الفقرُ في عُيُونِالأدباءِ والمفكِّرينَ -1

الإهداءُ:

إلى جميعِ أغنِياءِ العالمِ فرُبَّما يتَّعِظُون، وإلى سَوادِ العالمِ من الفُقراءِ والجَائِعينَ، فربَّما منْ سُباتِهم يستَيْقِظُون فيَنهضُون.

إلى سائرِ الأدباءِ والمفكِّرينَ الّذينَ ما برِحُوا في جمهوريَّةِ أفلاطُونَ يحلُمُون.. إلى أشقِيَاءِ العالمِ البائِسِ المهجَّرينَ الّذينَ ما لبِثُوا بالعودةِ إلى أوطانِهم يُعلِّقُون الأفئِدةَ والعُيونَ، ربَّما يَنضُبُ مِدادُ الكلِماتِ، ولا تَجفُّ العبَراتُ من المآسِي والويْلاتِ.

المقَدِّمة:

الفقرُ من أخطرِ المظاهرِ الاجتماعيَّةِ الّتي تُهدِّدُ العالمَ، وتُؤكِّدُ على حتميَّةِ التَّغييرِ والقيامِ بثورةٍ شامِلةٍ تَضْمنُ توزيعَ ثرواتِ العالمِ بشكلٍ عادلٍ، تُجنِّبُه المآسيَ الحقيقيَّةَ الّتي تُظهِرُها الإحصاءاتُ الحديثةُ لمنظَّمةِ الأممِ المتَّحدةِ، وقدْ عُقِدَتْ قِمَّةٌ عالميَّةٌ لمعالجةِ هذهِ الظَّاهرةَ الخطيرةَ في مطلعِ الألفيَّةِ الثَّالثةِ في يومِ الفقرِ العالميِّ سُمِّيتْ (قِمَّةَ الفقْرِ)؛ وذلكَ من أجلِ القضاءِ على ظواهرِ الفقْرِ والجُوعِ والمرضِ، دونَما فائدةٍ تُذْكرُ؛ لأنَّ الّذينَ يملِكُون المالَ والسُّلطةَ أقْوى وأعْتى من كلِّ القَراراتِ الدَّوليَّةِ الّتي لا تختلِفُ في شكلِها ومضمونِها عن قراراتِ الجامعةِ العربيَّةِ الّتي باتتْ فيلماً كاريكاتوريَّاً يُثيرُ السُّخريةَ والاشمِئزازَ.

سأتناولُ في هذهِ المقالةِ مشْكلةَ الفقرِ من مُختلِفِ جوانبِها ومظاهِرِها، وموقفِ الأدباءِ والمفكِّرينَ منها، وطرائقِ تناولِهم لها الّتي تتَباينُ بينَ نظرةٍ ساخِرةٍ تُعبِّرُ عن واقعِ الأديبِ نفسِه، وبينَ رؤيةٍ إصلاحيَّةٍ تدعُو إلى الإحسانِ والتَّصدُّقِ على الفقراءِ، وبينَ دعوةٍ ثوريَّةٍ حقيقيَّةٍ تدعُو الفقراءَ إلى الثَّورةِ على المستَغِلّينَ والمحتَكِرينَ وأصحابِ الثَّرواتِ، أولئكَ الحِيتانِ الضَّاريةِ الّتي لا تَملأُ أحشاءَهم كلُّ خيراتِ الأرضِ ولا السَّماءِ.

ومن الأسبابِ الحقيقيَّةِ للفقرِ: الطَّمعُ والجشعُ والتَّنافسُ على احتكارِ الثَّرواتِ سواءً على مسْتَوى الأفرادِ أو الجماعاتِ أو الدُّولِ، إضافةً إلى القوانينِ والأنظمةِ والتَّشريعاتِ الّتي تَمنحُ المستغلّينَ والمحتَكِرين وأصحابَ رؤوسِ الأموالِ جميعَ الفرصِ لزيادةِ أموالِهم، واستغلالِ ذَوِي الدَّخلِ المحدودِ من مُوظَّفينَ وعامِلينَ وغيرِهم، يُضافُ إليها ظاهرةُ الملَّاكِ والإقطاعيِّين وأصحابِ النُّفوذِ والسُّلطةِ والتُّجَّارِ، ولا سيَما في الدُّولِ النَّاميةِ والمتخلِّفةِ الّتي تحتكِرُ ثرواتِ البلادِ وخيراتِها لمصالِحِها الذَّاتيّةِ ومآربِها الشَّخصيَّةِ؛ حتّى تتحوَّلَ تلكَ البلادُ إلى حظائرَ ومحمِيَّاتٍ تعيشُ شعوبُها على فُتاتِ الخيراتِ.

ولولا وجودُ هؤلاءِ الأثرياءِ والمُتخَمينَ بالثَّرواتِ، لما بقيَ فقيرٌ في العالمِ؛ لأنَّ خيراتِ الكرةِ الأرضيَّةِ وعطاءَ السَّماءِ لا تدَعُ في العالمِ متسوِّلاً، ولا جائِعاً ولا مَحْروماً، ولا طفلاً يُفارقُ الحياةَ من ضَنْكِ العيشِ، ولا يُمكنُ لعاقلٍ أنْ يَرى مأساةَ هؤلاءِ الفقراءِ والجائعينَ إلّا في ثُلَّةٍ من وحُوشِ الأرضِ تلتهِمُ الأخضرَ واليابسَ، وتبتلِعُ البِحارَ والأنهارَ، وتتطفَّلُ على الماءِ والهواءِ والدَّواءِ والدِّماءِ والسَّماءِ والفضاءِ والرَّجاءِ، وتسْطُو على الآمالِ والأحلامِ، وتقتُلُ آدميَّةَ الإنسانِ، وتسْحقُ كرامتَهُ، وتُدنِّسُ برجْسِها كلَّ تعاليمِ المثاليَّةِ والأخلاقِ والأديانِ.

طرائِفُ الأدباءِ والمفكّرينَ:

وفي رحِمِ المأساةِ تُولَدُ الطَّرائفُ، وتَترعْرعُ ضحِكاتُ البائسينَ، وتشُبُّ الرُّؤى والنَّظراتُ الفلسفيَّةُ السَّاخِرةُ، مُلخِّصةً مأساةَ الحياةِ في أقبحِ صُورِها، وتَصارُعَ الأضدادِ فيمَا بينَها، وهاكُم نُتَفٌ من تلكَ الطَّرائفِ الّتي تُبلْورُ مأساةَ الإنسانيَّةِ في بِنيتِها الاجتماعيَّةِ والطَّبقيَّةِ والفكريَّةِ والأدبيَّةِ.

جورج برناردْشُو:

كاتبٌ إنكليزيٌّ، إيرلنْديُّ المولِدِ (1856 – 1950)، عُرِفَ بالمرحِ والدَّعابةِ وخفَّةِ الرُّوحِ.

سألَ أحدُهم برناردشُو الكاتبَ الإيرلنديَّ السَّاخرَ، وكان قَبيحَ الشَّكلِ، أصْلعَ الرَّأسِ، كثَّ اللِّحْيةِ:

o ما رأيُكَ في اقتِصادِ العالمِ؟

o فأشارَ بيدِه إلى لِحْيتِه ورأسِه قائلاً: غزارةٌ في الإنتاجِ، وسُوءٌ في التَّوزيعِ!!

وكانَ برناردشُو صديقاً حمِيماً لوِنستُون تشِرشل، رئيسِ وزراءِ بريطانيا الّذي كانَ يُحِبُّ من برناردشُو سُرعةَ بديهتِه ونُكَتَه وطرائِفَه اللّاذِعةَ:

o قالَ له تشرشِل (وكان ضَخْمَ الجُثَّةِ): مَن يَراكَ يا أخي بِرنار (وكانَ نحيلَ الجسدِ جدَّاً)، يَظُنُّ أنَّ بلادَنا تُعاني أزمةً اقتِصاديَّةً حادَّةً، أزمةَ جوعٍ خانِقةٍ!

o فأجابهُ برناردشُو: ومَن يَراكَ يا صاحِبي، يُدركُ فوراً سببَ الأزمةِ!!

الشّاعِرُ القُرويُّ رشِيد سلِيم الخُوري:

وُلِدَ رشيدُ سليمِ الخُوري في (17 نيسَان من عامِ 1887م) في قريةِ البربارةِ اللُّبنانيّةِ، وهُو مِن أشهرِ شعراءِ المِهْجرِ، هاجرَ إلى البرازيلِ، وعمِلَ فيها بائِعاً مُتجوِّلاً يحمِلُ على ظهرِه صُندوقاً مَمْلوءاً بالسِّلعِ، يَطُوفُ بهِ في المناطقِ النَّائيةِ مُعرِّضاً نفسَه لمشقَّاتِ الحرِّ والصَّقيعِ..

تعرَّفَ ذاتَ يومٍ فَتاتاً جميلةً ابنةَ ثَريٍّ أعجَبَها شِعرُ القرويِّ، فدعَتْه إلى منزلِها للعَشاءِ.. وممَّا جاءَ في مذكِّراتِه: لمّا دخلْتُ إلى دارتِها الفَخِيمةِ حسِبْتُني أحلُمُ بحكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ.

لكنّني هبَطْتُ من فضاءِ أحلامِي إلى الواقعِ الأليمِ لمّا سألَني صاحبُ الدَّارِ، وقدْ حسِبَني طالِبَ زواجٍ، ماذا أعمَلُ، فأجبْتُه: أنْظِمُ الشِّعْرَ، وأعزِفُ على العُودِ.

تَغيَّرَ وجهُ الغَنيِّ، وقالَ للشَّاعرِ: لعلَّكَ لم تَقْرأْ أُسطُورةِ: الصُّرصُورِ والنَّملةِ!

فأجبْتُه: بلَى قرأْتُها. ومعَ هَذا فضَّلْتُ الصُّرصُورَ على النَّملةِ؛ لأنَّ الصّرصُورَ يُغنّي ويَطرَبُ ويَطيرُ، فيمَا النَّملةُ تَزحَفُ على الأرضِ زحْفاً.

لمّا سمِعَ الغَنيُّ هذا الجَوابَ، نظرَ إليَّ نظْرةَ استِخْفافٍ، وغيَّرَ مَجْرى الحديثِ.. وعلى المائِدةِ طلبَتْ إليَّ الآنِسةُ أنْ أُنشِدَ بعضَ أبياتِي فأنشدْتُ: (1)

بَعُــــــــــدَتْ هِمَّتي، فعِفْتُ كنُوزَ الأرضِ لمـّا عــــــــــرفْتُ قِيـــــــــمـــةَ كَنــــْزي

لا أُبــــــالي شَـــــــبِعــــتُ أمْ جُعْـــــــتُ والفَنُّ شَرابِي وعِــزَّةُ النَّفسِ خُبْزي

في اليومِ التَّالي تلَقَّى الشَّاعرُ القُرويُّ بِطاقةَ اعتِذارٍ من الآنِسةِ علَيها رسْمُ صُرصُورٍ، ومعَها حوَّالةٌ مصرِفيَّةٌ بمبلَغٍ كبيرٍ، ثمَنَ دِيوانِ الشَّاعرِ، وعُنوانُه (الأعاصِيرُ). فأرسلَ إليْها الدِّيوانَ مع هَذا الإهداءِ: إلى قطْرةِ النَّدى الّتي تتَحدَّى “الأعاصِيرَ” وتُؤْثِرُ الشِّعرَ على المالِ الوفِيرِ. وأعادَ إليْها الحوَّالةَ المصرفيَّةَ.

نجِيب محفُوظ والرَّاقِصة:

وُلِدَ نجيبُ محفُوظ في القاهِرة (11 ديسَمبر عامَ 1911 م) في حيِّ الجمالِيّةِ؛ وهُو أديبٌ عربيٌّ مصريٌّ شهيرٌ، نالَ جائزةَ نوبل في الأدبِ عامَ 1988على ثلاثيَّتِه الشَّهيرةِ (بينَ القصرينِ، وقصرِ الشَّوقِ، والسُّكَّريّة).

ذاتَ يومٍ وقفَ الأديبُ الكبيرُ على الإشارةِ المروريَّةِ الحمْراءِ في أحدِ شوارعِ القاهِرةِ بسيَّارتِه القديمةِ الّتي يُرثَى لحالِها، ووقفَتْ إلى جانبِه الرَّاقصةُ المشهُورةُ (&&&).. بسيَّارتِها الفخْمةِ الحديثةِ.. فنظرَتْ إلى الأديبِ، وقالتْ لهُ:

o (شُفْتِ يا أُستاذ نجيْب..الأدبْ عملْ فيكْ إيْه)؟!

o فأجابَها على الفَورِ قائلاً: (وشفتِ كمَان قِلّة الأدبْ عمَلِتْ فيكِ إيْه)؟!

(نقلْتُها كمَا رُويَتْ دونَ تبنّي القِصَّةَ كشاهدٍ أو دليلٍ؛ لأنَّ البحثَ العلميَّ لا يعتَمدُ على المرويَّاتِ الّتي قدْ تُسيءُ إلى أصحابِها)

عبّاس محمُود العقَّاد:

لم يَنَلْ ما يستحِقُّهُ منَ التَّكريمِ، وقدْ عبَّر عنْ ذلكَ بقولِه: إنَّ مصرَ بلدُ عجيبٌ، إذا أرادُوا تَدْعيمَ الإسلامِ نشرُوا كُتُبي، وإذا أرادُوا أن يُهاجِمُوا الشُّيوعيَّةَ نشرُوا كتُبي، وإذا رشَّحُوا أحداً لجائزةِ نوبل رشَّحُوا طهَ حُسَين!

بدأَ العقَّادُ عملَه في الصِّحافةِ في صَحيفةِ “الدُّستُورِ” (سنةَ 1907) معَ المفكِّرِ محمَّد فَريد وَجْدي. ولم يَمضِ عامٌ على عملِه في الصِّحافةِ حتّى أصبحَ أوَّلَ صحافيٍّ يُجْري حِواراً مع وزيرٍ، هو الزَّعيمُ الوطنيُّ سَعْد زغلُول، وزيرِ المعارفِ في ذلكَ الوقتِ. أُغلِقَت “الدُّستُور” (عامَ 1909) واضطُرَّ العقَّادُ، تحتَ ضغْطِ ظروفِ الحياةِ المعِيشيَّةِ، إلى بيعِ كتبِه، إضافةً إلى قيامِه بإعطاءِ بعضِ الطُّلّابِ دروساً خُصُوصيّةً.

ولكنَّهُ لم يَتمكَّنْ من مُجابهةِ الأعباءِ المادّيّةِ، فاضطُرَّ إلى السَّفرِ عائِداً إلى أُسْوانَ، حيثُ ألَّفَ كتابَ “خُلاصةُ اليوميَّةِ” واستقرَّ في أسوانَ سنتينِ، وعانَى في هذهِ الفترةِ من آلامِ المرضِ وضِيقِ اليدِ.

وطرائفُ الأدباءِ والمفكِّرينَ كثيرةٌ تغُصُّ بها بطُونُ كتبِ التَّاريخِ والفكرِ والأدبِ، لكنَّني لسْتُ بصددِ سردِ تلكَ اللَّطائفِ، وحَسْبي ما ذكرتُه من أمثلةٍ، للتَّدليلِ على فقرِ الأدباءِ والمفكِّرينَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، حتّى إنَّ القدماءَ كانُوا يَسِمُونَ مَن يعملُ في الأدبِ بالفقرِ، فيقولُون: افتقَرَ الرَّجلُ!

وهَا أنا ذَا أعرِضُ لبعضِ الأقوالِ والأمثالِ والحِكمِ العربيَّةِ والعالميَّةِ الّتي تُضيءُ ظلامَ الفقرِ وترفعُ البراقِعَ والسُّدولَ عن دياجيرِه المدْلهِمَّةِ بمأساةِ الإنسانيَّةِ.. لعلَّ القارئَ يَستنتجُ ببصيرتِه حقائقَ تلكَ المأساةِ وملامحَها الّتي تتَوارى في دياجيرِ الحياةِ، ولعلَّ أحاسيسَه تستَفِيقُ من سُباتِ المثاليَّاتِ الخادِعةِ والأفكارِ الظَّلاميَّةِ الّتي هبطَتْ إليْنا من أساطيرِ التَّاريخِ، وكبَّلتْ أفهامَنا، وجعلَتْنا كأوراقِ الخريفِ تتقاذفُها ريحٌ مِن هُنا، وعاصفةٌ من هناكَ.. وتَدوسُها أقدامٌ من هُنا، وتتناثرُها أيادٍ من هُناكَ!

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات