِ والدِّينِ، وقدْ نبغَ العربُ والمسلِمونَ في ميادينِ الطِّبِّ والفلسفةِ والتَّاريخِ والبصريَّاتِ والرِّياضيَّاتِ، فكانَ طلَبةُ العِلمِ في أوروبّا القرونِ الوُسْطى المظلِمةِ يتَقاطرُون إلى الأندلُسِ؛ ليَنهلُوا من مَعينِ العلمِ والمعرفةِ باللُّغةِ العربيَّةِ، وكانُوا يُفاخِرونَ بأنّهم يَحمِلُون إجازاتٍ علميَّةً من إِحْدى جامعاتِ الأندلسِ. وفي العصرِ العبَّاسيِّ ازدهرَتِ الثَّقافةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ ونشطَتْ حركةُ التَّرجمةِ إلى اللُّغةِ العربيَّةِ، فكانَ الخليفةُ المأمونُ يُعطِي ثمنَ كلِّ كتابٍ وزنَه منَ الذَّهبِ، حتّى غدَتْ بغدادُ عاصمةُ الخلافةِ الإسلاميَّةِ منارةً تَهتدِي بها كلُّ جنَباتِ العالمِ.

وهكَذا استَطاعَتِ اللُّغةُ العربيَّةُ أنْ تبْسُطَ جناحَيها في معظـمِ أرجاءِ الدُّنيا مرافِقةً الفتوحاتِ الإسلاميَّةَ، تنشرُ حضارتَها وثقافتَها وتعاليمَ دينِها الحَنيفِ، وقدْ لمعَتْ أسـماءُ العلماءِ العربِ والمسلِمينَ في الغربِ الّذي راحَ يُترجِمُ مؤلَّفاتِنا إلى لُغاتِه، واستَطاعَ أنْ ينهلَ من ينابيعِها العذْبةِ، وأنْ يَجنيَ أشْهى ثِمارِها ليُسخِّرَها في تقدُّمِهِ وتَطوُّرِه.

وإعجَاباً بعُلمائِنا وتَقديراً لجُهودِهِم وعبْقريَّتِهم، فقدْ أقامُوا لهمُ التَّماثيلَ والنُّصُبَ التَّذكاريَّـةَ في جامِعاتِهم تَخلِيداً لذِكْراهُم، وإجلالاً لقَدْرِهم، وقرَّرُوا تدريسَ مؤلَّفاتِهم في تلكَ الجامِعاتِ، في حينِ ابتعَدْنا نحنُ عــنْ علُومِنا ودينِنا ولغتِنا، وأهمَلْنا علماءَنا، وأدَرْنا ظُهورَنا لتراثِنا، ورُحْنا نتلهَّفُ شوقاً لاستِيرادِ عُيوبِهم وسيِّئاتِهم، ونتَفاخرُ بِها، وصِرْنا نتبجَّحُ بكلِّ ما صدَّرُوه لَنا من تفَاهاتٍ، حتّى أصبحَ التَّقليدُ عندَنا لكلِّ رخيصٍ عندَهم مَفْخرةً ومَظهراً حضاريّاً ودليلاً للرُّقيِّ والتَّقدُّمِ. وهَذا ما عبَّر عنهُ لسانُ الشاعِرِ عدنانَ عليّ رضِا النَّحْويّ إذْ قالَ: ( )

عجِبْتُ! ما بالُ قَومِي أَدْبرُوا وجَرَوا         يرْجُون سَــــــاقِطةَ الغَــــاياتِ والهَمَــلَا

لم يأْخُــــذُوا من ديارِ الغَـــــربِ مَكْرُمةً         من القناعــــة أوعلمـــــاً نمــــــــا وعـــــــــلا

لكنَّهم أخَــــــــذُوا لَيَّ اللَّســــانِ وقـــــدْ         حَباهُـــــمُ اللهُ حُسْنَ النُّطْـقِ مُعْتـَــدلَا

يا ويْحَهُـــمْ بدَّلُـــــــوا عِـــيَّـاً بفُصْحِهـمُ         وبالبَيَــــــــــــــانِ الغَــنيِّ استَبْدلُــــــــوا الزَّللَا

اللُّغةُ العربيّةُ والهُويّةُ القوميّةُ

إنَّ أيَّ لغةٍ في الأرضِ – علَا شأْنُها أمْ تَدنَّى – تُشكِّلُ إِحْدى الرَّوابطِ الهامَّةِ الّتي تَجمعُ بينَ المتكلِّمينَ بِها، وتُقوِّي أواصِرَ الانتِماءِ والتَّعاضُدِ بينَهم، فمَا بالُكَ بلغةٍ عظيمةٍ كانتْ زمناً منَ الأزْمانِ لغةَ العِلمِ والثَّقافةِ، يَنهَلُ مِنها القاصِي والدَّاني، واستَطاعَتْ أنْ تُلْقيَ بظلالِها المُفعَمةِ بالحضارةِ في مشارقِ الأرضِ ومَغاربِها؟!

فاللُّغةُ العربيَّةُ ركِيزةٌ أساسيَّةٌ تُوحِّدُ العربَ وتَجْمعُ شمْلَهم، إضافةً إلى التَّاريخِ المشْتَركِ ووَحْدةِ الهُمومِ والآلامِ والمصيرِ ووَحدةِ الأرضِ والعاداتِ والتَّقاليدِ ووَحدةِ الدِّينِ والمُعتقَدِ؛ ولذلكَ وجبَ عليْنا أنْ نتمسَّكَ بهذهِ اللُّغـةِ العظيمةِ، ونَسْعى إلى إعلاءِ شأْنِها وترسيخِ دعائِمِها في النُّفوسِ، فالشُّعوبُ العربيَّـةُ منَ المحيطِ إلى الخليجِ تتكلَّمُ هذهِ اللُّغةَ وتتعلَّمُ بها، وأيُّ بديلٍ لهذهِ اللُّغةِ الفُصْحى منَ اللَّهجاتِ العامِّيّةِ، سيُؤدّي إلى إيقاظِ الرُّوحِ الإقليميَّةِ والقبليَّةِ والقُطْريَّةِ الّتي ساهمَ في تَعزيزِها الحـدودُ المصْطَنعةُ الّتي رسمَها المستَعمِرُ الأجنبيُّ بسياسةِ فَرِّقْ تَسُدْ، ولهَذا كانَ لِزاماً علَينا ألّا نَقْبلَ أيَّ بديلٍ للُّغةِ العربيَّةِ الفُصْحى سواءً منَ اللَّهجاتِ المحلِّيّةِ أو مِن اللُّغاتِ الأعجميَّةِ الغازيةِ، وهَذا ما عبَّرَ عنهُ شاعرُنا العربيُّ حليمُ دمُّوس: ( )

لوْ لـمْ تكُنْ أمُّ اللُّغاتِ هيَ المنَى         لكسَرْتُ أقْلامِي وعِفْتُ مـِـدادِي

لغةٌ إذا وقَعَـتْ على أسْــماعِنــَا         كانتْ لنَـــــا بَـــــــــــرْداً على الأكْبـــــادِ

ستَظـلُّ رابِطـــــــــةً تُؤلّــــفُ بيْنـَنـا         فهيَ الرَّجَـــاءُ لنـــــاطِـــقٍ بالضّــــــادِ

وهَذا شاعِرُنا عليُّ سَجِيع بيطار يُبيِّنُ مكانةَ اللُّغةِ العربيَّةِ عندَ المسلمينَ والعربِ: ( )

لُغــــةُ الجِــــــنَانِ وأهْلُـــها عربيَّــــــــةٌ         كلُّ اللُّغــــاتِ بفضْلِـــهــا تَتـــوَحَّــــــدُ

في دِقَّــــةِ التَّــــعْبــيرِ أنـْـــتِ مَليْـــــكةٌ         بيــــنَ اللُّغـــاتِ بعَـــرشِــــــهِ تتَفَـــــــــرّدُ

أنــــتِ الّتي كتبْتِ لنَـــا أمْجَـــــــــادَنا         نُــــوراً سَـمَا، ناراً علَى مَـن يَحْـــــقِـدُ

فمِنَ المحيطِ إلى الخلِيجِ مسَــافةٌ         تُطـْوَى بحُبِّكِ والقلُــوبُ تُوحَّــــــــدُ

في دفْءِ حضْنِكِ وَحْـــدتِي الكُبْرى        أَرى روحَ العُـــــروبةِ أنْتِ والجسَــــدُ

مُحاولاتٌ للنَّيلِ منَ اللّغةِ العربيّةِ

كثُرتْ مُحاولاتُ النَّيلِ منَ اللُّغةِ العربيَّةِ، والهدفُ الأبعدُ منْ ذلكَ هوَ النَّيلُ من دينِنا الحنيفِ وتَجْهيلُ العربِ والمسلمينَ، وقدْ بدأَتْ تلكَ الهجْمةُ منذُ ظهورِ الحركاتِ الشُّعوبيَّةِ، واستمَرَّتْ بشكلٍ أخْطـرَ عندَما تعرَّضَتِ البلادُ العربيَّةُ و الإسلاميَّةُ للاستِعمارِ الغربيِّ، فاحتُلَّتْ تلكَ البلادُ، وعاشَتْ قروناً مــنَ الجهلِ والتَّجهيلِ والتَّخلُّفِ والانحِطاطِ، وعاثَ فيهَـا المستعمِرُونَ فساداً وإفْساداً ونهْباً وسرقةً وقتْلاً وتدْميراً وتفرِقةً و تَمزيقاً للصفِّ، وخلقِ النَّزعاتِ الإقليميَّةِ والقبليَّةِ و الطَّائفيَّةِ و المذهبيَّةِ، إلاّ أنَّ أخطرَ تلكَ المحاولاتِ كانتْ النَّيلَ منَ اللُّغةِ العربيَّةِ والقضاءَ على الدِّينِ الإسلاميِّ.

ولا شكَّ في أنَّ ما جَرَى من إِحراقِ مكتبةِ بغدادَ، وإلقاءِ كُتبِ مكتبةِ الإسكندريَّةِ في النِّيلِ، وهدمِ المساجدِ ودُورِ العلمِ على يدِ المغُولِ والتَّتارِ، وسرقةِ المتاحِفِ والمكتَباتِ والمخطُوطاتِ والتُّراثِ على يدِ المستَعمِرينَ، خيرُ دليلٍ على سياسةِ الاستِعْمارِ الهمَجيَّةِ الّتي تَرمِي إلى القضاءِ على الدِّينِ الإسلاميِّ ولُغتِه السَّمْحةِ.

واستمرَّتْ محاولاتُ التَّغريبِ والنَّيلِ من الدِّينِ ولغتِه العربيَّةِ في العصرِ الحديثِ على أَيْدي بعضِ المستَشْرقِين والمستَغْرِبينَ من أبناءِ جِلْدتِنا، ومنْ تلكَ الدَّعواتِ إحلالُ اللَّهجاتِ المحلِّيَّةِ مكانَ اللُّغةِ الفُصْحى، و قدْ زادَ الطِّينَ بِلَّةً وسائلُ الإعلامِ العربيَّةُ من مَرئيَّةٍ و مسمُوعةٍ و مقْروءةٍ، ضارِبةً باللُّغةِ الفُصْحى عُرضَ الحائطِ باستِخدامِ اللَّهجاتِ المحلِّيَّةِ والوقوعِ في أخطاءٍ لغويَّةٍ لا تُعَدُّ و لا تُحْصى؛ لأنَّ القائِمينَ علَيها ليسَتْ لديهمُ الكفاءةُ اللُّغويَّةُ الكافِيةُ، إضافةً إلى ضَحالةِ الثَّقافةِ العامَّةِ، و قدْ عبَّرَ عن هذهِ الحالِ شاعرُنا العربيُّ عبدُ الرَّحمنِ العَشْماويُّ حينَ قالَ: ( )

أنَا لا أَسْـــمــعُ نُطْقــــاً عربِيَّـــــــــــــا         خالِصَ اللَّفــظِ وحِسَّاً يَعــرُبيَّــا

أنَا لا أسْــــمعُ لفْظــاً مُسْتقِيمــاً         إنَّمَــــا أَسْـــمعُ لفْظــاً أعْجَــــــمِيَّا

فالإذَاعَـاتُ الّتي تهْــــــدُرُ فِيـكُم         كلَّ يــومٍ تُظهِرُ الــــــدَّاءَ الخَفِيَّــا

والفَضائِيَّـــاتُ تَجْـــــــــرِي بكلامٍ         ســــاقِــطٍ يَجْـــــــرحُ مَـن كانَ أبِيَّـا

وأَرى في صُحُفِ القَــومِ كَلامَاً         يَقْــــــتُلُ الإعـــــرابَ قـتْلاً هَمَجِيَّــا

هذهِ الحالةُ منَ الانحِطاطِ اللُّغويِّ في ألسِنةِ الشُّعوبِ العربيَّةِ المتَقهْقِرةِ فِكراً وثقافةً ورُقِيَّاً وأخلاقاً وحضارةً، المكبَّلةِ بسلاسِلَ منْ حديدٍ في ألسِنتِها وأدْمِغتِها وأفئِدتِها، دفعَتِ اللُّغةَ العربيَّةَ الفُصْحى إلى التَّذمُّرِ والشَّكْوى والأنينِ، وإطلاقِ صرَخَاتِ النَّجْدةِ والاستِغاثةِ لأبنائِها، كيْ يُنقِذُوها قبلَ اندِثارِها، وقبلَ أنْ تُطلِقَ حشْرَجاتِ الرَّدى نتيجةَ الإهمالِ والجَهلِ بأسْرارِها ودُررِها، ولَوْثةِ لغاتِ الفِرنْجةِ الّتي لطَّخَتْ طُهرَها ونقاءَها، وقدْ جاءَت هذهِ الاستِغاثةُ على لسانِ شاعرِ النِّيلِ حافظِ إبراهيمَ: ( )

رجِعْـتُ لنَفْسيْ فاتَّهَمْـــــــــتُ حَصَاتي         ونَادَيْتُ قَــــــومِي فاحتَسَـبْتُ حَيَــاتي

رمَـوْني بعُقْمٍ في الشَّـــــــــــبابِ ولَيْتَني         عَقِمْتُ فلـمْ أَجْـــــزَعْ لقـــــــولِ عُـــــدَاتي

وُلِــدْتُ ولمـَّــا لــمْ أجِـــــــــــــدْ لعَــرائِسي         رِجَـــــــــــالاً وأَكْفَـــــــــاءً وأَدْتُ بَنَــــــــــــــــــاتي

أنَا البَحْــــــــــرُ في أحشَائِهِ الدُّرُّ كامِنٌ         فهلْ سَـــــــأَلُوا الغَوَّاصَ عنْ صَدَفَاتي؟

فيـَا ويْحكُم أَبْلى وتَبْلى مَحاسِــني         ومِنْــكمُ وإنْ عـــــــــــزَّ الــــــدَّواءُ أَسَــــــــاتي

فَــــلا تكِلُــــــــوْني للــــزَّمـــــــانِ فــــــــإنَّني        أخَـــــافُ علَيْـــــــــكمْ أنْ تَحِـــــــــينَ وفَــــاتي

وممّا آلَمَ اللُّغةَ العربيَّةَ وقضَّ مضاجِعَها سعْيُ بعضِ الغربيِّينَ إلى وأْدِها حيَّةً، بينَا نراهُم يهتمُّونَ بلُغاتِهم ويعتَزُّون بها ويتَفاخرُونَ بأنَّ فيها منَ الألفاظِ والمعَاني ما يتَّسعُ لكلِّ مُخترعَاتِهم وابتِكاراتِهم، ويَرمُون العربيَّةَ بتُهمةِ التَّحجُّرِ والعُقمِ وعدمِ قُدرتِها على مُواكبةِ قِطارِ التَّطوُّرِ والحداثةِ، ولذلكَ عَزُّوا بعزِّ لُغاتِهم، في حينٍ تَغُصُّ جرائدُ وشاشاتُ وإذاعاتُ النَّاطقينَ بالعربيَّةِ بالأخطاءِ وكلماتِ الفِرنجةِ: ( )

أَرىْ لرجـــــالِ الغَـــربِ عِـــــــزَّاً ومَنْعَـــــةً            وكـمْ عــــزَّ أقــــــــوامٌ بعِــــــــزِّ لُغــــــــــــاتِ؟

أَتَـــــوا أهلَــهم بالمعْجِــــــــــزاتِ تفنُّـــــــــناً           فيَــــا ليتَـــــكم تأْتـُـــــــــــونَ بالكلمــــــــــاتِ

أَيُطــــرِبُكم منْ جانبِ الغـــــربِ ناعِـبٌ          يُنــــــادي بــــوَأْدي في ربيــــــــــــــعِ حَياتِي؟

وفاخرْتُ أهلَ الغربِ والشَّرقُ مُطرِقٌ         حيــــــاءً بتلكَ الأعْظـُـــــمِ النَّخِـــــــــــراتِ

أَيهجُــــــــرُني قَــــــومِي – عفَــا اللهُ عنهمُ –       إلى لغــــــــةٍ لــم تتَّصـــــــــلْ بـِــــــــــــرواةِ؟

فمَنْ يُعِزُّ لغتَه ويُفاخرُ بها الأممَ، ويجعلُها مرْكبةً في الفضاءِ تَبثُّ أفكارَه وحضارتَه إلى كلِّ أرجاءِ المعمُورةِ، جديرٌ بأنْ تَسْموَ به لغتُه إلى الكواكبِ والمجرَّاتِ، ومَن يَهجرُ لغتَه، ويَلْعقُ لكَناتِ غيرِها، فإنَّها تَرمِيهِ بحجارةٍ من سجِّيلٍ وتجعلُه كعصفٍ مَأْكُولٍ.

اللُّغةُ العربيَّةُ عندَ الغربيِّينَ

إنّني أُخالِفُ بعضَ عاداتِ العربِ، في نظريَّةِ التَّآمُرِ، فليسَ كلُّ الغربيِّينَ مُتآمرينَ علَيْنا، فنَحنُ متآمِرُونَ غايةَ التَّآمرِ بعضِنا على بعْضٍ، ومُتآمرُون على أنفسِنا؛ لأنَّ الكثيرينَ منَّا أعْرابٌ أشدُّ نِفاقاً وكُفراً، وعلَينا أنْ نتأمَّلَ بأفهامِنا كلماتِ الحقِّ وصرَخاتِ الوُجدانِ والضَّميرِ الّتي تُطلِقُها حناجرُ الكثيرينَ منَ الغربيّينَ فيمَا يُعِزُّ دينَنا ولُغتَنا وقضَايَانا، فحَسْبُنا أنْ نَذْكرَ كتابَ العلَّامةِ الأمريكيِّ (مايكلْ هَارت): (المئَة الأوائِل) الّذي صنَّفَ شخصيَّةَ نبيِّنا الكريمِ محمَّدٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في المرتبةِ الأُولى من حيثُ الأهمِّيَّةُ والتَّأثيرُ بينَ كلِّ الأنبياءِ والمفكِّرينَ والعلماءِ والمخترعِينَ والمكْتَشِفينَ في العالمِ على مرِّ عصورِه، في الوقتِ الّذي وجدْنا فيهِ بينَ أقوامِنا أناساً رفعُوا حُثالةَ قومِهم إلى مرتبةِ الأنبياءِ والحُكماءِ والعُظماءِ والآلهةِ!

وحسْبُنا أنْ نذكُرَ بعضَ مؤلَّفاتِهم في تاريخِ لغتِنا وأدبِنا وحضارتِنا، من ذلكَ كتابُ: (تاريخُ الأدبِ العربيِّ) للعلّامةِ الألمانيِّ (كارلْ بروكلْمَان)، وكتابُ: (شمسُ العربِ تسطُعُ على الغربِ) للمستَشرِقةِ الألمانيَّةِ النَّبيلةِ (زيغْريدْ هُونكَه).

ولنتأَّملْ هُنيهةً بعضَ أقوالِ الغربيّينَ في لغتِنا؛ كيْ نستَبعِدَ نظريّةَ المؤامرةِ الّتي نَسِمُ الآخرينَ بها؛ لنردَّ الشُّكوكَ عن أنفسِنا المرتدَّةِ المنْطويةِ على كلِّ تناقُضاتِها، كمَا قالَ الشَّاعرُ العربيُّ المحظُورُ في عالمِنا العربيِّ مُظفَّرُ النَّوَّابِ: ( )

قتلَتْنا الرِّدَّه..

قتلَتْنا الـرِّدَّه..

قتلَتْنا الـرِّدَّه..

قتلَتْنا أنَّ الواحدَ منَّا يَحمِلُ في الدَّاخــلِ ضِدَّه..

فهَذا (كارلُونلينُو) يقولُ: “اللُّغةُ العربيَّةُ تَفُوقُ سائرَ اللُّغاتِ روْنقاً وغِنىً، ويعجَزُ اللِّسانُ عنْ وصفِ مَحاسِنها.”.

ويقولُ الأمريكيُّ (فانْ ديْك): “العربيَّةُ أكثرُ لغاتِ الأرضِ امتيازاً، وهَذا الامتيازُ من وَجْهينِ: الأوَّلُ منْ حيثُ ثرْوةِ مُعجمِها. والثَّاني مِن حيثُ استيعابُها آدابَها.”.

ويقولُ الدُّكتورُ (فرنْباغ) الألمانيُّ: “ليستْ لغةُ العربِ أغْنى لغاتِ العلمِ فحسْبُ، بلْ إنَّ الّذينَ نبغُوا في التَّأليفِ بها لا يَكادُ يَأتي علَيهم العَدُّ، وإنَّ اختلافَنا عنهُم في الزَّمانِ والسَّجايَا والأخلاقِ أقامَ بينَنا، نحنُ الغُرباءَ عنِ العربيَّةِ، وبينَ ما ألَّفُوهُ، حِجاباً لا يُتَبيَّنُ ما وراءَه إلّا بصعُوبةٍ. “.

ويقولُ (فيلا سبازا): “اللُّغةُ العربيَّةُ منْ أغْنى لغاتِ العالمِ، بلْ هيَ أرْقى منْ لغاتِ أوربَّا؛ لتضمُّنِها كلَّ أدواتِ التَّعبيرِ في أصولِها، في حينِ أنَّ الفرنسيَّةَ والإنكليزيَّةَ والإيطاليَّةَ وسِواهَا، قدْ تَحدَّرتْ من لغاتٍ مَيِّتةٍ، ولا تزالُ حتَّى الآنَ تُعالِجُ رمَمَ تلكَ اللُّغاتِ؛ لتأخذَ من دمائِها ما تَحتاجُ إليهِ.”.

الخاتِمةُ

ممَّا تقدَّمَ نُدرِكُ ما لِلُّغةِ العربيَّةِ الفُصحَى من أهمِّيّةٍ؛ لأنّها لغةُ قرآنِنا ودينِنا الحنيفِ، كمَا أنّها تُعدُّ من أهمِّ الرَّوابطِ القوميَّةِ والإسلاميَّةِ الّتي تَجتمِعُ عليها أمّتُنا العربيَّةُ والإسلاميَّةُ، وكذلكَ فهيَ هُويَّتُنا ومصدرُ عزّتِنا وفخرِنا، ومِن هُنا وجبَ علَينا أنْ نَتَفانى في خدْمتِها، ورفعِ شأنِها والارتقاءِ بها، ومحاولةِ عَصْرنتِها؛ لاستيعابِ كلِّ المصْطلحَاتِ والتِّقنيَّاتِ والوسائلِ الجديدةِ، من خلالِ الطُّرقِ المعروفةِ في لغتِنا، من اشتِقاقٍ ونحْتٍ وتعريبٍ وغيرِ ذلكَ.

كمَا يجِبُ علَينا أنْ نُنيرَ عقولَ أجيالِنا بهذهِ اللُّغةِ العظيمةِ، وأنْ نُقـوِّمَ ألسِنتَهم بها، وأنْ نُحاربَ كلَّ ما يَهدِمُ من بُنيانِها، ويُقوِّضُ من أركانِها ويَحُطُّ بهَا إلى الحضيضِ، فالحضارةُ والتَّقـدُّمُ والرُّقيُّ لا تتجلَّى باستخدامِ ألفاظٍ أعجميَّةٍ في حياتِنا اليوميَّةِ، بلْ تتجلَّى في تمسُّكِنا بلغتِنا والاعتزازِ بها والارتقاءِ بذخائرِهَا الكامِنةِ فيها وتفجيرِ طاقاتِها. 

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات