عَهْدٌ ووفَاءٌ

بدايةً أبتدِئُ بقَولِ أبي الطيِّبِ المتنبِّي في العشقِ ( ):

أرَقٌ عَــــلى أرَقٍ وَمِثْـــــــــلي يَـــــــــــــــــــأرَقُ             وَجَــــوىً يَزيــــــــــدُ وَعَـــــــــــــبْرَةٌ تَتَرَقْــــــــرَقُ

جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكــــــــــــــونَ كمَا أُرَى             عَــــــــــينٌ مُسَــــهّدَةٌ وقَلْـــــــبٌ يَخْــــــــفِـــقُ

مَــــا لاحَ بَـــــــــرْقٌ أوْ تَـــــــــــــرَنّمَ طـــــــــائِرٌ              إلاّ انْثَـنَــــيْتُ وَلي فُـــــــــــــؤادٌ شَــــــــــــــــــــيّقُ

جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَـــــــوَى مـــــا تَنطَفي             نَــــــــارُ الغَضَــــــــا وَتَكِلُّ عَمّـــــــــــا يُحْـــــــــرِقُ

وعذلْتُ أهـــــــــلَ العِشْقِ حتَّى ذُقْتُه             فعجِبْتُ كيفَ يَمُـــوتُ مَـــــنْ لا يَعْشقُ!

وَعَـــــذَرْتُهُـــــمْ وعَرَفْــــــتُ ذَنْـــــبي أنّـــني            عَيّرْتُهُــــــــمْ فَلَقَيْــتُ فيــــــهِ مــــــــا لَقُـــــــــــــوا

فالعشْقُ أرقٌ وسهَدٌ، وحزنٌ وصبابةٌ، وشوقٌ وذكرياتٌ، ونارٌ أشدُّ من نارِ أشجارِ الغَضا لا تنطفئُ، وموتٌ ولكنْ يا لهُ من روعةِ الموتِ، والهوى قتلٌ، ولكنْ يا لهُ من قتلٍ رائعٍ طيِّبٍ! وقد قالَ الأخطلُ الصَّغيرُ في قصيدةٍ غنَّتْها فيروزُ ( ):

يا عاقِــــــــــدَ الحـــاجِبَــــينِ على الجَبـــــينِ الُّلجَيْــــــنِ

إنْ كنتَ تقصِــــدُ قتْــلي قتـــــــــلْتَــــنِي مَـــــــــــــــــــــــرَّتينِ

حبيبتِي الغاليةَ:

يا مَن وجَّهتِ كلَّ سهامِ دلالِكِ نحوَ قلبِيَ الرَّقيقِ فقتلْتِه! لقدْ ظلَمْتِني أيَّ ظلمٍ، وسلبْتِ كلَّ قوايَ العقليَّةَ، فبِتُّ ضائعاً تائهاً كالسَّكرانِ!

ولقدْ قسَوتِ عليَّ حتَّى أفقَدْتِني صَوابي، ولكنَّ تجنِّيَكِ رائعٌ، وظلمَكِ مُمْتعٌ؛ لأنَّكِ قصدْتِ مِن ذلكَ عَذابي في الهَوى، ووضَعتِني أمامَ اختِبارٍ صعْبٍ لتتأكَّدي من حقيقةِ مشاعرِي نحوَكِ.

على كلِّ حالٍ رضِيْتُ بمَا فعلْتِ وسامحتُكِ على ظلْمِكِ لي، وتَحمَّلتُ هَجرَكِ ومجافاتَكِ؛ لأنَّ الحبَّ الحقيقيَّ يقومُ على الظُّلمِ والتَّجنِّي، كما قالَ ابنُ النَّبيهِ( ):

مَنْ لم يذُقْ ظُلمَ الحبيْبِ كظُلمِهِ         حُلـــــواً فـقَدْ جهِــــــــلَ المحـــــبَّةَ وادَّعَا

وكما قالَ الشَّاعرُ ( ):

شَرطُ المحبَّةِ عندَ أربابِ الهَوى            أنَّ الملــــــيحَ على التَّجنِّي يُعشَـــــــــقُ

ولكنَّ عزائِي في تحمُّلِ ظلمِكِ وتعذيبِكِ لي هوَ أنَّني نلْتُ كثيراً منَ الثَّوابِ عندَ اللهِ، وقدْ أحرقْتِني بجحيمِ هواكِ، لكنَّني نلْتُ جنَّةَ الآخرةِ، فاسمعِي يا حبيبتِي ما قالَهُ صفيُّ الدِّين الحِلِّي ( ):

عَــــــذابُ الهـــــوَى للعاشقِينَ أليْـــــــــمُ               وأجْــرُهـــــــــــمُ يــومَ المعَــــــــــــادِ عظيـــمُ

فوَ اللهِ لا ذاقُـوا الجَحيمَ وإنْ جَنَوا                فحَسْـــــــــــبُهمُ أنَّ الغَـــــــــــــرامَ جَحيـــمُ

بروحِيَ مَن قدْ نامَ عن سُوءِ حالتِي                وعِنْـــــــــــديَ منْــــــــهُ مُقعِــدٌ ومُقــــــــيـــمُ

وليس لومِي عليكِ يا ظالمتِي، ولكنَّ لومِي على ذلكَ الحبِّ الّذي سيْطرَ على روحِي، وسَطَا على قلبِي، ألَـمْ يَقُلْ أبو القاسِمِ الشَّابّي؟

أيُّهَـــــــــــــــــــا الحُــــــــــــبَّ أنتَ سِـــــــــرُّ بلائِـــي              وهُمُــــــــــــومِـي، وروعَــــــــــــــــتِي، وعَنَــــــــــائِي

ونُحُــــــــــــــــولي، وأدْمُـــــــعِـــي، وعَــــــــــــــذَابي              وسَــــــــــــقَامِــي، ولوعَـــــــــــــــتِي، وشِـــــــفَائِـي

أيُّها الحُـــــــــبُّ! قدْ جرَعْـــــــــتُ بكَ الحُزْ                نَ كؤُوسَاً، ومــــــــا اقتَنَصْـــــــــتُ ابتِغـــــائِـي

فبِحـقِّ الجَمـــــالِ، يا أيُّهــــــــــــــــــا الحُــــــــــــ               ــبُّ حنَــــــــــــانَيْـكَ بي! وهَــــــــــــــوِّنْ بَــــــــــــلائِي

ليتَ شِعرِي! يا أيُّها الحُبُّ، قلْ لي مِن ظلامٍ خُلِقتَ، أمْ مِــنْ ضِياءِ؟ ولأنَّني أحبُّكِ، ولأنَّني مُتيَّمٌ في هواكِ؛ أبثُّكِ هَذا الُّلغزَ الغراميَّ، وأنتظرُ إجابتَكِ عليهِ، فتأمَّليهِ جيِّداً وهاتي الجَوابَ، قالَ الشَّاعرُ ( ):

بحقِّ الحبِّ يا مَن أطلْتِ هَجْري        وتركْتِ الدَّمــــــــعَ على خَــــــــدِّي يَجْرِي

سألتُكِ بالّذي أنـزلَ ليلةَ القــــــدْرِ          هَبينِي الأحْــــرفَ الأوْلى مِن كلِّ شطْرِ

حَبيبتِي:

أنتِ الوَحيدةُ في حيَاتي، بل أنتِ حيَاتي، أنتِ روحي وعُمري، أنتِ الثُريَّا الّتي أنطْتُ بها كلَّ طمُوحَاتي وأهْدافي، أنتِ أملي الَّذي فتحَ أمامَ عَينيَّ كلَّ أبوابِ المستقْبلِ على مِصراعَيْها، أنتِ كائنٌ من عالمٍ آخرَ وجدْتُ فيهِ لذَّتي وسُروري وسَعادتي..

إنَّني لمْ أُحبَّكِ إلّا لأنَّني وجدْتُ فيكِ أسْمى مَعاني الحُبِّ.

إنَّني ارتبَطْتُ بكِ ارتِباطَ الطِّفلِ بثديِ أمِّهِ! فدَعِيني أسْعدُ بوصالِكِ، ولا تكُوني قاسِيةً، بل كُوْني رقيقةً؛ لأنَّ أجملَ ما فيكِ رقّتُكِ، فأنتِ جميلةٌ في عينيَّ، وكلُّ ما فيكِ جميلٌ! وأنتِ رائعةٌ، وكلُّ ما فيكِ رائعٌ!

عزيزتي الغاليةَ:

إنَّ كلَّ قِصصِ الحبِّ الّتي مرَّتْ على صفَحاتِ قلْبي كانتْ عابرةً، بل صارَت في عالمِ النِّسيانِ؛ لأنَّكِ أصبحْتِ روايَتي الغراميَّةَ الّتي أَلذُّ بحُروفِها ومَعانيها، ولأوَّلِ مرَّةٍ أشعرُ بأنَّني ضعيفٌ أمامَ الحبِّ، ولأوَّلِ مرَّةٍ أشعرُ بأنَّ حبِّي مقدَّسٌ ذو أهدافٍ إنسانيَّةٍ نبيلةٍ!

آهٍ.. مَتى ستَجتَمِعُ الزَّفراتُ لتَحترِقَ في الأعماقِ فتَسْكرَ باحتراقِها أنْفاسُ الحياةِ!؟

آهٍ.. مَتى سأفتَحُ عينيَّ على ذلكَ المساءِ الّذي أجِدُ فيهِ حمامَتي البيْضاءَ تُرفرِفُ مِن حَولي، فتَملأُ دُنيايَ بهجةً وسعادةً وحُبُوراً؟!

آهٍ.. مَتى ستَمتدُّ إليَّ تلكَ الأناملُ السَّاحرةُ لتُزيلَ عن كاهِلي تعبَ السِّنينَ، وتنْشرُ في عُروقي نشْوةَ الرِّقَّةِ والَّلذَّةِ والسَّعادةِ؟!

آهٍ.. مَتى تتَفتَّحُ جُفوني فأجِدُني طفْلاً وديْعاً بينَ أحضانِ مَن ستَضمُّني بين ذراعيْها وتَغْمرُني بدفءِ حنانِها، وتُسْكرُني بهمْسِ جُفونِها، وتُسامِرُني بعذوبةِ ورقَّةِ كلماتِها الهامِسةِ؟!

رشَا أيُّها الاسمُ السَّاحرُ، كلُّ حرفٍ من حروفِ اسمِكِ جميلٌ، واسمُكِ مَطبوعٌ على جِدارِ قلْبي كمَا الآثارُ مطبُوعةٌ على جبهةِ التَّاريخِ، وكلُّ كلمةٍ لا تحمِلُ حرفاً من حروفِ اسمِكِ ليس لهَا معْنىً في ذاكرةِ حبِّي وفي مُعجمِ قصائِدي الغراميَّةِ، وكلُّ أُغنيةٍ لا تنتَظِمُ حروفُ اسمِكِ في كلماتِها، لا يُمكنُ أن تجِدَ صدىً على أوتارِ قلْبي، واسمُكِ مُعجمٌ غراميٌّ أَستَقي منهُ كلَّ كلِماتي العاشقةِ، وأَعزِفُ في مَعانيها أناشِيْدي الجمِيلةَ.

يا عنفوانَ حبِّي، وبركانَ إرادَتي: كُوني مَعي ولا تَخَافي، هَاتي روحَكِ واسْتريْحي، هاتي جسدَكِ واطمَئنِّي، هاتي كلَّ ما عندَكِ ولا تَخشَي؛ فأنا منحْتُكِ كَياني بأسرِه، فلمْ أعُدْ مُلْكاً لنَفسي، بل أصبَحْتُ مُلكَكِ؛ لأنَّني واثقٌ من أنَّ هَذا العطاءَ الَّلاإراديَّ هوَ سِرُّ انتِصارِ الحبِّ وخلودِه على مرِّ التَّاريخِ.

جيوكاندتي:

أنتِ لستِ لوحةً مثلَ لوحةِ ليُونارْدو دافِنْشي، بل أنتِ لوحةٌ إلهيَّةٌ أينَ من سحرِ عينيكِ عيونُ المونَاليزا؟!

كلُّ مَن ينظرُ إليكِ يراكِ لوحةً عاديَّةً، لكنَّني اقرأُ في عينَيكِ كلَّ علاماتِ الإبداعِ، وكلُّ مَن رآكِ قالَ لي: إنَّ عشيقَتَكَ إنسانةٌ عاديَّةٌ مثلُها مثلُ كلِّ الفتَياتِ! فقلْتُ لهُم: بلَى! لكنَّ عيونَكُم لا تستطيعُ أنْ تَغوصَ إلى أسرارِ الجمالِ وطاقاتِ الإبداعِ في كَيانِها.. صحيحٌ أنَّ حبيبَتي مخلُوقةٌ عاديّةٌ وبسيطةٌ، كمَا ترَونَ ولكنَّكم لو نظرتُم إليها بعَينيَّ لوجدْتُمُوها أجملَ مَن خلقَ اللهُ مِن أُنْثى!

عَزيزتي: إنَّ ما يَشدُّ وشائجَ الأُلفةِ والمحبَّةِ بين روحَيْنا، لا تستطيعُ كلُّ تلِسْكوباتِ الفلكيِّين ولا مَجاهرُ العلماءِ إدراكَها؛ لأنَّها مَصوغةٌ من عالمٍ ملائكيٍّ يمتدُّ مِن سطحِ الكرةِ الأرضيَّةِ إلى عالمِ الغَياهبِ في السَّماواتِ العُلا، وقلْبٍ يتَّسعُ لكلِّ كلماتِ العالمِ، وعقلٍ مُستَنيرٍ يتَجاوزُ كلَّ مداركِ الحدودِ والسُّدودِ. 

  دبي في 20\9\1999م                 

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات