نظراتٌ وعبراتٌ (أدلة أخرى)

وانظرُوا معي إلى حالةِ الضَّياعِ وغربةِ الإنسانِ عن روحِه والإسفافِ الفكريِّ والعاطفيِّ عندَ المفكِّرِ الغربيِّ.

 فها هُو الفيلسوفُ جان بول سارتر، الوجوديُّ الّذي ساهمَ في تشكيلِ عقولِ الملايينِ من الغربيّينَ يقولُ: “الجحيمُ هم الآخَرونَ، وإنّني أطلبُ العارَ والدَّمارَ والاحتِقارَ، لأنَّ الإنسانَ خُلِقَ ليقضيَ على الإنسانِ في داخلِه، وليفتحَ روحَه لجسدِ اللَّيلِ المظْلِمِ” (33). ويؤكّدُ سارتر عواطفَه الهابطةَ في سيرتِه الذَّاتيّةِ عندمَا يتكلَّمُ عن أبيهِ:” ليس هناكَ أبٌ صالحٌ، تلك هيَ القاعدةُ! كان ذلك المرحُومُ – يعنيْ أباهُ – قليلاً ما يَعنِيني، بل إنَّ هذا الأبَ ليسَ حتّى ظِلاًّ، كلُّ ما في الأمرِ أنَّنا كِلَيْنا مشَيْنا ردَحَاً منَ الزّمنِ على الأرضِ نفسِها!” (34)

 وتزدادُ عندَه حالةُ الضَّياعِ فيُشبِّهُ نفسَه بأدنَى مخلوقاتِ اللهِ، ليقولَ: ” إنَّني كلبٌ أتثاءَبُ والدُّموعُ تَسيلُ.. إنَّني ذبابةٌ أتسلَّقُ على الزُّجاجِ، ثمَّ أتدحْرَجُ! وأعودُ إلى التَّسلُّقِ! إنَّها مُنتِنةٌ، تلك هيَ حَبْكةُ حياتِي! وما مِن شكٍّ في أنَّ نفْسَ الكلبِ المعْتِمةِ أقْدرُ بما لا يُقاسُ على تلقّي ذَبْذباتِ الفكْرِ من نفسِي! إنَّني أنظرُ إلى حياتي عبْرَ موتي! فهل يُتصوَّرُ أَمْني وسكُونِي؟!” (35).

 وليستْ حالُ ألبير كامو صديقِ سارتَر بأفضلَ منهُ، فهَا هُو يقولُ: “ينبغِي ألّا نُؤمِنَ بأيِّ شيءٍ في هَذا العالمِ سِوى الخمْرِ! فالإنسانُ تَناقُضٌ وسُخْفٌ ولا معقُولٌ، بلا غايةٍ أو هدفٍ، مصيرُه الانتحارُ!” (36)

 وتتَعمَّقُ حالةُ الضَّياعِ واليأسِ وتتحوَّلُ السَّعادةُ إلى بؤسٍ، فهَا هيَ الكاتبةُ الوجوديّةُ سِيمُون دي بوفْوار ، كانتْ أصدقَ في التَّعبـيرِ، وها هيَ تكتبُ في إحدى تداعِياتِها: “إنّ الشَّيخُوخةَ تترصَّدُني في قعْرِ المرآةِ، وسوفَ تَستوْلي عليَّ، لقد فقدْتُ تلكَ القدرةَ الّتي أملكُها لفصلِ الظُّلماتِ عن النُّورِ.. فسعَادتي تَصْفرُّ وتَنْحلُّ، والسَّاعاتُ العجْلَى تَسُوقُني مُسرعةً نحوَ قبْري! وأنا الآنَ وحْدِي، فواحِدٌ وواحِدٌ يُساوِيانِ واحِداً! أيُّ سُوءِ تَفاهُمٍ!” (37).

 وقد وصلَ اليأسُ بالغربيِّ إلى درجةِ كُرهِ اللّيلِ، في حينٍ ظلَّ الشّرقيُّ يتغنّى باللّيلِ ويعشَقُ سكونَه، وراحَ يُعلِّقُ فكرَه وخيالَه بالنُّجومِ، وعِشْقِ القمرِ ونُورِه.. يقولُ الوجوديُّ فِتز جِيرالْد: في (الضَّربةِ القاصِمةِ): “أكرهُ اللّيلَ؛ لأنّني لا أستطيعُ النَّومَ، وأكرهُ النَّهارَ؛ لأنّه يَقودُ إلى اللّيلِ” (38).

 وباتَ الإنسانُ الغربيُّ أمامَ هذا الرُّكامِ الهائلِ منَ الضَّياعِ غريباً عن أناسِه الّذينَ يَعيشُون معَهُ، بل طَفِقَ غريباً عن نفسِه ” من نواحٍ كثيرةٍ يُشبِهُ إنسانُ العصْرِ الحيوانَ البرّيَّ المأسُورَ في حديقةِ الحيواناتِ، فالإنسانُ اليومَ ليسَ غريباً عن أخيهِ الإنسانِ فحسْبُ، بلِ الأهمُّ أنّهُ غريبٌ معزولٌ عن أعماقِ ذاتِه” (39).

 إنّ هذا الضَّياعَ السَّحِيقَ أفْقدَ الغربيَّ آمالَه، ودفعَه إلى إنهاءِ حياتِه بالانتِحارِ، يقولُ سلَا كْروا في (ليالي الغضَب): ” في داخلِ نفسِي أُحِسُّ بأنّني ضالٌّ حائرٌ، ألهثُ وراءَ البحثِ عن فكرةٍ غيرِ مُزيَّفةٍ، فكرةٍ تُوازي في قيمتِها ما أُوازيهِ أنا في قِيمَتي. إنّي أُحاولُ عبَثاً أنْ أحتفِظَ بالأملِ في أنْ أعيشَ سَلاماً معَ نفسِي.. إنّني أعيشُ في حالةِ عدمِ تَفاهُمٍ معَ عدمِ تَفاهُمي نفسِه! وإنَّ عصرَ الانتِحارِ قدْ فتَحَ أبوابَه” (40).

 لقدْ وصلَ الضَّياعُ بالغربيِّ إلى الهاوِيةِ، حينَ فقدَ شُعورَه بالرِّضا، فشَحَّتْ نفسُهُ منَ الرَّحمةِ، ونضَبَ قلبُه منَ الإحساسِ بالحـبِّ، يقولُ الشّاعرُ الألمانيُّ بروشرْت: “نحنُ جيلٌ بِلا عُمقٍ، فعُمْقُنا هو الهاويةُ.. نحنُ جيلٌ بِلا دينٍ ولا راحةٍ.. حُبُّنا وحشِيَّةٌ، وشبابُنا بِلا شبابٍ! إنّنا جيلٌ بِلا قُيودٍ ولا حدودٍ ولا حِمايةٍ مِن أحدٍ” (41).

 ويتساءَلُ (تنْسي وِليَامْز): “لماذا تُبدِّدُ حياتَك هباءً يا بُنيّ؟! وكأنّها شيءٌ كريهٌ مُزْرٍ عثَرْتَ عليهِ في الطَّريقِ؟!”.

 ويُجيبُ شُوبنْهَور: “إنَّ الأصلَ في الحياةِ هو العَذابُ والألمُ، إنَّ الحياةَ احتِضارٌ مستمِرٌّ!” (42).

 وتقولُ الشَّاعِرةُ الرُّوسيَّةُ بيلّا لِينا: ” مُعظمُ شُعراءِ روسيا الكِبارُ ماتُوا مُنتَحِرينَ، مَاريْنَا سفِيْنا ماتَتْ مُنتحِرةً، أنا نفْسِي أفكِّرُ في هَذا الموضوعِ” (43).

 ولم يكنِ الانتِحارُ وقْفاً على الفلاسفةِ والمفكِّرينَ والعلماءِ والكتّابِ والشُّعراءِ، فهذهِ إلِينُور ابنةُ الشُّيوعيِّ كارل ماركس، بعدَ أنْ خدعَها الاشتراكيُّ (إِدوارْد أفلنْج) انتحرَتْ، كمَا انتحرَتْ أُخْتٌ لهَا مِن قبلُ! (44).

 وهَذا الكاتِبُ البريطانيُّ آرثَر كيسْلَر وزوجتُه يَتجرَّعانِ السُّمَّ؛ كي يكشِفَا السِّتارَ عنِ الحقيقةِ بالانتِحارِ!!

 وامرأةٌ إنجليزيَّةٌ انتحرَتْ لأنَّ كلبَها أُصِيبَ بمرضٍ عُضالٍ! في حينٍ يَسْعى الشَّرقيُّ إلى التَّخلُّصِ منَ الكِلابِ؛ لأنّها مَصدرُ ضوضَاءَ ونجَاسةٍ.. ولا يُمكِنُ أنْ يُفكِّرَ بالانتِحارِ ، ولو هلكَتْ كِلابُ الدُّنيا بأسْرِها.

 وثمَّةَ ظاهِرةٌ جديدةٌ هيَ انتِحارُ بعضِ العُلماءِ الّذينَ يَدْرسُون ويُعالِجُونَ ظاهرةَ الانتحارِ!

o ووصلَ اشمِئزازُ الغربيِّ مِن حضارتِه إلى درجةِ وصْفِها بالتَّفاهةِ، يقولُ الفيلسُوفُ جِبْريل مارسِيل: “لا أَشكُّ أنَّ أحَداً منَّا يشكُّ في تفاهةِ وضياعِ هذهِ الحضارةِ”(45).

 ويقولُ كُولن وِلْسون: ” انظُرْ إلى حضارتِنا نظَرِي إلى شيءٍ رخيصٍ تافِهٍ، باعتبارِ أنَّها تُمثِّلُ انحِطاطَ جميعِ المقاييسِ العقلِيَّة” (46).

 ويقولُ في كتابِه (اللّا مُنتمِي): “إنَّ حضارتَنا تَسيرُ في الاتِّجاهِ المعاكِسِ، وأنا أعتقِدُ أنَّ تدهْورَ حضارتِنا أمرٌ لا مَفرَّ منهُ، كمَا يَعتقِدُ كلُّ طبيبٍ بأنَّ موتَنا لا مَفرَّ منهُ” (47).

o وأقولُ للغربيّينَ: لقدْ بدأتْ نجومُكُم بالأفُولِ، وحانَ لشمْسِنا أنْ تُشرقَ.. فهذهِ حالُ الدُّنيا، كمَا قالَ شاعرُنا الأندلسيُّ أبو البَقاءِ الرُّنديّ حينَ أفَلَتْ نجومُ العربِ والمسلمينَ من سماءِ الأندلسِ: (48)

لكلِّ شيءٍ إذا مــَــا تمَّ نُقْصــــــانُ فَلا يُغَرَّ بطِيبِ العيشِ إنسانُ

هيَ الأمُورُ كمَا شاهدْتَها دوَلٌ مَـــنْ سَـــــــرَّهُ زمنٌ ســـاءَتْه أزمـــانُ

o وهُنا يَجِبُ أنْ تُلاحِظُوا أيُّها الغربيُّون البَوْنَ الشَّاسِعَ بينَ أُفُولِنا مِن بلادِكُم وأفولِكُم القادِمِ عمَّا قريبٍ مِن بلادِنا، فنحْنُ عندَما أفلْنَا من ديارِكم لمْ نَهدِمْ مُدنَكم، ولم نُبِدْ شُعوبَكم، بل تركْنَا لكُم قُصُوراً وحدائِقَ ومكتباتٍ تتحدَّثُونَ عنْها أكثرَ ممَّا نتحدَّثُ، ولم نقتُلْ أطفالَكم ولا شيوخَكُم، ولم نَسْبِ نساءَكم.

o أمّا أنتُم فقدْ دمَّرتُم مُدنَنا بأحدثِ أنواعِ أسلِحَتِكم، ونهبْتُم كلَّ ثرواتِنا، ويتَّمْتُم أطفالَنا، وقتلْتُم شيوخَنا، وانتهكْتُم أعراضَنا، وسرقتُم تُراثَنا وتاريخَنا، ولوَّثتُم فضاءَنا وأرضَنا وأنهارَنا وبحارَنا وينابيعَنا بدخانِ حقْدِكم وجراثِيمِ قنابِلِكم الّتي جرَّبْتُموهَا على شعوبِنا، لكنَّكم إنْ تناسيْتُم ما فعلْتُمُوهُ، فالتَّاريخُ لا يَنْسى، وأنتُم أكثرُ مَن يتذكَّرُ إحراقَ نَيرونَ لرُوما، ونازيّةَ هِتلِر الّذي مازالَ شعبُه يدفعُ ضريبةَ المِحرقةِ اليهوديــَّةِ (الهُولُوكوسْت)، واليَومَ تَغضُّونَ الأبصارَ عن كلِّ (هولُوكُوسْت) ترتكِبُونَها، وتَقترِفُها ربيبَتُكم إسرائيلُ الّتي صنعتُمُوها فوقَ صدورِنا في أطهرِ بُقعةٍ من بِقاعِ الدُّنيا.

o وآنَ الأوانُ لغُروبِ ثقافتِكم القائمةِ على الأنانيَّةِ وحبِّ السَّيطرةِ والعجْرفةِ المريضةِ المتعَاليةِ، كثقافةِ الأنظمةِ الّتي بنيتُمُوها فوقَ عقولِ شعوبِنا، تلكَ الأنظمةُ الّتي لا تَرى خلفَها إلّا رُعاعاً يُردِّدُ ما يُمْلَى عليهِ، لكنَّكم فشِلْتُم أيَّما فشلٍ، لأنَّ هذهِ الشُّعوبَ قدِ انتَفضَتْ، وها هيَ اليومَ تصنعُ التَّاريخَ الّذي حرَمْتُمُوهَا إيّاهُ زمناً طويلاً.

o وها هيَ اليومَ تستَرِدُّ كلَّ ما سلَبْتُمُوهُ من إرادتِها وثرواتِها وخيراتِها عن طريقِ رعاتِكم المجْرمِينَ الّذين يُبِيدونَ شعوبَهم بطائراتِكم وأسلحتِكم الثَّقيلةِ وأنتُم تتفرَّجُون وتنتَظِرون، بفارغِ الصَّبرِ، إيجادَ رُعاةٍ جُددٍ تضْمنُ لكم إشباعَ نهمِكم منَ النِّفطِ والثَّرواتِ والخيراتِ، ويبدُو أنَّكم لن تَشبَعُوا أبداً، لكنّني أُنبِئُكم بغضبِ اللهِ وغضبِ الشّرقِ الّذي لعنَكُم من قبلُ.

o وها هُو اليومَ قد بدأَ تاريخَه الجديدَ بلعنةٍ ستمْحُو كلَّ عارِكم واستِعْلائِكم وغطْرستِكُم المريضةِ.

 يقولُ اشبِنغْلر في كتابِه (أُفُـول الغـَرب): “لقدْ شاخَتْ الثَّقافةُ الأوربيّةُ وحانَ موتُها، وهي تُعاني سكَرَاتِ وآلامَ الاحتضارِ، وإنّ ساعةَ القضاءِ قدْ دقّتْ، وإنّ المدنيَّةَ الغربيَّةَ يَشِيعُ فيها اليومَ القلقُ والاضطِرابُ، وقدْ أخذَتْ تَنقلُهما إلى الشّرقِ، ولا أرانَا نمتلِكُ أيَّ هدفٍ أو خطَّةٍ أو فكرةٍ أكثرَ من تلكَ الّتي يمتلِكُها صِنْفٌ من الفراشاتِ! ” (49).

 ويقولُ المؤرِّخُ أرنُولْد تويْنبي، وهو مِن كبارِ المدافِعينَ عن الحضارةِ الغربيّةِ: “إنّ الحضارةَ الغربيّةَ مُصابةٌ بالخَواءِ الرُّوحيِّ الّذي يُحوِّلُ الإنسانَ إلى قَزمٍ مُشوَّهٍ يفْتقِدُ عناصرَ الوُجودِ الإنسانيِّ، فيعيشُ الحدَّ الأدْنَى مِن حياتِه، وهو حدُّ وجودِهِ المادّيِّ فحسْبُ، والّذي يُحوِّلُ المجتمعَ إلى قطيعٍ يركُضُ بلا هدفٍ، ويُحوِّلُ حياتَه إلى جحيمٍ مَشُوبٍ بالقلَقِ والحَيْرةِ والتَّمزُّقِ النَّفسيِّ.. وإذا كانَتِ النُّفوسُ الغربيّةُ قد استَبدَّ بها قلَقُ الفراغِ الرُّوحيِّ، فإلى مَتى نتَحمَّلُ العيشَ بدونِ عقيدةٍ دينيّةٍ؟!” (50).

 ويبلُغُ الأسَى واليأسُ مَداهُمَا في فؤادِ توينْبي إلى درجةٍ يَصرُخُ فيها:” إنّني أكرهُ الحضارةَ الغربيَّةَ المعاصِرةَ، كراهيةً بعيدةً عنِ التَّهويلِ، فخِلالَ حياتي عاصرْتُ حربينِ عالميَّتينِ، وكلَّما نظرْتُ إلى هَذا الإرهابِ الغربيِّ وجدْتُه شيئاً مُروِّعاً” (51).

 ويقولُ الكاتبُ الإنجليزيُّ جود: “إنّكم تَقْدِرون أنْ تَطيرُوا في الهواءِ كالطُّيورِ وتسْبَحُوا في الماءِ كالسَّمكِ، ولكنَّكم إلى الآنَ لا تَعرِفُون كيفَ تَمشُون على الأرضِ كإنسانٍ! وإنّ الحضارةَ الحديثةَ ليسَ فيها تَوازنٌ بينَ القـوَّةِ والأخلاقِ، فالأخـلاقُ مُتأخِّرةٌ جـدَّاً عن العلمِ، فقدْ مَنحَتْنا العـلومُ الطَّبيعيَّةُ قوَّةً هائلةً، ولكنَّنا نَستخدِمُها بعقلِ الأطفالِ والوحـوشِ.. وإنَّ سُمَّ الانحِطاطِ هو خطأُ الإنسانِ في فهْمِ حقيقةِ مكانتِه في الكونِ، وفي إنْكارِه عالمَ القِيمِ، الّذي يشمَلُ قيمَ الخيرِ والحقِّ والجمالِ ” (52).

o واستطاعَ الغربُ أنْ يُنِيرَ كلَّ ما حولَه من مكانٍ، لكنَّه غرِقَ في ظلامِ نفسِه، وتمكَّنَ من تسْخيرِ كلِّ قوانينِ الطَّبيعةِ لخدمتِه، إلّا أنّه ظلَّ أسيرَ طبيعتِه الحيوانيَّةِ، يقولُ تويْنبي: “مكّنَتْنا الكهرباءُ من أنْ نَخترِقَ الأركانَ المظلِمةَ المحِيـطةَ بِنا، ولكنَّ الظَّلامَ مازالَ يُخيِّمُ على كيانِنا الدَّاخليِّ، فنحنُ نتَحكَّم في قِوى الطَّبيعةِ، ولكنَّ طبيعتَنا الحيوانيَّةَ تتَحكَّمُ فِينا!” (53).

o وما كانَ الغربُ ليصِلَ إلى حافّةِ الهاويةِ إلّا لأنّهُ خالفَ كلَّ الشَّرائعِ، وعبَدَ المادّةَ والقوَّةَ، ونسيَ عظمةَ مَن خلقَ الكونَ بكلِّ ما فيهِ من قِوىً وطاقاتٍ.

 يقولُ فون بابر: “نحنُ الآنَ على حافّةِ الهاويةِ، ولم يبقَ لنا إلّا بارِقةُ أملٍ في النَّجاةِ، هيَ أن نُؤمِن بأنَّ لهذا الكونِ خالِقاً، وأنّهُ قدْ وضعَ لنا قوانينَ يَنْبغي أن نسيرَ عليها” (54).

 وتقولُ الكاتبةُ الفرنسيَّةُ سانت بوانت: “لقدْ تَعدَّى الغربُ حدودَ اللهِ وعبثَ بالشَّرائعِ، وخالفَ تعاليمَ المسيحِ الّذي أمرَ بمحبَّةِ النَّاسِ. لقدْ أضاءَ الشّرقُ دياجيرَ أوربّا بنُورِ تعاليمِه، وما هذهِ العلومُ الّتي يَفخَرُ بها الغربُ إلّا من علومِ الشّرقِ. إنّ الغربَ مُجرمٌ، وقد اختارَ الرّذيلةَ على الفضيلةِ، وأثْبتَ أنّ مدنيَّتَه قد أفلسَتْ” (55).

 ويتساءلُ هربرتْ ويلز: “هل بلغَتِ البشريَّةُ نهايتَها؟ إنَّ الإنسانَ في صورتِه الحاليَّةِ صارَ شيئاً مَنهُوكاً لا غَناءَ فيهِ، ولا بدَّ أن يُخْليَ مكانَه، وكمْ أتمنّى أن أَحْضرَ الجِنسَ البشريَّ وهو يجُودُ بأنفاسِه!” (56).

o ولقدْ غرِقَ الغربُ في بحارٍ منَ الرَّذيلةِ بسببِ بُعْدِه عنِ القيمِ الأخلاقيّةِ والدّينيّةِ، يقولُ العلّامةُ هِنْري دي كاستري: “الواقعُ أنّ الرّذائلَ الفاضِحةَ في باريسَ ولندنَ أكثرُ ممّا يَحدثُ في الشّرقِ بأجمعِه، فلقدْ تَولَّـدتْ في المسلمينَ ملَكَاتُ الحِشْمةِ والوَقارِ، عمَلاً بما جاءَ في القرآنِ الكريمِ والحديثِ، والفرقُ بينَ الحِشْمةِ عندَ المسلمِ وعندَ غيرِه كمَا بينَ السَّماءِ والأرضِ” (57).

o وتأمَّلُوا معي أخلاقاً أهمُّ ركائزِها الخِداعُ والكذِبُ.. هل ستُنتِجُ هذهِ الأخلاقُ إلَّا حضارةً خادِعةً وكاذبةً؟ وقد ترعرَعَتْ هذهِ الأخلاقُ الغربيَّةُ ونمَتْ على التُّربةِ المِيكْيافِلّيّةِ:

 حيثُ يقولُ فيلسوفُ الفكرِ الغربيِّ (ميكيافِلّي): “إنّ مَن يُتقِنُ الخِداعَ دائماً أولئِكَ الّذين همْ على استِعدادٍ لأنْ تَنْطلي عليهِم خديعتُه! ومنَ الخيرِ أنْ تتَظاهرَ بالرَّحمةِ والشُّعورِ النَّبيلِ والإخلاصِ والتَّديُّنِ، ولكنْ عليكَ أنْ تُعِدَّ نفسَكَ عندَما تَقْضي الضَّرورةُ، لتكونَ مُتَّصِفاً بعكسِها!” (58).

 ويُؤكِّدُ نابليونُ هذا المعْنى فيُوصِي قائِلاً: “لا تنْسَ أنْ تضعَ دائِماً في الواجهةِ لِصّاً يتَصرَّفُ تَصرُّفَ الشُّرفاءِ”.

 ويقولُ ماكس نوردو: “اكذِبْ واكذِبْ وادّعِ، فلنْ يكتشِفَ أمرَك غيرُ العُقلاءِ، وما أقلَّهُم!” (59)

o أمّا في الشّرقِ، فإنَّ الدّينَ الإسلاميَّ قدْ حرَّمَ الكذِبَ والخِداعَ والنِّفاقَ والرِّياءَ، وغيرَها منَ الأخلاقِ الذَّميمةِ في آياتٍ كثيرةٍ:

 قال تعَالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ البقرة، الآية (10).

 وقال تعَالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ الأنعام، الآية (24).

 وقال تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ التوبة، الآية (77).

 وقال تعَالى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45). أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (47) الآيات من سورة النَّحل.

 وقال تعَالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ الآية (45) من سـورة (غافر).

o ومن أخلاقِ تلكَ الحضارةِ التَّمييزُ العُنصرِيُّ، والاستِعلاءُ على البشرِ، فهُم سادةٌ قادةٌ وغيرُهم رُعاعٌ وعبيدٌ، ومن حقِّهم بناءُ إمبراطوريَّتِهم على جُثثِ الضُّعفاءِ، وربُّهم الّذي يُؤمِنُون به غايتُه حتميَّةُ اختفاءِ الحضاراتِ والأجناسِ الضَّعيفةِ أمامَ الحضاراتِ العُظْمى، كمَا أنَّ أهمَّ مَبْدأٍ منْ مبادئِ حُبِّهم للإنسانيَّةِ يُمْلِي علَيهِم المساهمَةَ في القضاءِ على هؤلاءِ الضُّعفاءِ.

o وتبلُغُ العُنصريَّةُ ذروتَها في أنَّ إلهَهُم خلَقَ أجسادَ هؤلاءِ الضُّعفاءِ دونَ أرواحٍ، فأيَّةُ حضارةٍ إنسانيَّةٍ هذهِ الّتي يتحدَّثُون عنها، وأيُّ إلهٍ ذلكَ الإلهُ الّذي يُؤمنُون بهِ، يحتَقِرُ خلقَه ويَخلُقُهم دونَ أرواحٍ؟!

o هذهِ حضارتُهم! أمَّا حضارتُنا فقدْ حرَّرتِ العبِيدَ، ومنحَتْهم حرّيّاتِهم، ورفعَتْ من مكانتِهم، حتّى أصبحَ العبدُ سيِّداً يُؤذِّنُ بالمسلمينَ، ويـَؤُمُّ بهِم في صلواتِهم، ولمعَ منهم قادةٌ عسكريُّونَ قادُوا جيوشَ الفتْحِ، وسَمَتْ كرامةُ الإنسانِ في ظلِّ الحضارةِ الإسلاميَّةِ، وتَساوَى جميعُ الخلْقِ والأممِ في الحقوقِ والواجِباتِ، فلا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلّا بالتَّقْوى والعملِ الصَّالحِ، وارتقَى الإسلامُ إلى توحيدِ الأممِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، قالَ تعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ الحُجُرات الآيــة (13 ).

o وحضارتُهم تُحتِّمُ فناءَ الضُّعفاءِ، وإمبراطوريَّاتُهم تُشَادُ على جُثثِ هؤلاءِ المستَضْعَفِين، أمّا حضارتُنا فجاءَتْ لنُصرةِ الضُّعفاءِ والمستَضْعَفينَ. فانظُرْ إلى حضارتِهم في آراءِ بعضِ مفكِّرِيهم:

 يقولُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ رينان: “خُلِقَ الأوربيُّ للقيادةِ، كما خُلِقَ الصِّينيُّ للعملِ في ورشةِ العبيدِ!”(60).

 ويقولُ ريلْكه: “إنَّ القويَّ يجِبُ أن يَبنيَ إمبراطوريَّةً قويَّةً على جُثثِ الضُّعفاءِ!” (61).

 أمّا عُضوُ الكونغرِسِ الأمريكيِّ ولْيام فولرايْت، فيقُولُ: “عليْنا أنْ نمتَثِلَ لما تُملِيهِ عليْنا دِماؤُنا! فنَحتلَّ أسواقاً جديدةً، لأنَّ غايةَ اللهِ النِّهائيَّةَ تتمثَّلُ في حتميَّةِ اختِفاءِ الحضاراتِ والأجناسِ الضَّعيفةِ أمامَ الحضاراتِ العُظمَى الّتي تُنشِئُها الأجناسُ الأكثرُ نُبْلاً وحيويَّةً”(62).

 أمّا فيلسُوفُ الغربِ نِيتشَه فيقولُ: “الضُّعفاءُ العَجَزةُ يجِبُ أن يُفْنَوا! هَذا هُو أوَّلُ مبدأٍ منْ مبادئِ حُبِّنا للإنسانيَّةِ! ويجِبُ أيضاً أن يُسَاعَدُوا على هَذا الفَناءِ!!” ( 63).

 ويقُولُ مونتِسْكيو في كتابِه (روحُ الشَّرائع): “حاشَا للهِ أنْ يكونَ قدْ أودعَ رُوحَاً في جسَدٍ حالِكِ السَّوادِ!”(64).

o ولا بدَّ أنْ نتساءلَ هُنا، كما تَساءَلَ ألِكسيس كارلِيل:” لماذا نَعزِلُ المرضَى بالأمراضِ المعْدِيَةِ، ولا نَعزِلُ أولئكَ الّذينَ يَنشُرونَ الأمراضَ الفِكريَّةَ والأدبيَّةَ والخُلُقيَّةَ؟!” (65).

o وقدْ وصفَ ماكس نوردو آراءَ هؤلاءِ المفكِّرينَ الغربيّينَ وحضارتَهم وصْفاً دقيقاً، فقالَ: “إنَّ أوربّا راتِعةٌ في حديقةِ موتٍ أسودَ منَ الانحِطاطِ الخلُقيِّ، ولم يَخْلُ منْ هَذا الدَّاءِ كثيرٌ منَ المفكِّرينَ والكتَّابِ، إذْ خرجَ جانبٌ عظيمٌ من مؤلَّفاتِهم غاصّاً بعاهاتِ هَــذا الـدَّاءِ ومَقاذِرِه، والجماهيرُ الحَمْـقَى تُسمِّيهم قادةَ الفكرِ ومصابيحَ المستقبلِ، وما هُم في الحقيقةِ إلّا فئةٌ منَ المرضَى المُصابينَ، والمستَشْفى أولَى بهِم منَ المكتباتِ!”(66).

o وفي الخِتامِ أقولُ: إنَّ أيَّةَ حضارةٍ لا ترتَكِزُ في دُستُورِها على القِيمِ الإنسانيَّةِ والأخلاقيَّةِ النَّبيلةِ الّتي تَسمُو بالإنسانِ فكراً وروحاً ووُجْداناً، وتَكتفِي باحتِكارِ المادّةِ والقوَّةِ، ليستْ بحضارةٍ أبداً، كمَا قالَ شبِنغْلر: ” إنّ للحضارةِ دستُوراً أخلاقيَّاً يتمثَّلُ في العقيدةِ وقوَّةِ النَّفسِ، وتُلازِمُه بسَاطةُ الظَّواهرِ، وإنَّ الدُّستورَ الحضاريَّ لا يعتمِدُ العقلَ أبداً، وإنّما يعتمِدُ الوُجْدانَ الممثَّلَ في الشُّعورِ، لا بالحِسِّ، وأنّ العقلانيَّةَ في شتّى مذاهِبِها، مدنيَّةٌ لا حضاريَّةٌ، لذلكَ عندَما تَدخلُ الحضارةُ الطَّورَ العقلانيَّ من تطوُّرِها، تَبلُغُ خريفَ عُمرِها، وتَشِيخُ وتَهْوي إلى دركِ المدنيَّةِ، ثمّ تُتَابِعُ انحدارَها إلى الانحِلالِ.” (67).

o فأيقِظْ جفونَكَ أيُّها الشَّرقُ، ولا تخْشَ منَ النَّظرِ إلى الشَّمسِ، فأنتَ الّذي أنَرْتَ ظلُماتِ الجبابِرةِ الّذينَ دمَّرُوا كوكبَنا الأرضيَّ، وقَضَوا على كلِّ حضارةٍ، وراحُوا يُهدِّدُون البشريَّةَ بحَربِ النُّجومِ، وما حروبُهم إلّا دليلٌ قاطِعٌ على جُبنِهم وتخلُّفِهم عنِ الحضارةِ، وليسَتْ وحشيَّةُ الوحوشِ الكاسرةِ إلّا قذارةً! وانتفِضْ ولا تخَفْ فقدْ جاءتْ بِشارةُ السَّماءِ بأنَّكَ مهْدُ الحضارةِ.

المصادِرُ والمراجِعُ:

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات