عرابة العوام بالحميمة.

حوارة محافظة بالعقبة جنوب الأردن، تعد مدينة عريقة،  يعود تاريخها للعصور الأولى من الحضارة الإنسانية، و لا تزال محاطة بحصون رومانية، بها بعض الأطلال التي بنيت أيام الخلافة الأموية. سكن الحميمة أحفاد من بيت النبوة، إذ كان بنوا العباس أول الواطئين لهذه المنطقة الخلابة بعد الفتح الإسلامي، حيث تمكن أمير المؤمنين أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي من تأسيس النواة للدولة ، مستعينا بأخيه إبراهيم إمام الكوفة، و بعد مقتل هذا الأخير، استعان بأبي مسلم الخرساني، و منها كانت الدعامة الأولى لكيان الدولة العباسية و توسعها لغاية الكوفة بالعراق.

كلنا لا يخفى عليه الصرح العتيد لإقليم خراسان من أيام تولي المسلمين الخلافة هنالك، فالصراع الدائم بين إقليم أفغانستان و باكستان لرقعة لا تزيد عن 90 كيلومترات من الزاوية الغربية لإيران، جعلت منها بؤرة حساسة، و كلما جرى الحديث عنها صم العباد،و ما إن بلغ مسامع  الخليفة ينتفض غضبا، فكم من حليف له، سال لعابه طمعا  بالسلطة و العيش الرغيد.

لحديث رواه عثمان بن سلمان عن موسى بن اسماعيل، خبرنا عنه الوليد ابن مسلم، عن عمر ابن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، يقول رسولنا الكريم محمد ابن عبد الله المكي القرشي: « من حمى لحم مؤمن من منافق اغتابه حما الله رحمه من النار يوم القيامة»( الطبقات الكبرى لابن سعد/1827).

لما بلغ مسامع الخراساني عن طريق أبو عروة معمر بن راشد الأزدي بالبصرة، أن ولي العهد عبد الله بن طاهر الخزاعي قد تمكن من إرساء المعالم الجديدة للخلافة العباسية بنيسابور بكل نجاح و اتقان، تهلل وجهه و استبشر خيرا للخلافة الإسلامية هنالك، لكن العداوة المغروسة بأطراف المدينة، من إيران و كذا باكستان و أفغانستان لا تزال تؤرقه و تبعث في نفسه الريبة و الفزع من كل ممن يحيطه من حاشية و ولاة وفدوا منها.

كان من بينهم قياض بالعمالة يترأس سوق الحرير، فوقتها كانت هذه التجارة جد رائجة ،و مما دعاه للشك، أن القوافل  تأتي محملة من جميع البقاع برا و بحرا، ظف عليه غنائم الجنود من الفتوحات على بلاد العجم. لذا قرر التحقيق في هذه المسألة بروية، و متابعة ما غاب من ريعها،فعل وعسى أن يكتشف ما وراء ذلك؟

كلف ساعده الأيمن العاهل بأرض المغرب و بالتحديد المتوكل(847-861) لمراقبة القوافل التجارية العابرة طريق العراء و كذا السفن التجارية القادمة من الغرب حاوية أغلى الكتان و سلعات رهيبة!!

إنصاع الولي لأمر مولاه طواعية، و كلف اتباعه بتولي هذه المهمة الخطيرة و البحث عن سر الخلل في دفاتر المحاسبة، لكن و للأسف يبدوا أن العاملين المقنعين بتجارة البحر الأبيض المتوسط يعرفون خباياه و غايته من التفتيش،و لم يتمكن أعوانه من كشف تلاعباتهم الخطيرة في تحميل و شحن و إيصال الشحنات، و دار حول كامل دون العثور عن خيوط الجريمة. عند انسداد كل السبل لايقاع المجرمين المتورطين، ما كان من الخرساني سوى انتحال شخصية التاجر الباكستاني يلقب بحارس القافلة الحميمية من قبل الحصن الروماني، بعدها قام بإرسال البحرية من فاس نحو صقلية ثم ي لما وصل بلاد الأندلس، و هناك بالذات ابتاع  بضاعة، و تنكر بزي زمخشري و بدل ملامح وجهه المعتادة، و سار بأسواق المدينة متخفيا..

انشغل قليلا في تحري السلع بسوق الحرير، و برهة استوقفته دكانة كانت جانبا، و يبدو حالها رثا و لا تصبو لما يرغب فيه، لكن ما جعله يقرر الاستفسار عن تلك الحانة ، صوت صاحبته التي كانت تبيع حريرا و تصيح قائلة: يا عباد الله، من كان منكم غريب الدار، أمن منكم باحث عن الحور و الحرير، هنا عندي الديباج من كل الألوان.. يقترب المقنع عندها و يمعن النظر لما حوله و ما عندها من سلعة.. حقا لقد انبهر بجمال المرأة و صار أخيرا أسيرا لها!!

يتحسس القماش و نوعيته، فوجد أن مواصفاته غير مطابقة للحرير الأصلي الذي اعتاد ابتياعه بأسواق الحميمة.. استغرب و طرح لها سؤالا متعجبا: ما هذا الحرير يا أمة الله؟! أحقا تبيعيننا حريرا حرا .. تنهدت المرأة ثم أردفت: صدقت أيها الرجل الهمام، إن الكتان ليس حريرا حقيقيا، بل هو نوع مختلف ، و مغزول بخيوط من.. يتلعثم لسانها و لا تسطيع البوح بسر القماش، عندها يأخذ صرة من مئة دينار ذهبي و يقول لها: المال بين يديك إن صدقتني القول و بحت عن سره يا مليحة. ما إن رنت الدنانير بخلدها، تذعن و تخبره فورا قائلة: رسلك يا سيدي، الحرير من وقت يسير أصبح سلعة نادرة بالأندلس، من يوم تولي أمير المؤمنين المغربي المتوكل بالله زمام الأمور ها هنا، و نشر أعوانه العاملون هنا طمعا بالسوق، و احتكروا التجارة بسوقنا، و سولت لهم أنفسهم ما لا يحمد عقباه، إذ قطعوا عنا السلعة وبدلوها بقماش تركماني مزيف منسوج من قماش حريري و خيط مصنع هنالك، مما أدى لقفل رزقنا، و ها انت ترى بأم عينك أيها الرجل الهمام، دكانتي محجوزة عندهم، و ما وجدت إلا هذا الركن لسد رمق أولادي الجياع.. فوالدهم بعد ضيق الحال، ركب البحر مع  اتباعه لعنة الله عليهم.. و تركني أصارع الموت رفقة الصبية بلا رحمة و لا شفقة.. يا إلاهي، أدعوك و أرجوك أن تفك عني مصابي..

حن قلب الخليفة الحميمي للمسكينة الضائعة، و على الفور فك المعضلة التي زادت الهوة بين جميع الإمارات و الدول الإسلامية المنتشرة من أقصى الشرق حتى أدنى الغرب.. 

و هكذا حل اللغز، و بعث جنوده الأشاوس لتعقب قراصنة البحر المتواجدين ببطون عديدة قرب السواحل، و فكت العصابة البحرية, في كل السواحل التابعة للدولة الإسلامية، و تمكنت الخلافة العباسية من الصمود مجددا للدسائس و المنافقين و المرتزقة و الدخلاء على كيان الخلافة الشرعية لبلاد المسلمين.. أما المرأة الضحية التي تمكنت من سلب لب الرجل المتيم من أول لقاء، فما كان منه إلا الانصياع لدقات قلبه الصريح بحبها، فيضمها بلا تردد لجناحه الملكي ببلاد المغرب الكبير، و صارت ملكة معززة مكرمة بين ذويها و عرفت بينهم : قياضة البلبل و سميت بعرابة العوام بالحميمة.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات