قاموسُ العاجزين 2

وإذا كنتُ أتحدَّثُ عن لغةِ العاجِزينَ، فإنَّما أقصِدُ كلَّ فردٍ بشريٍّ أَتْرعَ قاموسَه الحياتيَّ بمفرداتِ الإحباطِ والتَّشاؤُمِ، وركِبَ مركبَ الشـَّكْوَى والتَّردُّدِ والخوفِ والتَّأفُّفِ؛ فجعلَ الحياةَ لَحْداً مُظلِماً قبلَ أن يُوارَى فيهِ، ونسيَ أنَّ الحياةَ – رغمَ الصِّعابِ والآلامِ – تُخفِي وراءَ سُدولِها جمالاً وسعادةً لا يَحتاجَانِ منهُ إلّا أنْ يُزيلَ الأستارَ عن عينَيْه، والبراقِعَ عن وجهِه، والضَّبابَ والظَّلامَ عن نفسِه.

ولوْ أنَّ كلَّ نفرٍ من هؤلاءِ نظرَ إلى ملايينِ البشرِ الّذينَ كانُوا وما زالُوا ضحايَا الطُّغاةِ والمستبِدِّينَ، لحَمِدَ اللهَ على النِّعمِ الّتي تحُفُّ بهِ، ولا يَشعرُ بها، ولَو تأمَّلَ بعينِ البَصيرةِ أحياءَ البشرِ الّذينَ يَقبعُونَ تحتَ الأرضِ في زنزاناتٍ رهيبةٍ مُخيفةٍ تحتَ وطأةِ القهرِ والتَّعذيبِ؛ لأيقَنَ أنَّ رحمةَ اللهِ وسِعَتْه، وأظلَّتْهُ بنِعمِ النُّورِ والهواءِ والماءِ والغذاءِ والحركةِ والكلامِ والنَّومِ والأحلامِ، ولو أطلقَ مناظيرَ الفكرِ تحتَ التُّرابِ، ورأَى المقابرَ الجماعيَّةَ للأبرياءِ، لعَبدَ اللهَ سِرَّاً وجهراً على نعمةِ البقاءِ الّتي حفِظَها اللهُ له من سرطانِ المجْرمينَ.

ولو أنّ كلَّ فردٍ من هؤلاءِ ألْقى نظرةً متأنّيةً إلى الملايينِ من الخلقِ الّذين حرَمَهم اللهُ من نعمةِ الحواسِّ، ففقدُوا نعمةَ البصرِ أو السَّمعِ أو الكلامِ أو الشَّمِّ أو الذَّوقِ، أو الّذين عَدِمُوا القُدرةَ على الحركةِ، فحُرمُوا من الأرجلِ أو الأيديْ أو عضوٍ من الأعضاءِ الضَّروريّةِ للحياةِ، أو الّذين كانُوا ضحَايا الأقدارِ أو المجْرمِينَ، فخسِروا واحدةً أو أكثرَ من تلكَ النِّعمِ، لعلِمَ أنَّ العنايةَ الإلهيَّةَ لم تَغْفَلْ عنه لا خَلْقاً ولا وجُوداً.

ثمَّةَ أصنافٌ منَ البشرِ خلقَها اللهُ من ظلامِ اللَّيلِ أمواتاً، وهُم أحياءٌ، ومِن نعيقِ الغُرابِ نذيرَ شُؤمٍ ويأسٍ، ومن نقيقِ الضَّفادعِ لغْواً وثرثرةً، ومنَ النَّواعيرِ عنِيناً وأنيناً، ومنَ التُّرابِ ذرَّاتِ غبارٍ هزيلةً أمامَ الرِّياح، ومن صدَى الأيّامِ تردُّداً وتذمُّراً، فمَحَتْ – بما غَضِبَ اللهُ عليها – مُفرداتِ التَّحدِّي والإرادةِ والتَّفاؤلِ من قاموسِ فكْرِها، وطرحَتْ مكانَها فضَلاتِ اليأسِ والهزيمةِ والانكِسارِ والتَّراجُعِ والتَّردُّدِ والتَّذمُّرِ والبكاءِ والشَّكْوى والأنينِ، حتّى أحالُوا نصَاعةَ وجهِ الحياةِ إلى بشاعةٍ، ومَحَوا أساريرَ الأملِ والتَّفاؤلِ فيهِ، وخطُّوا عليهِ أخاديدَ الشَّيخوخةِ وقُربِ الفَناءِ.

إنّ الّذينَ يحمِلُونَ يافِطةَ التَّشاؤمِ شعاراً، وما أكثرَهم! أناسٌ ينظُرونَ إلى الحياةِ بأعيُنِ الغُربانِ، ومن ثُقوبِ الإبرِ، ومن وراءِ السُّتورِ؛ فهؤلاءِ يرَونَ جمالَ الحياةِ قُبْحاً، والنَّجاحَ فشَلاً، والغِنَى إقلالاً، والصُّمودَ هزيمةً، والثَّقافةَ هُراءً، والموسِيقَا بكاءً وعويلاً.

فإذا نظَرَ هؤلاءِ إلى زهُورِ الحديقةِ، لم يَرَوا فيها إلّا أشواكاً تَخِزُ عيونَهم، وإذا تأمَّلُوا جمالَ الطَّبيعةِ، رأَوا فيه ليلاً دامِساً تَمَّحي فيه جميعُ الألوانِ، وإذا وقعَتْ عيونُهم على جمالِ امرأةٍ، لم يرَوا منْها إلّا أفْعَىً تقُضُّ جُنوبَهم، وإذا شرِبُوا الماءَ زُلالاً، أحسُّوا بأنَّهم يَحْتسُونَ علْقماً، وإذا ابتسَمَ في وجوهِهم مُتفائلٌ، ظنُّوا بأنَّه يسخَرُ منهُم.

فالحياةُ عندَهُم زنزانةٌ، لا تَرى النُّورَ ولا الشَّمسَ ولا ضوءَ القمرِ، والحياةُ عندَهم جامٌ مُتْرعةٌ بطعمِ العلْقمِ، لا تَعرِفُ أذواقُهم إحساسَ الحَلاوةِ والجمالِ، والحياةُ عندَهم قدرٌ أحمقُ الخُطا، قادَهم إلى الوجودِ رغمَ أنوفِهم، وليتَهم لم يأْتُوا إلى الوجودِ.

مهْما امتلكَتْ أيديْهِم من شُموعِ النُّورِ، فهُم يلعنُونَ الظَّلامَ، ومهْما ابتسمَتْ في وجهِهم الحياةُ، فهم يلعنُونَ حظوظَهم، ومهْما مدَّتْ لهُم كفُّ الحياةِ بساطَ الأملِ، فهُم لا يَرونَ إلّا أشواكَ اليأسِ، ومهْما تزيَّنَت لهُمُ الحياةُ بأثوابِ الفرحِ، قابلُوهَا بأثوابِ الحُزنِ والألمِ، ومهْما عطَّرتْ أنسامُ الحياةِ أنوفَهم بعبَقِ الزُّهورِ والعُطورِ، فهُم لا يَشتَمُّونَ منْها إلّا رائحةَ المزابلِ والجُثثِ المتعفِّنةِ، ومهْما غنَّتْ لهمُ الحياةَ أجملَ أغنياتِها بأعذبِ ألحانِها، لم يَسْمعُوا منْها إلّا نقيقَ الضَّفادعِ ونعيبَ الغُرابِ.

لو أنَّ السَّماءَ انشطرَتْ لهُم، وأمطرَتْهم شذَراتٍ منَ الذَّهبِ، لعَمِيَتْ أبصارُهم عنْ بريقِها، ولم يرَوا فيها إلَّا طُيوراً أبابيلَ ترمِيهم بحجارةٍ من سِجِّيلٍ.

لو أنّ الطَّبيعةَ فرشَتِ الأرضَ تحتَ أقدامِهم بساطاً مُزركشاً بأكاليلِ الزُّهورِ، وضَمَّختِ الأثيرَ بأطيبِ الرَّحيقِ والرَّياحينِ، لرأيتَهم يشْكُونَ من وخْزِ الأشواكِ وزُكامِ الأنُوفِ، فيُطلِقُونَ زفراتِ الشَّكْوى والألمِ.

لو أنَّ الصَّيفَ أَدْفأَ جلودَهم بحرارةِ الشَّمسِ، وأمدَّهُم بالحيويَّةِ والحركةِ والنَّشاطِ وهِمَّةِ النُّهوضِ معَ الصَّباحِ، لرأيتَهم يتأَفَّفُونَ من نارِ جهنَّمَ، ويلعنُون الصَّباحَ؛ لأنَّ خيوطَ الشَّمسِ الذَّهبيَّةَ دغْدغَتْ أجفانَهم، وأيقظَتْ أحلامَهم.

لو أنّ الخريفَ لَفْلَفَ أردِيتَهم، إيذاناً بحلُولِ موسمِ البرْدِ، والأشجارَ أسقطَتْ أوراقَها الصُّفرَ مُتطايِرةً على الدُّروبِ تأهُّباً لاستقبالِ حبَّاتِ المطرِ، لرأيتَهم يَشتُمُونَ الرّياحَ الّتي نبَّهتْهُم إلى قدومِ الشِّتاءِ، ويلعنُونَ الأوراقَ تحتَ أقدامِهم؛ لأنَّها تُومِئُ إليهِم بوقْعِ الخُطا.

لو أنَّ الشّتاءَ أرسلَ إليهِم غمائمَ الخيرِ والسَّعادةِ والفرحِ قطراتٍ من ندىً أو خيوطاً من غيثٍ مُثْقلٍ بالعطاءِ والبُشْرى، لرأيتَهم يلعنُونَ حبَّاتِ المطرِ؛ لأنّها قد بلَّلتْ ثيابَهم، وأوحلَتِ التُّرابَ تحتَ أرجُلِهم، ولو أنَّ برودةَ الشّتاءِ تسلَّلتْ إلى أجسادِهم لتُغيِّرَ من رتابةِ الشُّعورِ وبلادةِ الإحساسِ عندَهم، لرأيتَهم يكفُرُون بالشَّمسِ؛ لأنَّها لم تَهبِطْ إليهِم وحياً من الدِّفءِ، وكانُوا بالأمسِ يلعنُونَها؛ لأنّها أمدَّتْهم بحرارةِ الصَّيفِ.

ليستْ كلِمَاتي سراباً من وحيِ الأُدباءِ والمفكِّرينَ، ولا لوحةً سماويَّةً، ولا أفكاراً شيطانيَّةً مُتسلِّلةً من عالمِ الغَيبِ، تَتفتَّقُ بها عبقريَّتُهم، في هُنَيهاتِ تَفجُّرِ القَريْحةِ، وفيْضِ السَّجيَّةِ، وانبِعاثِ المشاعرِ من حَنايَا النَّفسِ، وانبِجاسِ الأفكارِ من زنزاناتِ الاعتِقالِ والقَوقَعةِ والرُّعبِ والرَّهبةِ، إنّما هي لوحةٌ نُقِشَتْ على صخُورِ الحياةِ، رسومُها بشَرٌ أحياءٌ يعيشُونَ بينَنا، ويأكلُونَ ممَّا نأكلُ، ويَشربُون ممَّا نشربُ، ويستَنْشِقُون الهواءَ الّذي نستَمِدُّ منهُ أنفاسَ الحياةِ.

ما أكثرَ الّذينَ يَبْكُونَ بكاءَ الثَّكالَى، والحياةُ تتَراقَصُ أمامَهم فرحاً وسعادةً! ما أكثرَ الّذينَ يَشْكُونَ من الإقلالِ وضِيقِ ذاتِ اليدِ، وأكفُّهُم مُتْرعةٌ بالخَيراتِ، وبُطُونُهم تَستغِيثُ وتتألَّمُ منَ التُّخْمةِ!

ما أكثرَ الّذينَ عَمِيتْ أبصارُهم عن جمالِ الحياةِ، فلا يَرونَ إلّا الظَّلامَ، وعيونُهم سَكْرى لا تشعُرُ بنشوةِ جمالِ الحياةِ!

ما أكثرَ الّذينَ يَضِيقُون من سَعَةِ الحياةِ، فلا يَرونَ فيها إلّا سُجوناً وزنزاناتٍ، وفي نفوسِهم رحَابةٌ تتَّسعُ لبحارِ الأرضِ ونجومِ السَّماءِ!

ما أكثرَ الّذينَ تُغنّي لهمُ الحياةُ، وتَعزِفُ لهم أجملَ ألحانِها، فلا يسمعُونَ منها إلّا زمْجرةَ الرِّياحِ وقصْفَ الرُّعودِ وأنينَ الألمِ!

ما أكثرَ الّذينَ تبتسِمُ الحياةُ في وجوهِهم ابتِسامةَ الرَّضيعَ بينَ ثديَيّ أمِّه، فلا يَرونَ فيها إلّا وجْهاً كالِحاً وثغْراً مفترِساً بأنيابِ الضَّراغمِ ووحُوشِ الفلَوَاتِ والغاباتِ!

ما أكثرَ الّذينَ تمُدُّ لهُمُ الحياةُ كفَّ العطاءِ راحةً لا تَعرِفُ الانقِباضَ أو الأغْلالَ إلى الأعناقِ، فلا يَرونَ فيها إلّا ضرْبةَ المُلاكِمِ في حلَباتِ الصِّراعِ!

الحياةُ لوحةٌ كاريْكاتيريَّةٌ مليئةٌ بالرُّسومِ المتحرِّكةِ الّتي تَعْجزُ عن رسمِ حقائقِها ريَشُ الفنَّانينَ، وتَتُوهُ الكلماتُ وتَحَارُ وتَعجَزُ أمامَ تلكَ الأصنافِ من خلْقِ اللهِ على الأرضِ، ففي نفوسِ كثيرٍ من البشرِ خبايَا عميقةٌ من ظُلماتِ البحارِ، لا يَستطيعُ الغوصَ إليها كلُّ غوَّاصِي العالمِ، بما امتلَكُوا من فنُونِ الغوصِ ومرْكبَاتِه الّتي تُسَيَّرُ باللّيزرِ والطَّاقةِ الذَّرّيّةِ.

وفي نفوسِ كثيرٍ من البشرٍ زنزاناتٌ مُترعةٌ بالظَّلامِ، لا تستطيعُ اختراقَ غياهبِها كلُّ تِلسْكوباتِ الفلكيِّينَ ومَناظيرِهم الّتي يَرون بها أكثرَ النُّجومِ والكواكبِ غَوْراً في الفضاءِ.

وفي نفوسِ كثيرٍ من البشرِ طلاسِمُ من المشاعرِ والأحاسيسِ، لا تستطيعُ فكَّ رمُوزِها كلُّ أجهزةِ التَّشْفيرِ المسْتَحدثةِ في هذا الزَّمانِ، ولا يُمكِنُ لكلِّ الأناملِ الشَّفَّافةِ في العالمِ أن تَفْهمَ حروفَها النَّافِرةَ.

الشارقة في 10/11/20012

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جبران خليل جبران

غابةُ الإنسانيّة (الأديبُ والفيلسوفُ العالميُّ في ذكْرى رحيلِه 10 إبريل عام 1931م) الذِّكرياتُ مُرّةٌ مرارةَ العلْقمِ، والمآسيْ تَعصِرُني بِلا ألمٍ، والحياةُ مسرحيَّةٌ هزليَّةٌ تُضحِكُني وتُبكِيني…

تعليقات