الشّرفُ والعارُ

قبل الولوجِ إلى مَتنِ المقالة، لا بدّ من تسليطِ الضّوء على معاني الشّرفِ ومرادفاتِها، وما يناقضُها من العار ومرادفاتِه اللُّغويّةِ الّتي تصبُّ في جواهرِ المعاني الصّريحةِ والضّمنيّة لهاتينِ الكلِمتين.

فمِن مرادفاتِ كلمةِ الشّرَف: الرِّفْعَةُ والسُّؤْدَد والعِزّ والعِزَّةُ والمَجْد والجَاهُ والحَسَبُ والسَّنَاء والسُؤْدَدُ والسُمُوّ والسِّيادَة والشُمُوخُ والعَظَمَةُ والعَلاء والعُلُوّ والعِرْضُ والفَخَامَةُ والكَرَم والكَعْبُ والمَجْد والمَكَانَةُ والنَّزَاهَة والوَجاهَةُ وَالجَاهَة..

ومن أضدادِ كلمة الشّرَف: الوَضاعَةُ والذُّلّ والهَوانُ والمَهانَة والعَارُ والدَّناءَة والإذْعانُ والاتّضاعُ والانحطاطُ والاستكانَة والامتهانُ والتَّذَلُّلُ والحقارَة والخَساسةُ والخُضُوع والخِسَّة والدّناءَةُ والذُلّ والسّفولُ والشّنارُ والصَّغارُ والعار والوضاعَةُ والهَوان..

والآنَ أستطيعُ الولوجَ إلى فلسفة هذا الثُّنائيّ المتصارعِ بين الشّرفِ والوضاعة من خلال قراءةٍ متأنيَّة فيما قالَه المفكّرون والأدباءُ نثراً وشعراً، لأستنضحَ ذلك البعدَ الفكريَّ والفلسفيَّ الّذي تصوغُ معانيَه رؤيةٌ عميقة للحياة، وسبرٌ دقيقٌ لأعماقِ النّفسِ البشريّة.

وها أنا أستعرضُ الشَّطرَ الأوّل من تلك الرّؤى الفكريّةِ في ميدان النَّثرِ قولاً وحكمة ومثلاً، وهي بحرٌ يموجُ بدررِه الّتي لا يُحصيها باحثٌ فكريٌّ، ولا يحيطُ بها جهبذٌ أدبيّ؛ لأنّها لآلئُ تحضنُها أعماقٌ سحيقة في بطونِ بحار كتبِ الفكر والأدب، لكنّني بجهدي المتواضعِ القائم على الانتقاءِ الرّفيعِ أقتطفُ الأجملَ والأنصع والأقربَ إلى الذّوق والواقعِ بعيداً عن رفاهيةِ التّصنُّع والزّخرفةِ الخاوية من كلِّ ذوقٍ وأدب وفكر.

فللشّرفِ مكانةُ النّجومِ في السّماء مجداً وسؤدداً، وللشّرف قيمةُ الماسِ بين معادنِ الأرض، فهو من أشرفِ الفضائلِ وأنبلِها وأغلاهَا تتَباهى بها الفضيلةُ في إصبعِها، كما تتَباهى أصابعُ العروسينِ بخاتَم الرّباطِ الزّوجيّ المقدَّس، يقول فولتير: “الشّرفُ هو الماسُ الّذي تضعُه الفضيلةُ في إصبعِها”.

ومن أعظمِ مراتبِ الشّرف تلكَ الرّايةُ الخفّاقةُ في سماءِ العلمِ والمعرفة، وذلكَ الوسامُ الّذي يتدلّى على أعناقِ العلماء، وذاك التَّاجُ الّذي يُتوَّجُ به العلماءُ ملوكاً، وإن كان ثمّةَ ما يعتزُّ به الإنسانُ من حسَبٍ، فذاك هو حسَبُ التّواضع، وإن كان ثمّةَ ما يشرِّفُ الإنسانَ مجداً وكرامةً وسؤدداً، فذاك هو شرفُ العلمِ وناصيةُ الفضائل، كما في المثلِ العربيّ: “لا حسبَ كالتّواضعِ ولا شرفَ كالعلم”.

وتتجلّى قيمةُ المرءِ الحقيقيّةُ في عقلِه، ولا شرفَ للإنسان إلّا بما يمتلكُ من صلاحِ هذا العقلِ ورشدِه، فهو واسطةُ العقدِ بين جميعِ حبّاتِ لآلئ الشّرف، وكذلك فلا غنىً للمرءِ إلّا بغِنى النّفسِ، فكلُّ غنىً دون غِنى النّفسِ سرابٌ ينخدعُ به البصرُ، وتَعمى عنه البصيرةُ، ولذلك قالتِ العربُ: “إنّما المرءُ بأصغريه: قلبِه ولسانِه”. فالقلبُ جوهرُ حقيقةِ الإنسان، واللِّسانُ مرآةُ جمالِ العقلِ والفؤاد، وأنصعُ قولٍ يلخّص ما ذهبْنا إليه ذلكَ القولُ المأثور: “لا شرفَ إلّا شرفُ العقلِ ولا غنىً إلّا غِنى النّفس”.

وللشّرفِ مقاماتٌ وأقداس، ولعلّ أجلَّ شرفٍ يتحلّى به الإنسانُ المؤمن برسالاتِ السَّماء هو شرفُ الدّفاعِ عن عقيدتِه السَّليمةِ الّتي تحقّقُ له وجودَه وذاتَه وحرّيّتَه وكرامتَه وخلوده الرّوحيَّ في نعيم الخالقِ الأبديّ، من ذلك قولُ المفكّر نجيب الكيلاني: “تعلَّمتُ من بين سطورِ القرآن أنْ أعيشَ حرّاً، وأن أموتَ مكافحاً عن شرفِ العقيدة”.

ومن تلك المقاماتِ والأقداس الّتي يتربّعُ عرشَها الشّرفُ نصرةُ الحقِّ والدّفاعُ عن المظلومين، والوقوفُ في وجه الباطلِ والظّلم، وإشهارُ سيفِ الحقِّ والعدل في وجهِ الطّغاةِ والمستبدّين، ونصرةُ المستَضعَفين، من ذلك قولُ الشّيخِ الرّئيس ابنِ سينا: “نصرةُ الحقِّ شرفٌ، ونصرةُ الباطل سرفٌ”. ومنه قولُ أبي ذرّ الغِفاريّ رضي الله عنه: عجِبتُ لمن لا يجدُ قوتَ يومه، كيف لا يخرجُ على النّاسِ شاهراً سيفَه؟”.

ولكنَّ الحقيقةَ المرّةَ الّتي عانتْ منها الشُّعوبُ الثّائرةُ على الظُّلم والطُّغيانِ والاستغلال والاستعبادِ أنّ الّذين يصنعُون الثّورةَ ويحملُون مشاعلَها هم الشُّرفاءُ الّذين ضحّوا بأنفسِهم وبكلِّ ما يملكُون، لكنَّ الّذين يقطفُون ثمارَها وينعمُون بخيراتِها هم الأوغادُ والانتهازيّون والسّاقطون، والشَّواهد أكثرُ من أن تُعدَّ أو تُحْصى، من ذلك قولُ المناضلِ الكوبيّ الكبير تشي جيفارا: “الثّورةُ يصنعُها الشّرفاءُ، ويرِثها ويستغلُّها الأوغادُ”. وفي شرقِنا العربيِّ الصّورةُ أشدُّ وأمرُّ، فالشّرفاءُ الّذين قادُوا حركاتِ التّحرُّر الثّوريّ والفكريِّ حصدَت أعناقَهم أعوادُ المشانقِ، وطوَت مسيرةَ شرفِهم زنزاناتُ الرّدى، أمّا الخونةُ والأوغادُ فتربَّعوا العرشَ الأبديَّ أبطالاً تاريخيّين في المقاومةِ والتّصدّي للعدوّ، حتّى باتوا بمراتبِ الآلهةِ لا ينازعُهم منازعٌ!

ومن هنا يجبُ على البشريّة أن تجعلَ من الشّرفِ الحقيقيّ مهمازاً ينهضُ بالفضائلِ، ويرتقي بها، لا أنْ يتحوّلَ ذلك الشّرفُ إلى رِكابٍ للتَّفاخرِ والكبرياء، فما نفعُ أمّةٍ تتباهى بمكانتِها وعظمتِها، وليس في أخلاقِها مهمازٌ يحرّكُ في ضميرِها فضيلةً من فضائلِ الحقِّ والجمالِ والمثال، وما فائدةُ عالمٍ ينعمُ بكلِّ أنواع الرّفاهيةِ والتّمدّنِ المصْطنَع، وليس في قلبِه ذرّةٌ من شرفِ الإيمان باللهِ وبالإنسان، وليس في ضميرِه قيمةٌ من قيم الحيوانِ الّذي يعيش في عدالةٍ وأمان وسلامٍ ووئام؟! وقد عبّر عن ذلك المعماريُّ الفرنسيُّ شارل كارنييه: “ينبغي أن يكونَ الشّرفُ مهمازاً للفضيلةِ لا رِكاباً للكِبرياء”.

وشتّانَ بين الشّرفِ والوضَاعة، وشتّان ما بين الثّرى والثُّريّا؛ لأنّ الشّرفَ تواضعٌ، والوضاعةَ تكبُّرٌ وعجرفةٌ مريضة، فالشّريفُ العظيم يصنعُ مجدَ أمّتِه بإنجازاتِه الّتي تتحدّثُ عنه على مرّ الزّمان، والوضيعُ السّاقطُ تنكشفُ عورتُه حينما يتساقطُ عرشُه المزيَّف أمامَ بركانِ الحقيقة، فيذوبُ الثّلجُ ويظهرُ المرْج، كما تُنبئُنا الحكمةُ العربيّة: “الشّريفُ إذا ارتفعَ تواضعَ، والوضيعُ إذا ارتفعَ تكبّر”. والشّرفُ لا يُكتَسبُ، ولا بدَّ من المحافظةِ عليه، إن كان في الحقيقةِ ثمَّةَ شرفٌ، وإنّما الشّرفُ الحقيقيّ يصنعُه الرّجالُ، ولا يمكنُ أن يكتسِبَه الصِّبيانُ بالوراثة، على نحوِ ما نراهُ في قول آرثر شوبنهاور: “الشّرفُ يجبُ ألّا يُكتَسبَ، بل يجبُ فقط ألّا يُفقدَ”.

فالشّرفُ إذن حلْيةُ الفضائلِ، لا يتحلّى بها إلّا الرّجالُ الخيِّرون في كلِّ زمانٍ ومكان، فهو رأسُ الفضائلِ وزينةُ الشّمائل، وعلينا ألّا نخجلَ بامتلاكِها، ولو امتلأتِ الدّنيا بالمفسِدين والأشرارِ والسّاقطينَ والأوغادِ، كما يقولُ بن جونسون: “لا تخجلْ من فضائلِك، فالشّرفُ حليةٌ يلبسُها الرّجلُ الخيِّر في كلِّ الأوقات”. أمّا الّذين يمتلكُون متعَ الحياةِ وملذَّاتِها وقيادَها، وليس في وجدانِهم ذرّةٌ من الشّرف، فهلِّلْ لزوالِهم وكبّرْ لموتِهم وهم أحياءُ، فمَن يفقدُ فضيلةَ الشّرف، لم يبقَ عندهُ شيءٌ ليفقِدَه، كما في قولِ الكاتبِ والفيلسوف اللّاتيني السّوريّ بوبيلوس سيروس: “مَن فقدَ الشّرفَ لم يبقَ لديه ما يفقدُه”. ومن يسلبُ شرفَ الآخرين، عليه أنْ يتذكّرَ أنّه فقدَ شرفَه، كما في قولِ سيروس كذلك: “عندما نسلُبُ الآخرينَ شرفَهم نفقدُ شرفَنا”.

ومن هنا نستطيعُ أن نقولَ لمن يتفاخرُون بشهاداتٍ عُليا مزوَّرةٍ أو مشتراةٍ عبرَ وسطاءَ أو عبر وسائلِ النّصبِ والاحتيالِ عن بعدٍ من خلال الشَّبكةِ العالميّة الّتي باتت وبالاً عظيماً على الأممِ الّتي تقتاتُ على قشورِ الحضارة، بالرّغم من عظمةِ ثمارِها للإنسانيّة الحقيقيّةِ الّتي تنقِّبُ عن جواهرِ المعرفةِ والحضارةِ والرّقيّ والتّمدّن في بحارِ صفحاتِها، فالفشلُ بشرفٍ خيرٌ من النّجاح بالغشِّ والخداع، كما في قولِ سوفوكليس: “أفضِّلُ أن أفشلَ بشرفٍ على أن أنجحَ عن طريق الغشّ”.

وفاقدُ الشّرفِ ميّتٌ ميتةً أسوأَ من الميتةِ الحقيقيّة، كما يقولُ المثلُ الإسبانيّ: “فاقدُ الشّرفِ أسوأُ من الرّجلِ الميّت”. وخسارةُ المالِ ليستْ بخسارةٍ أمامَ خسارةِ الشّرف، وأصعبُ منهما خسارةُ الجرأةِ في قولِ الحقّ وإظهارِ الحقيقة، كما في المثلِ الألمانيّ: “خسارةُ المال خسارةٌ طفيفة، وخسارةُ الشّرف خسارةٌ عظيمةٌ، أمّا خسارةُ الجرأةِ فلا تُعوَّضُ”.

بهذا أكونُ قد غمرتُ ذاتي بفيضِ عبيرِ الأقوالِ والحكم والأمثالِ، فرشفْتُ منها رحيقَها وصنعتُ منها شهداً تتغذَّى عليه ملكاتُ العقولِ، وتصحُو على عبقِ أريجِه النُّفوسُ الهُيَّم في المثالِ والجمال، في الفضائلِ والشّمائل.

والآن أَرُودُ الشّطرَ الآخر من المقالِ في ميدانِ الشّعر؛ لأقفَ على أجملِ ما فاضَت به قرائحُ الشُّعراء في بيانِ قيمة الشّرفِ في الحياةِ وأهمّيّتِه في الرّفعةِ والمجد والسُّؤدد، فها هو الإمامُ الشّافعيُّ -رحمهُ الله- يرى في السُّكوتِ فضيلةً وفي الجوابِ مفتاحاً لشرِّ الخُصوم:

قالوا سَكَتَّ وَقَد خُوصِمتَ قُلتُ لَهُم

إِنَّ الجَـــــــــــــوابَ لِبـــــابِ الشَــــــــــــــــــــــــــرِّ مِفـــتاحُ

ويرى الشّافعيُّ أنّ الصّمتَ أمام الجاهلِ أو الأحمقِ شرفٌ وصونٌ للعِرض، ويتجلّى هذا الفرقُ في صورةٍ حقيقيّة تجسّدُها صورةُ الأُسْدِ الصّامتة، وتقابلُها صورةُ الكلبِ الصّاغر المطرودِ الّذي يملأُ الدّنيا نباحاً:

والصمَّتُ عَن جاهِلٍ أَو أَحمَقٍ شَرَفٌ

وَفيهِ أَيضاً لِصَــــــــــــونِ العِـــــرضِ إِصلاحُ

أَما تَــــرى الأُســــــــدَ تُخْشى وَهِيَ صـــــامِتَةٌ

وَالكَلــــــــــبُ يُخْسى لَعَمْري وَهـــــــــــوَ نَبّـــــــــاحُ

وعِرضُ المرءِ هو شرفُه العظيمُ الّذي تهونُ في سبيلِ حمايتِه وصونِه كلُّ أموالِ الدّنيا وما يملكُه الإنسانُ، فقد يخسرُ المرءُ أموالَه، فيعوّضُها بشتّى الطّرقِ والوسائل، أمّا العِرضُ أو الشّرفُ، فليس من سبيلٍ لتعويضِه إن أصابَه دنسُ المدنّسين، كما يقولُ المتلمِّس:

أصــــــــونُ عِرْضي بمـــــــــالي لا أدنِّسُــــه

لا باركَ اللهُ بعــــــدَ العــِـــرضِ بالمـــــــالِ

أحتالُ للمــــــــالِ إنْ أودَى فأجمــعُهُ

ولستُ للعِرضِ إنْ أودَى بمُحتالِ

أمّا أبو الطّيّبِ المتنبّي فلا يرى من سبيلٍ لصونِ الشَّرفِ الرّفيعِ إلّا ببذلِ الدّم، كما في قولِه:

لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى

حَتّى يُـــــــــــراقَ عَلى جَوانِبِــــــــــــــــــــهِ الـــــدَّمُ

وقد أثارَ هذا البيتُ حفيظةَ النّاقدِ والأديبِ الكبير ميخائيل نعيمة، فشنَّ هجوماً عنيفاً على المتنبّي في هذا البيتِ متسائلاً: فهل ثمّةَ شرفٌ رفيعٌ وآخر وضيعٌ وثالثٌ بينَ بينَ، ثمّ مَن يُريقُ الدّمَ ومَن سيُراقُ دمُه وكيفَ وأينَ…؟! وفيضٌ من التّساؤلاتِ الاستنكاريّةِ يُبيّنُ عورةَ هذا القولِ وإسفافَه، كما ينبِّهُ نعيمةُ إلى الكثيرِ من الأقوالِ السّائرةِ على ألسنةِ النّاسِ؛ وكأنّها حكمٌ لا تقبلُ الشّكَّ أو التّمحيصَ، ولكنّها تبدُو مثلَ حبّاتِ الزّوانِ التّافهةِ حينَما تُغربَلُ بغربالِ الفكرِ النّاقدِ الحصيفِ!

لكنّ حكمَ المتنبّي مهْما غُربلَتْ بغرابيلِ النُّقّاد يظلُّ الكثيرُ منها كحبّاتِ الحِنطةِ الممتلئةِ خيراً تتوقُ العينُ للنّظر إليها، وتهفُو النّفوسُ إلى ذرّاتِ دقيقِها، كما في قولِه مبيِّناً حقيقةَ الشّرف الّذي لا يتجلّى في جمالِ الوجه وحُسنِه، وإنّما شرفُ المرءِ في أفعالِه وأخلاقِه الخيّرة، كما أنّ الإنسانَ لا وطنَ له غيرُ ما يوافقُ روحَه وذاتَه، ولا أهلَ له غيرُ ما يصادقُه من الأصدقاءِ:

وَما الحُسنُ في وَجهِ الفَتى شَرَفاً لَهُ

إِذا لَـــــــــم يَكُــن في فِعــــــــــــــــلِهِ وَالخَـــــــــلائِقِ

وَمـــــا بَلَدُ الإِنســــــــــانِ غَــــــــــــيرُ المُوافِـــــــــقِ

وَلا أَهـــــــــــلُهُ الأَدنَـــــــــونَ غَــيرُ الأَصــــــــادِقِ

وتبرزُ قيمةُ حكمِ المتنبّي في أنصعِ صورِها حينَما يجعلُ الهدفَ النَّبيلَ شرفاً عظيماً يجبُ أن نسعَى لتحقيقِه، وألّا نقنعَ في سبيلِه بما دونَ النُّجومِ، دلالةً على التّمسُّك بالهدفِ وقطفِ ثمارِه العظيمةِ، ولا بأسَ في أن نموتَ في سبيلِ ذلك الهدفِ لنيلِ شرفِ المجد، ويبرزُ إبداعُ المتنبّي في تصوير طعمِ الموتِ الّذي يتساوى عندَ الإنسانِ في حالَتي صِغرِ الهدفِ أو عِظمِه:

إِذا غـــامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ

فَلا تَقنَع بِمــــا دونَ النُجـــومِ

فَطَعمُ المَوتِ في أَمـرٍ صَغيرٍ

كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ

ويرى أبو الحسنِ الجُرجاني أنّ الابتعادَ عن النّاسِ قد يصونُك عن الذّلّ ويبعدُ عنكَ المهانة؛ لأنّ مقاربةَ النّاس أحياناً وإعطاءَهم قدْراً فوق قدْرِهم الحقيقيِّ قد تدفعُهم إلى الاستهانةِ بك والإقلالِ من قدرِك الحقيقيّ، فلا بدّ من حفظِ شرفِك وقيمتِك بالبعدِ عن النّاس وتحقيقِ عزّة النّفسِ بالسّعي وراءَ نيلِ العلمِ والمعرفة:

يقــــولُـــــون لي فــــــــــــيكَ انقِــــــــــباضٌ وإنَّما

رأَوا رجــــــــــلاً عن موقِفِ الذُّلِّ أحْجَما

أرى النّاسَ مَن داناهُمُ هانَ عندَهُم

ومَـــــــن أكرَمَـــــــــــتْهُ عــــــــــــــزّةُ النّفسِ أُكْرِما

ولم أقْضِ حَقَّ العــــــــــلمِ إن كانَ كُلَّمَا

بـــــــــــــــــدَا طَمَــــــــــــــــــــــعٌ صَيَّرتُـــــــــــــــــــــهُ لي سُـــــــــــلَّمَا

وفي الختامِ أقولُ: إنّ الكلامَ عن الشّرفِ والعار والصّراعِ بينهُما شاسعٌ قد يحتاجُ إلى عدّةِ كتبٍ للإحاطةِ بجوانبِهما أو أغراضِهما، لكنّني أكتَفي بما أفضتُ به من تذوُّقٍ وتحليلٍ لنماذجَ أدبيّةٍ نثراً وشعراً، وأرجو أن يكونَ قلمي المتواضعُ نبراساً يشقُّ عصا الجهلِ فيوقدُ شمعةً في النّفوسِ بعد أنْ عمَّ ظلامُ العصرِ من ضلالٍ وإضْلال.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات