اليَاسَمِينَةُ العَاشِقَةُ 

مررْتُ بقربِ ياسمينةٍ في أحدِ شوارعِ دُبي ليلاً، كانتْ تنشُرُ شذَاها رائِعاً يسحَرُ الأرواحَ، ويُضيءُ مسالِكَ النُّفوسِ باعِثاً فيها بهجةً أيَّما بهجةٍ.

وقفْتُ بجوارِهَا أتأمَّلُها وأمْلأُ أنْفاسِي منْ عبقِها الملائِكيِّ. وقفْتُ بجسَدِي عندَها، لكنَّ روحِي طارَتْ فرحاً مثلَ الشِّهابِ إلى سماءِ الذِّكرياتِ، فلمحْتُكِ يا حبيبتِي تأخُذينَ بيديْ في تلكَ الَّليلةِ الَّتي كُنَّا نَجُوبُ فيها شوارعَ دمشقَ الجميـلةَ المزْدانةَ بأزهارِ الياسَمِينِ الّتي تتَسلَّقُ الجُدْرانَ وتُعانِقُها عِناقَ المحبِّينَ.

ذهبَتْ تلكَ الَّليالي العاشِقةُ، لكنَّها لمْ تنْسَ أنْ تُسجِّلَ ذكرياتِها على خُدودِ الياسمينِ، وتركَتْ مشاعرَها النَّبيلةَ تذوبُ حبَّاً وتَحترِقُ لهْفةً على أنفاسِ أزهارِ الياسَمينِ.

أيَّتُها الحبيبةُ:

إنَّكِ تُعْطينَ بسخَاءٍ، دونَ أن تَنْتظرِي مُكافأةً مِن أحدٍ! رائحتُكِ تعْبقُ في السَّماءِ، وتنتشِرُ في الأرضِ، فهلْ يا تُرى تلامِسُ أرواحَ البشرِ؟! أمْ أنَّ النَّاسَ مُنهمِكُونَ في تفاهَاتِهم؟! أمْ أنَّ أرواحَهُم باتتْ سَكْرى بخُمُورِ الحياةِ الماديـَّةِ العفِنةِ، فلمْ تعُـدْ تتذوَّقُ الرَّياحِينَ؟!

إنَّنِي أُناجِيكِ أيَّتُها الرَّسولةُ الحبيبةُ! فهلْ تَسمَعينَ صوتَ روحِي وضميرِيْ؟!

وهَا أنا أهْمِسُ إليكِ بجفُوني؛ فهلْ تسمَحِينَ لي بقطْفِ بعضِ أزهارِكِ كي أُسْكِرَ بهـا روحِي هذهِ الليلةَ؟! وبعدَها أُرسِلُها بينَ أوراقِ رسائِلي إلى حبيبتِي؛ لعلَّها تكونُ أصْدقَ مِن كلِّ ما أكتبُه! فأنتِ أيَّتُها الياسمينةُ لغةٌ لا تَعرفُ صدأَ السِّنينَ؛ إنَّكِ لغةُ الأرواحِ الهائمةِ تنقُلِينَ قُبُلاتِها عبرَ الأثِيرِ.

اليَاسَمِينةُ:

خذْ ما تشاءُ أيُّها العاشقُ الأمينُ منْ أزهارِي؛ فأنا أسمَعُكَ، وكلماتُكَ باتتْ تَسْري في عُروقِي! وسأُفتِّحُ مكانَ كلِّ زهـرةٍ تقطِفُها عشَراتِ الأزهـارِ تكريماً لحبِّك؛ فأنا لـمْ أُخلَقْ منْ أجلِ أنْ أتربَّعَ عروشَ الجُدرانِ والحدائقِ، وأرى نفسِي شامخةً فـوقَ كـلِّ الورودِ والأزهارِ.

إنَّني خُلِقتُ رسولةً للعشقِ، ففي كلِّ زهرةٍ من أزهارِي آلافٌ من قصصِ العاشقينَ، وفي كلِّ عبقٍ من رياحينِي ملايينُ من زفراتِ الهائمينَ في الغرامِ! تعالَ أيُّها العاشقُ الغريبُ البعيدُ، وضُمَّنِي إلـى صدرِكَ، وقبِّلْني ألفَ ألفَ قُبْلةٍ؛ لأنَّني حبيبتُكَ بذاتِها، بروحِها، بحبِّها، بأنفاسِهَا!

وقفْتُ مُرتعشَ الرُّوحِ، مُنتشيَ الجسدِ، وأمسكْتُ بالياسمينةِ في رِفـقٍ ودعَـةٍ، ثمَّ قطفْتُ بعضاً من أزهارِها، لكنَّ حيائِي ما كانَ لِيسمحَ لي بتقبيلِها في الشَّارعِ، فحملْتُها إلى غُرفتِي، ورحْتُ ألثِمُها كمَا لو أنَّني ألثِمُ خدَّكِ النَّاعمَ يا وردةَ عمرِي النَّضِيرِ!

وأخذْتُ أستنْشقُ عبيرَها في شغَفٍ روحيٍّ، وشعرْتُ بالنَّشوةِ العُظمى الّتي تُسكِرُ الجوارحَ وتُخدِّرُ الأوصالَ، وتَملَّكَتْني استرْخَاءةٌ جميلةٌ على السَّريرِ، ورحْتُ أضُمُّ الأزهارَ إلى صدرِي في إغفاءةٍ كأنَّها الحلُمُ السَّرمديُّ!

وبعدَ إغفاءةِ الرُّوحِ الحالمةِ وسَكرةِ الجسدِ العذبةِ، استيقظْتُ وكأنَّني في صباحٍ جديدٍ، رغمَ أنَّ عقاربَ السَّاعةِ كانتْ تتراقَصُ مُشيرةً إلى الثَّانيةَ عشرةَ ليلاً، ورحْتُ أتأمَّلُ هذهِ الأزهارَ وأقرأُ ما خطَّتْ على شِفاهِها أرواحُ العاشقينَ، وما سكبَتْ فيها قدرةُ الخالقِ العظيمِ من عظمةِ الخلْقِ والإبداعِ. إنَّ هذهِ الياسمينةَ تُعطي ولا تملُّ العطاءَ، تَجودُ بعطرِها الملائكيِّ لكلِّ البشرِ ولكلِّ مخلوقٍ دنيويٍّ، دونَ أن تنتظِرَ وسامَ تكريمٍ من أحدٍ! فما يُقدَّمُ لها من جَهدٍ في غرسِها ومنْ قطراتِ ماءٍ في ريِّها، لا يُعادلُ ذرَّةً واحدةً من شذاهَا المفْعَمِ بالحبِّ والحياةِ!

فهذهِ الياسمينةُ تُعطي دونَ مقابلٍ؛ إنَّها لا تُعامِلُ الخلقَ في عطائِها معاملةَ التُّجَّارِ لزبائِنهم، بلْ هيَ كالبلبلِ الرَّائعِ الجمالِ، السَّاحرِ الأنغامِ!

إنَّهُ كذلكَ يَشْدو صباحَ مساءَ ويُشْجي الرُّبا والوديانَ، ويُطرِبُ الرَّائحَ والغاديَ، ويُسكِرُ النَّسماتِ بأعذبِ الألحانِ!

فلمَ لا أكونُ كذلكُما البلبلِ والزَّهرةِ؟! ألمْ يُشِدْ بعطائِهما فيلسوفُ الشُّعراءِ المهجريِّين إيليّا أبو ماضي إذْ قال ( )؟:

مَـــــــنْ ذا يُكـافِئُ زهْــــــــرةً فوَّاحــــــــــةً        أو مَـــــــنْ يُثيـْبُ البُلبــــــلَ المترنِّـــــمَا؟!

أوَلمْ يرجِّحْ كفَّةَ عطائِهما على كفَّةِ عطاءِ كلِّ كرماءِ العالمِ؟

عُـدَّ الكِـــــــرامَ المحْسِنـينَ وقِسْهمُ        بهِما تجـدْ هــــــذينِ منـهُمْ أكْـرمَا

ثمَّ ألمْ يدْعُنا إلى تعلُّمِ المحبَّة منهُما ؟:

يا صاحِ: خذْ عـلمَ المحبـَّةِ عنهُما       إنّي وجـدْتُ الحُـبَّ عِلْـمــــــــاً قيِّما

فهَا أنا أكتبُ إليكِ يا غاليتِي وياسمينتِي الحبيبةَ، دونَ انتظارِ رسائِلِكِ، ولا أستطيعُ الانتظارَ حتَّى وصولِ رسائلِكِ لأكتبَ! فكلماتِي يُمكنُ أن تَختنِقَ بمعانيْها في روحي، إذا أنا لمْ أنشُرْها شَذاً ملائكيَّاً أعطِّرُ بها روحَكِ العاشقةَ، كما تُسكِرُ الياسمينةُ أرواحَ العاشقينَ بعَبيرِها الأخّاذِ.

إنَّني لم أكتبْ إليكِ حبَّاً بالكتابةِ أو طمعاً بحبِّكِ أو طلَباً لمكافأةٍ منكِ! بل كتـبْتُ وأكتبُ؛ لأنَّني أحبُّكِ؛ فليسَتْ كلماتُ عشقِي إلّا صدىً لحبِّكِ الخالدِ في أعماقِي! وليستْ إلّا غراساً أودعَتْها يداكِ الطَّاهرتانِ في تربةِ نفْسيْ.

إنَّني أُرسِلُ إليكِ كلماتِي عبَقاً ساحِراً ينسَكِبُ فـي مَجاري روحِكِ الزَّكيَّةِ، وأُحمِّلُ كلَّ حروفي أنغامَ روحِي العاشقةِ، كي تنسابَ على أوتارِ روحِكِ المقدَّسةِ أنشودةَ عشقٍ أبديَّةَ المعانِي، أزلَّيةَ الألحانِ، أسطوريَّةَ المشاعرِ في كلِّ زمنٍ تشُحُّ فيه القلوبُ، وتنضُبُ ينابيعُ الأرواحِ، وتجفُّ أنهارُ الوجْدانِ.

إنَّني أكتبُ إليكِ يا حبيبتِي؛ لأنَّ كلِماتي تعبقُ في وجْداني عبَقَ الياسمينةِ بشذاها الرَّائعِ، فإنْ لم أكتبْ؛ تحوَّلتْ تلكَ الكلماتُ إلى سُمومٍ تُميتُ أوراقَها إذا لمْ تَنشُرْها فـي الملأِ الرَّحبِ بسخاءٍ!

إنَّني أبثُّك ألحانَ حبِّي، ومعانيَ عشقِي كلماتٍ تحملُ دندناتِ أوتارِ الفؤادِ، وآهاتِ ومواويلِ الرُّوحِ، ولا أستطيعُ أن أخبِّئَها في صدرِي؛ لأنَّها قد تتحوَّلُ إلى حشْرجاتٍ تخنقُ أنفاسَ الحياةِ في كَياني!

ولكنَّني مهْما أعطيتُ من عبقِ كلِماتي، ومهما نشرْتُ من رياحينِ حبِّي في ربوعِ روحِكِ الهائمةِ إلى الخيرِ والجمالِ، لن أستطيعَ أن أقدِّم لكِ إلّا جزءاً يسيراً من شَـذا الياسمينِ وأنغامِ البلبلِ الشَّادي الّذي لا يَستكِينُ.

لكنَّني سأظلُّ أُواصلُ العطاءَ، فلَعلَّني أستطيعُ أن أُثمِلَ روحَكِ بفَيضِ كلماتِ حبِّي، وإن لـم أستطعْ فحَسْبي أنَّني أرضيْتُ ضميرِي وأدَّيتُ واجِباتي الغراميَّةَ الّتي تُملِيها عليَّ شرائعُ العشقِ السَّماويَّةُ.

حبِيبتِي الغَاليةَ:

يا بلبُليَ الحرَّ.. وياسمينتِي الطَّليقةَ!

إنَّ كلَّ كلمةٍ من كلماتِ رسائِلي إليكِ تُواري فـي أعماقِها كتاباً كاملاً، بل فلسفةً متكاملةً في الحبِّ، وقد تكونُ كلمةٌ واحدةٌ مفتاحاً لرسالةٍ أو رسالاتٍ متعدِّدةٍ، وقـد يكونُ بيتٌ من الشِّعرِ، انسابَ في ارتِجالٍ على لسَاني، مفْتاحاً لقصيدةٍ كاملةٍ من قصائدِ حبِّي إليكِ.

وهَا أنا أبثُّكِ لواعجَ نفْسي، وثورةَ روحِي وبركانَ عزيمتِي وفيضانَ خاطِري، ألحاناً عذْبةً تترقْرقُ في غدْرانِ قصيدةٍ كان مفتاحَها البيتُ الأوَّلُ الذي كتبتُه فـي رسالةٍ سابقةٍ إليكِ. لقد هبطَ هذا البيتُ في خاطِري دونَ قصْدٍ إلى كتابةِ الشِّعرِ، إذ كـنتُ أكتبُ تلك الرِّسالةَ، ثمَّ رُحتُ أردِّدُ هذا البيتَ في نفسِي، فإذا به بيتٌ من الشِّعرِ، راقَنِي لحنُه، وأطْربَني معناهُ، وحاولْتُ أن أتَنَاساهُ، لكنَّ صداهُ لم يفارقْ قريحتِي، فسَرعانَ ما وجدْتُني أتراقصُ بينِي وبينَ ذاتي، وراحتِ المعاني تتزاحمُ في انتظامٍ كما تنتظمُ حبَّاتُ الُّلؤلؤِ في عِقدٍ رائعِ الجمالِ، وأخذتُ أشحنُها بزخمِ الذِّكرياتِ، مستمِدَّاً لها ذُخراً من المشاعرِ والأحاسيسِ، فانهالَتْ على خاطرِي غيثاً مِدراراً من الألحانِ والمعاني والعواطفِ، ثم أينعَتْ ثماراً ناضجةً يحملُها كلُّ غُصنٍ من أغصانِ قصيدتِي التي أُلصِقتْ على ذُؤاباتِها بصمةُ روحِي وكتبتُ عليها بمدادٍ من دمِي: (حبٌّ وغربةٌ). 

    دبي في: 10/9/1999م

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

أيُّها البُلبلُ 

علِّمْني كيفَ يَنْسابُ سِحرُ جمالِ الحياةِ أنْغاماً شجيَّةً رائعةَ الأداءِ على أوتارِ قلبِكَ العذْبِ النَّقيِّ. علِّمْني كيفَ تأسُرُ الطَّبيعةَ بمُجْملِها، فتَسْكبُ في جنَباتِها ألحَاناً ملائكيَّةً…

أوَابِدُ التَّحدِّي

انطلقَتْ بنا الحافلاتُ الثَّلاثُ من قريةِ نيصَافَ السَّاعةَ السَّابعةَ صباحاً، برفقةِ الأخِ خالِد يوسُف والجهازِ الإداريِّ والتَّدريسيِّ في المدرسةِ، مع طلَّابِ وطالباتِ المرحلةِ الإعداديَّةِ، وكلٌّ…

تعليقات