ساقي العريشة وطامة الاسمهاني.

ساقي العريشة وطامة الاسمهاني. - عالم الأدب

يروى في زمن غير بعيد، لما تبدلت المعايير بين عامة الناس، و اصبح الغالي رخيصا، طمست الضماءر  و بيعت بارخص الاثمان، حينها، ضعفت العزيمة، و تطفلت الحيلة و الرياء بين العباد، فلبسوا اقنعة مزيفة و تحورت جلودهم، و رويدا رويدا، هجروا المستحبات و عاد الخير غير مرغوبا بينهم، ثم بعدها عم الهرج و المرج و الدونية بين الخلاءق و العياذ بالله العلي العظيم.. فانتشر في بطونهم كنار الهشيم اتباع الامرد و معاونوه من الكفرة و الساقطين، فاقاموا للجهل ذريعة و نصبوا الماسونية وعادوا للوثية كما كانوا فيه من العصور الغابرة..اينما تعبر بين الزقاق و الحارات، لا تصادف عينيك سوى المنكرات و الوجوه العابسة، حتى تنسى السعادة و الحياة بما فيها من نشوات، و قد تنغمس طواعيا في المجون بلا وعي و احساس بالحقيقة الواقعية.. كان الليل في معظمه كوضح النهار بلا سكن و دون راحة نفسية، و ما ان تشرق الشمس علك تطرد اشباح السهو و تنمحي موبقات السكارى و سمومهم الكاءدة، و يا لزمهرير الفاسقات و المارقات اللاتي لا زلن يصببن كؤوس الخمر لسلب العقول بالعشق الماجن..

قيل مرة، ان ابنا بار باهله يدعى الاسمهاني، ولي رعاية شؤون العامة بضاحيته،تحت قيادة فقيه وارع يقال له ساقي العريشة، فاستطاع الهيمنة على السوق كله، كونه سمسار فذ بسوس المدينة، فنمى ماله في سرعة قياسية انذاك، و لمع نجمه و صار ضليعا بالسلعة النفيسة، لذا لم تخف عنه خافية، و يعلم جيدا بما يدور حوله من رواد تلك الاسواق، و كلما ارتفع الحميم فيها، اشعل الكانون، و بعث غلمانه لتحري المزادات بالدكانين المنصوبة هنا و هناك، و يستقصي اين تدور اجود السلع الثمينة، و لا يمر الا بضع سويعات الا و الزبون الوافد اليها يجييء طارقا بابه خصيصا، ليبحث عن غايته المنشودة ثم يحصل على ظالته الفريدة من نوعها. كان عميد السوق غنيا كثيرا، و لكن للاسف، كان يفتقر للروح النقية الطاهرة، كونه استعمل جميع الطرق المتاحة امامه، من عمالة و سطوة بالخان، لكي ينمي ثروثه و تعلو قيمته بين الخلق بالمدينة، خاصة غرماؤه تجار السويقة الجمعوية، و ذلك ايام السبت كله ، و كذا صبيحتي الخميس و الجمعة ايضا..

مرت الصيفية، وحل فصل الخريف بالبلدة الجميلة، و بما ان صاحبنا الخارق قد تولى الرياسة بها، كان عليه توفير الزاد و المؤونة اللازمة لاحتمال البرد القارص بها، لذا اتجه نحو العريشة اين يجتمع اعوان القباءل و شيوخها البارزون في الامر و النهي بكل الحواري ، و اذ ان الارزاق قسموها بينهم بالتراضي و ما تقتضيه حاجة كل فحل منهم. طلب الاسمهاني حقه الضروري بعد نفاذ الكمية السابقة، امتنعوا و ما حكموه فيها، فما وجد الجواب الشافي لطلبه لسد عوزته الملحة حينها، بل طالبوه عن البحث في جهة اخرى و جلب المفيد من وراء البحار ان استلزمه فعل ذلك، و كانت حجتهم لما منعوه عنها، ان الجريحة قد ضربت محاصيل السنة الفارطة، فصار لزاما لاغلب الاسر شد الرحال و الاستزادة في الغلة خارج البلد و ركوب سفينة البحر اجتنابا للمجاعة التي قد تداهمهم، و لو استمر الحال على هذا الوضع المريب و العياذ بالله الواحد الصمد لكانت الطامة.

اما فيما يخص الوقود، فاحتاروا كيف لهم الحصول عليه، لان ساقي العربشة قد زودهم بكمية تطابق حاجاتهم اللازمة لهذا الموسم بالضبط و مابقي لديهم الا القليل فقط؟! يا الاهي، كيف لهم توفير الباقي في هذه الايام الحالكة، اغثنا يا رب من هذا المصاب الجلل!!

ارقت هذه المعضلة صاحبنا، و لما هم و اضطجع بفراشه عند العروس  البكر اليافعة، انها دلوعة تدعى عسلية، عرفت عنه تلك الغمامة التي تعكر مزاجه تلك الليلة، فطيبت خاطره وابتسمت تقول: دعك من النويح يا سلوى الخاطر و بلسم الروح، ان شاء الله سيحل المشكل عن قريب، و لن تمر الا ايام و الوقود يصير ها هنا عندك يا حبيبي. لم يستصغ ما تقصده و سكت عن الرد عليها، و في اليوم الموالي، ركبت بغلتها، و قالت له انها راحلة لاهلها بالقرية المجاورة و ستعود باذن الله باخبار سارة، و كما شاء الحال، غابت اسبوعا بحاله، ثم رجعت و هي تحمل الوقود و اودعته لزوجها و كلها فرح و سرور!! كشر قليلا و قال لها مغاضبا: ويحك يا امراة، من اين لك بهذا كله، لا حول ولا قوة بالله من شيعتك يا عوانة؟! اسرع المخلوع لدكانه بالسويقة حاملا الوقود من على ظهر البغلة، ثم خمن و قال في قرارة نفسه لاختص منها جزءا يسيرا!! اتعلمون كيف و لم ذلك؟؟ الخبيث الواطي يحتكر من مدة كمية وفيرة من الوقود بمخزنه السري بالدكانة، و اشاع بين الناس بالقرى و بالمداءن ان الوقود قد نفذ بالصيفية و يعود ذلك لكثرة الزردات و الولاءم؟! لما اضحى بمخزنه السري تحرى غلة الصيفية، وجدها لاتزال كما هي ولم ينقص منها شبرا، فزاد عليها مما حملته  بغلة زوجته عسلية، حتى يقتطع دريهمات قليلة حتى و ان كان بعد حين..

و لما اجتمع الساسة في تلك الاونة ، و هم مستبشرون ان مسالة الوقود قد حلت من جذورها، اقترح عليهم المقيت تحديد سعر رمزي ليباع  بين الاحياء المحتاجة له، فتفاجا ان الزعماء رفضوا الحديث بتاتا عن التسعيرة الجديدة، و في الحقيقة ان سره قد كشف لهم ،و علموا انه  محتال و وضيع لهذه الدرجة، لذلك فضل الناس التكتم و عدم اخبار ساقي العربشة و الرياس بكافة المدن،  و من ثم احتاطوا لامر الوقود مسبقا و دخروا كميات يمكن ان تخرجهم من ازمة الخريف الماجي، و هم لا يحتاجون له في هذه المدة تحديدا، لذا اضطر وجهاء القوم توزيعه على العباد بلا اي مقابل، و عندها اندهش صاحبنا و اخذ صفعة على وجهه، جعلته يستفيق من غيبوبة الطمع و الاحتكار الذي عاشه الناس بسببه، و فهم اخيرا، ان الاستغلال لا يمكن له ابدا تحقيق الثراء المزعوم.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات