استغاثاتٌ -2

كوكبُ الأرضِ:

إلهي وخالقِي العظيمُ! لقد خلقْتَني بين بدائعِ خلقِك، وجعلتَني كُرةً تسبحُ في الفضاءِ، ومنحتَني كلَّ مقوِّماتِ الحياةِ، وحبَوتَني برعايتِك أنفاسَ القوّةِ والبقاءِ، وأبدعْتَ فيَّ من عناصرِ الحياةِ والجمالِ ما تفتقِرُ إليهِ الكواكبُ الأُخرى في فضائِكَ اللّامُتناهِي.

وأنتَ أعلمُ بحالي، فلا تكِلْني إلى بشرِك الذينَ كلَّفتَهم بعِمارتي وبناءِ حضارتي، والمحافظةِ على بحارِي وأنهارِي وسهُولي وجبالي ومائِي وهوائِي ودوائِي، ونظافتي ومُعافاتي من كلِّ أنواعِ تلوُّثي وتدمِيري.

إنّكَ يا إلهِي! أخضعْتَ كلَّ ما في الكونِ من كواكبَ ونجومٍ ومجرّاتٍ لطَوعِ إرادتِكَ، فخلقْتَها في نظامٍ كونيٍّ دقيقٍ، منظَّمٍ وعادلٍ، فلا ظلْمَ ولا طغيانَ، لا كبيرَ ولا حقيرَ، الكلُّ يخضعُ لأوامرِ التَّنظيمِ والتَّنسيقِ والتَّدبيرِ التي تَفيضُ من عظيمِ إرادتِكَ ومشيئتِكَ أيُّها العظيمُ القديرُ!

الكونُ بأسرِه تحتَ إمرتِكَ! فلماذا تركتَ الحبلَ-على غاربِه -للمُجرمِين من خلقِكَ يعبثُونَ بي، كما يشاؤُون؟

فقدْ دمَّرُوا بحارِي وأنهارِي، وابتلعُوا أزهارِي وأثمارِي وأشجارِي، ولوَّثُوا هوائِي ومائِي وأمطارِي، وطاردُوا فراشَاتي وأطيارِي، ووأَدُوا أحبَابي وسمَّارِي، وألبسُوني أرْديةَ الدِّماءِ والدُّخانِ في حروبِ الأوباشِ والحمْقَى وأساطينِ التُّجّارِ، واستنْضحُوا كلَّ ما فيَّ من ثرواتٍ وخيراتٍ، وأترعُوا بها بطونَهم الّتي لا تعرفُ حدَّ الامتلاءِ.

إلهِي وخالقِي! لقدْ قتلُوا فقراءَك وأحرقُوهم بجحيمِ الفقرِ والمجاعةِ، ودفنُوا الملايينَ من خلقِكَ وأبادُوهم بأسلحةِ إجرامِهم، إلهِي وأنتَ جاهِي: رد َّكيدَ الكائدينَ، وجشعَ الجشِعينَ، وطمعَ الطّامعينَ، وحقدَ الحاقدينَ، وجُرمَ المجرمينَ، وطغيانَ الطَّاغينَ، واستبدادَ المستبدِّينَ، وسرقةَ السَّارقينَ، ونهبَ النَّاهبينَ، وجبروتَ المتجبِّرينَ، وغرورَ المغرورينَ، وعصيانَ العاصينَ، وتألُّهَ المتألِّهينَ، وتسلُّط المتسلِّطينَ!

القلَمُ المِسكينُ:

ظواهِرُ غريبةٌ باتتْ عاداتٍ مألوفةً عندَ طلَّابِنا كبعضِ عاداتِ العربِ المستحْدثةِ، منْها: عدمُ الالتزامِ بالمواعيدِ، وكثرةُ الكذبِ والمحاباةِ، والنِّفاقُ السِّياسيُّ والاجتماعيُّ، والمداراةُ والمداورةُ، والتّناقضُ بين الظّاهرِ والباطنِ، وبين البادِي والخافي، وبينَ الكلمةِ وشقيقتِها في الجملةِ الواحدةِ، والشَّكوى والأنينُ على مدَى الأيّامِ والسِّنينَ، والتَّبرُّمُ والضَّجرُ، والتّواكلُ دونَ العملِ والتَّوكُّلِ، وسرعةُ انتشارِ الخرافةِ والمعتقداتِ الهزيلةِ، وتحميلُ الظُّروفِ ما لا طاقةَ لها من أسبابِ الخيبةِ والتّخلُّفُ، والانهزامُ والتَّقهْقرُ، والانحطاطُ والتَّشرذمُ والضَّياعُ.

أمَّتِي، هــــــــلْ لكِ بينَ الأُمـــــــــــــــمِ       مِنْبـــــــــــرٌ للسـَّــــــــيفِ أو للقـــــــــلَمِ؟

أتلقَّـــــــاكِ وطَــــــــــــــــرْفي مُطـْـــــــــــرِقٌ       خَجـَلاً مــــــــــــن أمسِـــــكِ المنْصَــرمِ

ويكادُ الدَّمْـــــــــــعُ يَهمِي عابثــــــــــاً         ببقــَـــــــايــَا كبــــــــــــــــــريـاءِ الألــــــــــــــمِ!

أمَّتي كـمْ غُصَّــــــــــــــةٍ دامِيــَـــــــــــــــةٍ         خنقَتْ نجْــــــوَى عُـــــلاكِ في فمِي

أيُّ جُـــــــرحٍ في إبـــــــــــــائِي راعِـــــــفٌ        فاتـَـــــــــــــــــهُ الآسِـي ولــــــــمْ يلتئِـــــمِ

من هذهِ الظّواهرِ اليوميّةِ المألوفةِ في تاريخِنا الحديثِ: نسيانُ القلمِ، أو الكتابِ، أو الحقيبةِ، أو اللِّباسِ المقرّرِ، أو العقلِ والوعيِ والإدراكِ والإحساسِ، فلا نجدُ أمامَنا إلّا أكداساً من الأجسادِ الآدميّةِ التي تَبني أمَّتُنا العربيّةُ كلَّ آمالِها وطموحاتِها عليْها، ولا أجدُني إلّا منادياً ومُستغِيثاً أردِّدُ ما قالَه شاعرُنا الكبيرُ عمرُ أبو ريشةَ:

وهنا دخلْتُ إلى أعماقِ القلمِ والكتابِ والحقيبةِ واللِّباسِ أستنضِحُ مشاعرَها ورؤاهَا، باعتبارِها محسوساتٍ ندركُها بحواسِّنا، في حينِ فشلْتُ في الدُّخولِ إلى العقلِ والوعِي والإدراكِ والإحساسِ، باعتبارِها قوىً متمرِّدةً على أجسادِها وفي عالمٍ آخرَ لا يُدركُها إلا مَن خلقَها.

وفي لحظةٍ من لحظاتِ اليأسِ سمعْتُ منادياً يستغيثُ: أرجوكَ يا طالبي اشتريني، فقدْ مللْتُ الإقامةَ في الدّكاكينِ، لستُ عروساً مهرُها بالملايينِ، أنا قطعةٌ من الخشبِ أو البلاستيكِ، محشوَّةٌ برصاصٍ أو بحبرٍ شديدِ التّقنينِ، أنا لستُ لفافةَ طعامٍ تأكلُ شطرَها ثمّ ترمِيني، أنا لستُ حبّاً مــن دوارِ الشّمسِ تكسـرُني فتؤذِيني، أنا لستُ خادمةً تبيعُني وتشتريْني، أنا لستُ لباناً تعلكُني بين أسنانِكَ كالتِّنِّينِ، أنا رمزُ العلومِ تخطُّ بي أناملُ العلماءِ في كلِّ فلسفةٍ ودينٍ، أنا صديقُ المبدعينَ، أخطُّ عصائرَ عبقرياتِهم حروفاً من لُجينٍ.. أرجوكَ يا سيِّدي الطّالبُ احوِني! أشفِقْ عليَّ، وتصدَّقْ ببعضِ أموالِك واشترِني، وخلِّص جمُودي على الرُّفوفِ من الشَّكوى والأنينِ، أرجوكَ يا سيِّدي لا تبخلْ عليَّ بدرهمٍ أو درهمينِ!

كثُرتِ الاستغاثاتُ، وتعدَّدتِ الآلامُ، وتنوَّعتِ الشَّكوى، والنّتيجةُ واحدةٌ: هي أنَّ البشرَ مصدرُ الشّقاءِ والألمِ، وهم وراءَ كلِّ استغاثـةٍ وشكْوى ممّا اقترفــُوه بحــقِّ البشرِ أنفسِهم، وبحقِّ الطَّبيعةِ بما فيها من نباتٍ وحيوانٍ وجمادٍ. وليس ثمّةَ مَن يسمعُ أو يُغيثُ الملهوفَ، فالآذانُ صمٌّ، والألسنةُ بُكْمٌ، والعيونُ عُميٌ، والضّمائرُ سكْرى، والمشاعرُ قتْلَى، والأفكارُ ضحلةٌ بلهاءُ، والإنسانيّةُ بأسرِها صرْعَى. ويبقَى وجهُ ربِّكَ ذي الجلالِ والإكرامِ!

أيُّها المستغيثُون: أيُّها الشُّرفاءُ والأبطالُ.. أيَّتُها النِّساءُ والأطفالُ.. أيُّها الشُّيوخُ والرِّجالُ: إنَّ في كلِّ استغاثةٍ من آلامِ أجسادِكم وأرواحِكُم قنبلة ًوبركاناً سيُحرقُ عدوَّكم، ويُحيلُ لذَّتهَم بالقتلِ والدّمارِ إلى ألمٍ وصُراخٍ أعظمَ بكثيرٍ من ألمِكُم وصراخِكُم!

التَّاريخُ مليءٌ بالعبرِ والدُّروسِ، فكلُّ ظالمٍ نهايتُه الفناءُ، وكلُّ طاغيةٍ ختامُه بؤسٌ وشقاءٌ، وكلُّ متجبِّر ٍمتكبِّر ٍمصيرُه إلى ذلٍّ وخنوعٍ وموتٍ وهباءٍ! كمْ من فرعونٍ في الأرضِ طغَى وبغَى، وبنى قصوراً من جماجمِ الأبرياءِ؟! لكنَّ ظلمَه أغرقَه في بحرٍ من الدّماءِ، فماتَ موتَ الجبناءِ والحقراءِ!

وكمْ من امبراطوريّةٍ استعماريّةٍ ضربَتْ بأنفِها أجوازَ السَّماءِ، وناطحَتْ بعنجهِيَّتِها غمامَ الفضاءِ، واشرأبَّتْ بغطْرستِها، لتُطفِئَ دفءَ الشَّمسِ وحنانَ ضوءِ القمرِ، لكنَّها أُحرِقَت في جحيمِ نازيَّتِها، ودُمِّرتْ في إعصارِ طُغيانِها، وزُلزِلَت في وطيسِ غرورِها، وسُحِقَت تحتَ أقدامِ عنجهيَّتِها؟!

أيّتُها الحيواناتُ المفترِسةُ والأليفةُ.. أيَّتُها الحشراتُ التي تدبُّ في الأرضِ: لا تتذمَّري من ظلمِ البشرِ، فالبشرُ مفترِسُـون ظالمِونَ لأنفسِهم أكثرَ من ظلمِهم لكُم، وإذا كانَ بينَكُم جَوْرٌ من القويِّ على الضَّعيفِ أو المفترسِ على الأليفِ، فهو ظلمٌ من أجلِ البقاءِ، وصراعٌ من أجلِ لقمةِ العيشِ والاستمرارِ! فلم نرَ يوماً حيواناً مفترساً يقتلُ فريستَه تمتُّعاً ولذَّةً بالقتلِ، وإنّما من أجلِ إشباعِ أحشائِه المتضوِّرةِ جوعاً! ولم نرَ وحشاً سابِغاً يعتدِي على زملائِه وإخوانِه من الوحوشِ، حبَّاً بالعدوانِ أو الغطرسةِ، فاسمعِي ماذا يقولُ الإمامُ الشَّافعيُّ- رحمَه اللهُ -عن البشرِ وعنكُم:

نَعِيـــــبُ زمانـَنا والعــــــــيـبُ فيــــــنـا       ومــا لزمـــــــانِنا عيْــــــــبٌ ســــــــــــــــوانَا

ونهجـو ذا الزَّمــــــــــانَ بغـــــيرِ ذنْبٍ       ولو نطــــــــقَ الزَّمـــــــــانُ لنــــــا هجَانَا

وليسَ الذِّئبُ يأكلُ لحمَ ذئــــبٍ       ويأكلُ بعضُــــنا بعضـــــاً عِيَـــــــــــــــــــانا

وأنتِ أيَّتُها الحيواناتُ الأليفةُ: تحمَّلِي ظلمَ الحيواناتِ المفترسةِ؛ لأنَّها تنظرُ إليـكِ نظرتهَا إلى الضَّحيَّةِ، فطبيعةُ الحياةِ فرضَتْ عليكُم مبـدأَ: (القـــويُّ يأكلُ الضَّعيفَ)، وأنا لا أدعُوكِ إلى الاستِسْلامِ والرُّكونِ إلى هذا المبدأِ، بلْ ثُوري وتمرَّدِي وقاتِلي حتّى تحمِي نفسَكِ من الوحوشِ المفترسةِ.

أيُّ مبْدأ، بلْ أيُّ قانونٍ كونيٍّ يفرِّقُ بين روحٍ وروحٍ، أو بين جسدٍ وآخرَ؟ أيُّ دُستورٍ سماويٍّ يَرضى بأنْ يكونَ هناكَ: قاتلُ ومقتولٌ، أو آكلٌ ومأكولٌ؟!

إنَّني أرفضُ الظُّلمَ والاضْطهادَ والعبثَ بالأرواحِ والأجسادِ تحت أيِّ شعارٍ أو مسمَّى: (طبيعةُ الحياةِ.. سُنَّةُ الكونِ..).

ولكنْ انظُروا إلينا -نحنُ البشرَ- وتأمَّلُوا علاقاتِنا، ستضحكُون وتسخَرُون، وتشكرُون ربَّكم على نعمِكم!

فعندَنا وحوشٌ آدميَّةٌ، لا تعرفُ من الرَّحمةِ معنىً من معانِيها، فكمْ حصدَت هذهِ الوحوشُ من الأرواحِ البشريَّةِ الآمنةِ؟! وكمْ نهبَت من الثَّرواتِ والخيراتِ؟! وكمْ ارتكبَت من الآثامِ والمعاصِي والجرائمِ؟! وكلُّ همِّها إشباعُ نهمِها وشهواتِها وملذَّاتِها، وليسَ ذلكَ من أجلِ البقاءِ؟!

لم نرَ يوماً أنَّ مجموعةً من الوحوشِ طغَتْ وبغتْ وأحرقَتِ اليابسَ والأخضرَ، وقتلتِ الشُّيوخَ والصِّغارَ والإناثَ في عالمِكم الحيوانيِّ، واحتلَّتْ أراضِي الحيواناتِ الأُخرى واستعمرَتْها!

لكنَّكم ترونَ بأمِّ أعينِكم كيفَ تتهافتُ وحوشُ البشرِ إلى احتـلالِ أراضٍ تبعدُ عنهُم آلافَ الكيلومتراتِ، ولا تتَوانى في استخدامِ شتَّى أساليبِ القتلِ والتَّدميرِ، من طائراتٍ وصواريخَ ودبَّاباتٍ وقنابلَ وغازاتٍ وأسلحةٍ محرَّمةٍ في مجتمعِ البشـرِ الوحشيِّ، وتأكلُ الأخضرَ واليابسَ، وتقتلُ وتُبيدُ ملايينَ النُّفوسِ الطّاهرةِ من أطفالٍ ونساءٍ وشيوخٍ، وحتَّى الحيواناتِ والحشراتِ والجماداتِ! فهلْ فعلتُم في حقبةٍ تاريخيّةٍ من الزّمانِ، ما فعلَهُ وحوشُ البشرِ في تاريخِهم الطَّويلِ؟!

إنّكُم، أيُّها المجتمعُ الحيوانيُّ، عالمٌ ملائكيٌّ فيه من القيمِ والمبادئِ والأخلاقِ، ما ليس عندَ جميعِ شعوبِ الأرضِ قاطبةً.

فعندكم من الشّجاعةِ والإقدامِ والكرمِ والمروءةِ والوفاءِ والحميّةِ والتّضحيةِ والحياءِ، ما ليس عندَ البشرِ، إلا مَن رحمَ ربي. انظرُوا إلى العُهرِ والسُّكرِ والعربدةِ والمجونِ والخلاعةِ دون أيِّ عهدٍ أو حياءٍ، سترَون أنّكم مجتمعٌ هدايتُه من السّماءِ أمام ضلالِ البشرِ بعد آلافِ الهداياتِ!

وانظرُوا إلى علاقاتِ البشرِ بعضِهم ببعضٍ، ستجدُون أنّ العلاقةَ بين المفترِسين والضّحايا في مجتمعِكم أنبلُ بكثيرٍ من علاقاتِهم!

أمّا أنتم أيّتُها الحشراتُ: فزغردُوا وهلّلُوا وافرحُوا لما أنتم فيه من بركاتِ السّماءِ، ولا تحزنُوا لما يصيبُكم من ظلمِ البشرِ، وحسْبُكم فخراً وشمماً أنّكم مجتمعٌ فيه من العدلِ والمساواةِ والمحبّةِ والإخاءِ والتّعاونِ، ما ليس عندَ أهلِ الأرضِ بأسرِها، وحسبُكم فخراً وشرفاً أنّ النّملَ واحدٌ من مجتمعاتِكم، يُضرب به المثلُ في التّعاونِ والإخاءِ، وتحدّي الصّعابِ من أجلِ البقاءِ، واقتسامِ الطّعامِ في السَّرَّاءِ والضّرَّاءِ والنِّعمِ والنِّقمِ بكلِّ عدلٍ ومساواةٍ، دون أن يطغَى طاغٍ أو يبغيَ باغٍ أو يسطوَ ساطٍ على حصصِ الآخرين!

وكفاكُم فخراً واعتزازاً أنّ النَّحلَ مملكةٌ من ممالِكِكُم العظيمةِ التي تتمتَّع بالحرّيّةِ والدِّيمقراطيّة والحبِّ والتَّعاونِ واقتسامِ العملِ، كلٌّ في مكانِه المناسبِ دون واسطةٍ أو تزويرٍ، ودون محسوبيَّاتٍ أو مصالحَ أو أيِّ اعتباراتٍ مذهبيَّةٍ أو طائفيَّة أو قبليّةٍ أو عرقيّةٍ!

فالملكةُ، في مملكتِكم، تضعُ البيضَ بعد تلقيحِها من مجموعةٍ من الذُّكور الّتي تضحّي بحياتِها في سبيلِ سعادةِ الملكةِ، واستمرارِ نسلِها بالتّلقيحِ، والنَّحلاتُ العاملاتُ يتولّينَ حراسةَ الخليّةِ وإطعامَ اليرقاتِ والملكةِ، وجلبَ رحيقِ الأزهارِ لصنعِ العسل، ويتمُّ ذلك بكلِّ دقّةٍ ونظام، دون أن تتوانى واحـدةٌ منها أو تتقاعسَ عن العمل، ودون أن يطمعَ أحدٌ في رئاسةِ المملكةِ بالقتال أو الانقلاباتِ السّياسيّة أو العسكريّة!

وما أعظمَ هذه التّضحيةَ من هؤلاء الذّكورِ، فهم يعرفون أنَّ مهمَّتَهم ستُودي بحياتِهم، ولكنّهم يُؤثِرون على أنفسِهم ولو كان بهم خصاصةٌ!

أمّا في مجتمعاتِنا البشريّة، فالفردُ الذي يطمعُ في كرسيِّ الحكم، لا يمتنعُ عن إذابةِ منافسيهِ أو أعدائِه ولو بالأسيدِ أو السُّمومِ القاتلة أو الأسلحةِ الكيماويّة، ولو كلَّفه ذلك قتلُ نصفِ المجتمع، فالمهمُّ أن يصلَ إلى ذلك الكرسيِّ، بأيِّ ثمنٍ كان!

أمّا النّظامُ في مجتمعِكم أيُّها النَّحلُ، فأنتم في عالمِ المجرّات والكواكبِ والنّجوم؛ كلُّ فردٍ منكم يؤدّي مهمَّتَه بنظام، دون فوضى أو مشكلاتٍ أو خيانةٍ أو اغتيالٍ أو احتيالٍ! أمّا مجتمعاتُنا البشريّةُ؛ فأين منها البربريّةُ والنّازيّةُ والقبليّةُ وعصاباتُ قطّاعِ الطّرق؟

إنّها مجتمعاتُ غاباتٍ، لا صوتَ فيها للضّعيفِ أمام زمجرةِ القويِّ، ولا رأيَ للحكماءِ أمام عنجهيّةِ الطُّغاةِ والمستبدّين، ولا وزنَ للقيمِ والمبادئِ تحت نعالِ الأوباشِ والمردةِ من الأغبياءِ والمتنفّذين!

فطُوبى لمجتمعِكم أيّتُها الحيواناتُ والحشراتُ، ودامت عليكم النّعمُ، لما أنتم فيه من قيمٍ ومبادئَ ومُثلٍ، واللهُ في عونِ الحيوانِ ما كان الحيوانُ في عونِ أخيه. وتبّاً لمجتمعاتِنا البشريّة، وزالت عنّا النّعمُ، وحلّت علينا النِّقمُ، لما فينا من انهيارٍ في القيمِ والمثلِ والأخلاقِ ومن ظلمٍ وطغيانٍ وقسوةٍ، وبشّر الظّالمينَ بعذابٍ أليم، والمفسدينَ والطّغاةَ بيومٍ عظيم!

الشارقة 10/11/2011

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

لُغتُنا.. هُويّتُنا

المقدّمةُ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ الّذي نزّلَ القرآنَ العظيمَ هدىً ورحمةً للعالمينَ، وخصّهُ بلغةٍ بالمعاني تَتَعالى، وبالألفاظِ تتَباهَى، وبالبلاغةِ تتَهادَى، جلِيـلةً في قَدْرِها، عظيمةً في…

تعليقات