همومٌ بين عامينِ

في نهايةِ كلِّ عامٍ يحتفلُ العالمُ بنهايةِ عامٍ مضَى ويستَقبِلُ حولاً جديداً، وكأنَّ الكونَ كان في رحمِ الشَّقاءِ، والآنَ يَنْفُضُ عن كاهلِه غبارَ التَّعبِ والإعياءِ، ويفتحُ أجفانَه لفردوسٍ جديدٍ يُخلِّصُه من همومِه وصراعاتِه وتناقُضاتِه وجوعِه وفقْرِه وأحزانِه وآلامِه وظُلمِه وطُغيانِه ودمارِه وكلِّ عللِه وأسقامِه..

ولكنَّ مشاعرَ العالمِ بمُجتمعاتِه ودُولِه ومُؤسّساتِه وأفرادِه وطبقاتِه وأعراقِه ودياناتِه ومَذاهبِه.. ليسَتْ على سويّةٍ واحدةٍ، وإنّما هيَ في مُحيطاتٍ تَتلاطمُ أمواجُها، ويتَطايرُ رذَاذُها، وتتَصارعُ أعماقُها، وتهْتاجُ بالتّيّاراتِ العاصفةِ، ويعبَثُ بها القمرُ بينَ مدٍّ وجزْرٍ، وتحكُمُها أشعّةُ الشَّمسِ جمُوداً وجليداً وبرودةً أو غلَياناً وهَجيراً ودفْئاً..

وإليكُم خرائِطُ مشاعرِ البشريّةِ، وقدْ رسمَتْها يراعَتِي بالكلِماتِ الّتي لا تَعرِفُ البَهرجةَ أو الزّيفَ.. ولا تَنطِقُ عَن هَوى المجاملةِ والتَّصنُّعِ والمحاباةِ.. ولا تَخْشى أنْ يَغتالَها القراصِنةُ المتربِّصُون بها على حُدودِ الأحلامِ، الشّاهِرونَ سيُوفَهم على كلِّ لسانٍ.. المسلِّطُونَ أسلِحتَهم على القصَائدِ وكلِّ أنواعِ الكِتابةِ.. القابِعُونَ في ظلُماتِ اللّيلِ يَصطادُون النُّجومَ، ويَلْعنُونَ ضياءَ الشَّمسِ ونورَ القمرِ، ويَنْقضُّونَ كالأباليسِ على الفَوانيسِ والشُّموعِ كيْ تَضيعَ الكلِماتُ في عَتَمةِ السُّجُونِ.. ويَلْتهِمونَ ثرواتِ الأرضِ ويُخزِّنُونها قاتاً يُخدِّرُون بهِ أجسادَهم وأرواحَهم.. ويَنامُونَ كالتّنِّينِ، لكنَّ أفكارَهم وأحلامَهُم الشَّيطانيّةَ تَتغَلْغلُ إلى حَنايا الكَونِ وأوصالِهِ وجنَباتِه، وتَستمرُّ في امتِصاصِ الخيراتِ والدّماءِ كالسَّرطانِ المستبدِّ بالجسَدِ العليلِ غيرَ مبالٍ بحصُونِ الأطبّاءِ الّتي يَبنونَها في جسدِ المريضِ عسَاها تُقاومُ المرضَ الشَّيطانيَّ الخَبيثَ، فتَخدَعُه وتَصطادُ أورامَه دونَ جدْوى..

ولنْبدأْ بخارطةِ الفُقراءِ والمساكينِ، فهُم يَحتلُّونَ مَساحةَ البِحارِ والمحيطاتِ منَ الكرةِ الأرضيّةِ، ولكنَّهم لا يَملِكُون مِن ثَرواتِها إلّا ما يَسدُّ رمقَهم ويَملأُ مَعِدتَهم، والكثيرُ مِنهم يَقْتاتُ على التّسوُّلِ أو حاوياتِ القُمَامةِ أو بعضِ أرغفةٍ يُلْقيها علَيهم سادتُهم إحْساناً لهُم واعتِرافاً بجَميلِهم وحُسنِ صَنيعِهم في الخِدمةِ أو العَمالةِ أو الطّاعةِ والتَّبعيَّةِ والولاءِ..

فإذا ما أبحَرْنا في أحلامِهم، وغُصْنا في أفكارِهِم ومَشاعرِهم.. تَحطَّمتْ مراكبُنا وغرِقَتْ، وعُدْنا خائِبينَ؛ لنقُولَ للعامِ المنْصرمِ: شكراً لكَ لأنَّكَ لم تَحمِلْنا معكَ إلى حيثُ ولّيْتَ.. ولا أهْلاً ولا مَرْحباً بالعامِ الجديدِ.. لأنّهُ لن يَحمِلَ لنا في جَعْبَتِه غيرَ الألمِ والمرارةِ والشَّقاءِ..

الفقراءُ في ليلةِ رأسِ السّنةِ الميلاديّة يَحلُمُون برغيفِ خبزٍ غيرِ معجونٍ بدموعِهم ودمائِهم.. ويَبنُون في أحلامِهم بُيوتاً تأويهِم وتَقِيهم حرَّ الصّيفِ وقرَّ الشِّتاءِ.. الفقراءُ يتَطلّعونَ إلى غدٍ مُشرقٍ يَعيشُون فيهِ بكرامةٍ وحرّيّةٍ، ولا يَرجُونَ منَ السَّماءِ غيرَ الرّحمةِ والرّأفةِ بهِم..

الفقراءُ في هذهِ اللّيلةِ يَفرحُون إذا لَم يَطرقْ أبوابَهم الجُباةُ لسَدادِ دَينٍ أو ضريبةٍ مُتراكِمةٍ علَيهم منَ الأيّامِ الخَوالي.. وتَسهَدُ عيونُهم ويؤرّقُها التَّعبُ والهُمومُ، فلا يُبالُون برأسِ السّنةِ ولا بَمتْنِها ولا بذيلِها ولا بحَواشيِها..

الفقراءُ بشرٌ ثارُوا على الطُّغاةِ والمستبِدّين من ساسةٍ رفعَتْ كراسيَّها إلى عرْشِ السَّماءِ، وجعلَتْ مِن أهوائِها وغرائزِها قوانينَ تُمْطِرُها السَّماءُ، وحوّلتِ الإلهَ إلى فِكْرةٍ تَطْويها الكتُبُ السّماويّةُ بينَ أسفارِها وآياتِها.. وصارَتْ هيَ الإلهَ الّذي يقُولُ للعالمِ كنْ فيَكُون.. وصارتِ الشّعوبُ عبيداً يَركعُون أمامَ عروشِهم ويَسجدُون لهُم في طاعةٍ عمْياءَ..

وكلُّ مَن لا يركعُ ولا يُصلّي لهُم آثِمٌ وخارجٌ على القانونِ الإلهيِّ، يجِبُ أن يُلْقى في أَتُونِ جَحيمِهم وفي غياهبِ سُجونِهم، ويُكبَّلُون بالأصْفادِ، ويمُوتُون رُوَيداً روَيداً؛ حتّى يَشعُروا بطعْمِ لذّةِ الموتِ..

الفقراءُ شُعوبٌ تُصارعُ الموتَ من أجلِ كلمةِ حقٍّ أو لُقمةِ عيشٍ أو ذرّةِ عزَّةٍ وكرامةٍ.. وعلَيهم أنْ يُواجِهُوا الطّائراتِ والدَّبّاباتِ والمدافعِ والصّواريخِ والأسلحةِ الكيْماويّةِ.. وعلَيهم أنْ يتَحمّلُوا التّشرُّدَ واللُّجوءَ والجُوعَ والموتَ.. وعلَيهم أنْ يَتركُوا بلادَهم إذا لم يُعجِبْهمُ العيشُ حسْبَما تُمْليهِ عليهِم مَشيئةُ الإلهِ الحاكمِ..

الفقراءُ أناسٌ حمَلُوا فؤوسَهم ليَبْقُروا بها البُطونَ المتْخَمةَ بكلِّ خيراتِ العالمِ.. فلا حُلُمَ لهُم هذهِ اللّيلةَ إلّا العدلُ والمساواةُ ومُقاومةُ الظُّلمِ والفسادِ والقضاءُ على الجشَعِ والطّمعِ وتوزيعِ الثّرواتِ لكلٍّ بحسْبِ استطاعتِه وجهدِه وفكْرِه لا بحُكمِ الاحتِكارِ والمنافسةِ والنّهْبِ والسّرقةِ والسَّطوِ والغشِّ والخِداعِ والمصادرةِ منْ أجلِ بناءِ عرشِ فِرعونَ وهَامانَ..

الفقراءُ يَحلمُونَ بملابسَ شتويّةٍ تَقيهِم برْدَ الشّتاءِ، وبخَيمةٍ تَأْويهم منَ العواصفِ الرّمليّةِ والمطريّةِ والثّلجيَّةِ، ويحلُمُون بكِسرةِ خبزٍ يابسٍ تُسْكِتُ أنينَ معِدتِهم الخاويةِ من كلِّ طعامٍ..

أمّا الأغنياءُ -وكلُّ عاقلٍ مُفكّرٍ يُدركُ حقيقتَهم- فهُم في الغالبِ لا يَحلمُون وإن حلَمُوا فأحلامُهم هيَ أحلامُ اليَقظةِ تتراوحُ ما بينَ الصَّفْقةِ والأُخْرى.. ومابينَ اتّصالٍ هاتفيٍّ ووصولِ قافلةٍ تجاريّةٍ ومُغادرةِ أُخْرى في حركةٍ تتَناغمُ وضخَامةَ معِدتِهم والتُّخْمةَ الّتي غيّرَتْ ألوانَ أصواتِهم ومَخارجَ الحروفِ من حلُوقِهم!

الأغنِياءُ يحتَفِلُون بتَضخُّمِ أرصِدتِهم في البُنوكِ، وسَعةِ انتِشارِ استِثماراتِهم حولَ العالمِ، وقُوّةِ الدِّعايةِ العصْريّةِ لمنْتَجاتِهم وبضَائِعِهم في كلِّ زاويةٍ (تخفيضاتٌ تصلُ إلى 85 بالمئة) بمُناسبةِ رأسِ السَّنةِ، ويَزدادُ فرحُهم حينَما يتَقاطرُ النّاسُ على مَحلّاتِهم التّجاريّةِ تقاطُرَ الذُّبابِ على قصْعةِ الطّعامِ!

ناهيكَ عنِ الأثرياءِ اللُّصوصِ الّذينَ يَحتفِلُون بإنارةِ ناطِحاتِ السّحابِ إيذاناً بتَحديدِ نوعِ الجَنينِ في رحمِ زوجةِ الملكِ شَهريارَ! وكمْ مِن شَهريارَ في كلِّ أسرةٍ مِن أُسرِ هؤلاءِ الحِيتانِ الّذينَ شوَّهُوا جمالَ الحياةِ، وأسرُوا كلَّ ما فيها منْ خيراتٍ!

وناهيكَ عن لصُوصِ السّياسةِ الّذينَ يَحتفِلُون بمَا لا يَخطرُ على فكرِ أبالسةِ اللهِ وشياطينِهِ الّذين يَقذِفُهم الملأُ الأعْلى بالشُّهبِ حينَما يَسْترقُون السَّمعَ، ويا ليتَها تُصيْبُ شيْطاناً منْ شياطينِ البشرِ على الأرضِ الّذينَ يَسْرقُون ويَسْترقُون السَّمعَ والبَصرَ والفُؤادَ والرّوحَ والنَّفْسَ والذّاتَ والوجودَ وما بعدَ الوجودِ!!

ويطولُ الحديثُ عنْ خرائطِ المحْتفِلينَ برأسِ السَّنةِ الميلاديّةِ، ويَصعُبُ تصويرُ مظاهِرهِم في مقالةٍ واحدةٍ، فأدَعُها إلى رأسِ سنةٍ أخْرى، إن بقِيْنا أحياءَ ضمْنَ خريطةِ الكتَّابِ الّذينَ لا يملِكُونَ سِوى مسَاحةِ الكلِماتِ وجُغرافيّةِ الفِكرِ!

ويَطيْبُ لي استِعراضُ ما فاتَ وما سيَأتِي؛ للوقوفِ على أمانِي المحتَفِلينَ برؤوسِ السّنينَ؛ لاستِكْشافِ ما حملَتْه الأبراجُ الفلكيّةُ منْ أمانٍ معْسُولةٍ، وما ستَحبَلُ بهِ الأيّامُ المولُودةُ من رحمِ السّنةِ الجديدةِ!

لقدْ احتفلَ العالمُ في بدايةِ عامِ 2020 بميلادِ عامٍ جديدٍ يبشِّرُ بالخيرِ، فجاءَ هَذا العامُ يُوزّعُ هداياهُ الّتي تكُمُّ الأفْواهَ والأنُوفَ الّتي لم تُوزّعْها الأعْوامُ السّابِقةُ منَ الكِمَاماتِ المتَنوّعةِ الأشْكالِ والألْوانِ للوِقايةِ منْ فيروسٍ حَقيرٍ سمَّوهُ (كورونا)، وقدْ حصَدَ مِئاتِ الآلافِ منَ الأرواحِ، ودمّرَ أكبرَ اقتِصاداتِ العالمِ المتَبجِّحِ بالتّقدُّمِ والحضارةِ، وحبَسَ ثلاثةَ أرباعِ سكّانِ العالمِ في منازلِهم، وحرَمَ ملايينَ العامِلينَ والمنْتِجينَ من أعْمالِهم، ولأوّلِ مرّةٍ في التّاريخِ تتوقّفُ حركةُ الملاحةِ البرّيّةِ والجوّيّة والبحريّةِ والسّرّيّةِ والعلَنيَّةِ بينَ أقْطابِ الكرةِ الأرضيّةِ!

لقدْ أهْدانَا العامُ الّذي يُوشكُ على الرّحيلِ كِمَاماتٍ غيّرتْ خارطةَ الوجوهِ، فأصبحَ الأخُ لا يَعرفُ أخاهُ، ولا الزَّوجةُ بعلَها، ولا الحبيبُ حبيبَه، واختلَطَ الحابِلُ بالنّابلِ.. وكأنّنا في خِضمِّ معركةٍ جاهليّةٍ فُرسانُها مُلثَّمُو الوجوهِ.. فخسِرَ العالمُ جمالَ الوجوهِ، فلم تَعُد تَرى إلّا جمالَ العيونِ..

خسِرَ العالمُ الملياراتِ في صناعةِ الكِمَامَاتِ.. وربحَ الملياراتِ في شحِّ استِهلاكِ أحدثِ الماكيَاجاتِ الّتي وقفَتِ الكِمَاماتُ سدّاً مَنيعاً في الاقتِصادِ منها.. خسِرَ العالمُ الابتِساماتِ الجميلةَ، لكنّهُ ربِحَ في توفيرِ الضّحِكاتِ المجلْجِلةِ الخادِعةِ.. خسرَ العالمُ ابتِساماتِ (هولْيُود) في تَبيِيْضِ الأسنانِ، وربحَ اختِفاءَ روائحِ الأفْواهِ بفضْلِ الكِمَاماتِ..

خسِر العالمُ صِناعاتٍ وصِناعاتٍ، وربِحَ صِناعاتٍ جديدةً لم تكُنْ تَخْطرُ على بالٍ.. خسِرَ العالمُ اجتِماعَ الأحبّةِ، لكنّهُ ربحَ تَفرُّقَ المفْسِدينَ.. خسِرَ العالمُ المؤتَمراتِ والقِممَ الطنَّانةَ الّتي لا تُنتِجُ غيرَ الخِطاباتِ والإداناتِ، لكنّهُ ربحَ استهْلاكَ الأوراقِ ورحَلاتِ القادةِ والدّبلوماسيّينَ.. خسِرَ العالمُ في توقُّفِ المصانعِ وكلِّ وسائلِ الحركةِ والتّجارةِ، لكنّهُ ربِحَ في الحدِّ من تَدميرِ البيئةِ وطبقةِ الأوزونِ.. خسِرَ العالمُ في تَخْفيفِ صِناعةِ طِلاءِ الأظافرِ، لكنّهُ ربحَ في صِناعةِ قفَّازاتِ الأيْدي..

خسِر العالمُ ظُهورَ الرّاقصاتِ والمغنِّيَاتِ على المسَارحِ وشاشاتِ التَّلْفزةِ، لكنّهُ ربحَ ظهُورَ الأبطالِ المجهُولينَ في مَيادينِ الصّحّةِ والتَّعليمِ والفِكرِ.. خسرَ العالمُ بطولاتِهِ في صِراعاتِ أجزائِهِ، وربحَ توحُّدَه في مُواجهةِ عدوٍّ صغيرٍ حقيرٍ راحُوا يتَنافسُونَ في مُواجهتِه ومُطاردتِه والقضاءِ عليهِ، لكنّهم فشِلُوا كلَّ الفشلِ في الحدِّ من انتِشارِه..

خسرَ العالمُ مِن (بازارِ) التَّسويقِ أُسطُواناتِ غِناءِ الفنّانِ السُّوريّ العالميِّ عليّ الدّيكِ (طلّ الصّبحْ ولكْ علّوشْ وسبقُونا هالحَصّادة.. هات المنجِلْ والمنكوشْ والْحَقْني بالزُّوَّادة..)، و(جاية تسبِّلْ وراي سمرةْ وأنا الحاصُودي..) فقدْ توقّفتْ حركةُ الحصَّادينَ في الذّهابِ إلى حقولِهم، كمَا اختلَطَ المِنْجَلُ والنّاكِشُ والمنكُوشُ بالزُّوّادةِ.. وامتَنعتِ السّمراءُ من التَّسْبيلِ، وضاعَتْ شُهرةُ علُّوشٍ بينَ الحصّادِينَ، بعدَ أنْ عادتْ الأسطواناتُ المنْسيَّةُ القديْمةُ إلى ذاكرةِ العالمِ في أغَاني الفنّانةِ الجزائريّةِ وردة (خلّيكْ هِنا خلّيكْ.. بلاشْ تِفارقْ).. وتطوَّرتِ الأمورُ إلى البقاءِ القسريِّ في المنزلِ (خلّيكْ في البيْت خلّيكْ.. بلاشْ تِغادرْ..) فاجتَمعَ الأحبّةُ تحْتَ سقْفٍ واحدٍ بعدَ فراقٍ طويلٍ، ولمّتْ كلُّ أسرةٍ شمْلَها، بعدَ أن فرّقتْهم السِّنُون والأعْمالُ والأسفارُ..

خسرَ العالمُ صوتَ الدّيكِ، لكنّهُ ربحَ غيابَ نعيبِ الغِربانِ البشريّةِ في الأزِقّةِ والشّوارعِ.. خسرَ العالمُ سِقَايةَ السكّوباتِ، لكنّهُ ربحَ صوتَ سيّاراتِ الإسْعافِ في الشّوارعِ معَ الخَرْجةِ الّتي أضافَها علُّوشٌ للأغنيَةِ العالميّةِ (عالمشْفى يا بو فَهْد..). خسرَ العالمُ كلَّ أنواعِ النِّكاتِ، لكنّهُ ربحَ نُكَتاً جديدةً حولَ فيروس كورونا المستَجِدِّ..

منذُ شهورٍ وشهورٍ.. بدأَ العالمُ عامَهُ الجديدَ 2020 بإنارةِ أبراجِه وناطحاتِ سحابِه معَ ضجيجِ الغِناءِ والرّقصِ والسّكَرِ والعرْبدةِ وقرقعةِ كؤوسِ النّشوةِ الرّوحيّةِ وحفَلاتِ الكَرنَفالِ التّنكُّريّةِ.. وانتَهى بإطفاءِ أنوارِ معابدِهِ الّتي أضحَتْ خاويةً منْ نُسَّاكِها وعُبّادِها وصُيّاحِها وجَعجعةِ نواقيسِها.. وانتَهى بمَزاميرِ سيّاراتِ الإسعافِ والشّرطةِ في كلّ شارعٍ من شوارعِه وفي كلّ حيٍّ من أحيائِه.. وانقلبَتْ كؤوسُ النَّشوةِ الرّوحيّة إلى كؤوسِ شرابِ الفيتامِيناتِ والأدويةِ لتَقويةِ المناعةِ الجسديّةِ.. وانتهَتْ حفَلاتُ الكرنَفالِ الجماعيّةُ الّتي تُؤدّيها فِرقُ الاحتِفالِ إلى حالاتٍ تنكُّريّةٍ فرديّةٍ يَلتزمُ بها كلُّ فردٍ رغْمَ أنفِه، معَ المحافظةِ على التَّباعُدِ الجسديِّ حتّى في اللِّقاءاتِ الحمِيميّةِ!

بدأَ العالمُ عامَهُ الجديدَ 2020 بالتَّطبيلِ والتَّزميرِ للرَّحلاتِ إلى كواكبِ الفضاءِ الخارجيِّ، لكنّهُ انتَهى بخيبةِ الأملِ في الوصولِ إلى فيروسٍ حقيرٍ لا تتجاوزُ رحلَتُه السّنتيمتراتِ، فاقتَصرَتْ الرِّحلاتُ على البَحثِ والاستِكشافِ فيمَا بينَ مِنْخريهِ وبينَ رئتَيْه!

ابتَدأَ العالمُ عامَهُ الجديدَ بالوعيدِ والتّهديدِ لكلِّ أنواعِ الأوبئةِ والأمراضِ الخبيثةِ، فإذا بهِ عاجِزٌ عنْ مُحاصرةِ وباءٍ تافهٍ أمامَ تقدُّمِ تِكنُولُوجيا الطّبِّ الوقائيِّ والعلاجيّ!

بدأَ العالمُ عامَهُ الجديدَ بالتَّنافُسِ في عَرضِ عضَلاتِ إمبراطوريّاتِه الحديثةِ، وإذا بهِ ينْتهيْ بهزيمةِ كلِّ الإمبراطوريّاتِ أمامَ جُرثومةٍ حقيرةٍ!

كلُّ عامٍ منَ الأعوامِ السّابقةِ كانَ يَنْتهي بانتهاءِ وباءٍ شاعَ فيهِ ولقِيَ نحبَهُ.. فانقَضَى عامُ جُنونِ البقَرِ، وانصرَمَ عامُ إنفلوانزا الطّيورِ.. وتبِعَه عامُ إنفلوانزا الخنازيرِ، وها هوَ عامُ 2020 يَنْقَضي ومازالَ فيروسُ كورونا يقُضُّ مَضاجِعَ العالمِ بأكملِه! فمَاذا سيُهديْنا العامُ الجديدُ 2021؟

هلْ سيُهديْنا شَهْداً منَ العسلِ أو كوباً منْ مزيجِ الفَواكهِ الطّازجةِ.. أم رحلةً إلى كواكبِ المجموعةِ الشّمسيّةِ، أمْ لَقاحاتٍ مُتطوّرةً تُطيلُ الآمادَ، وتشلُّ حركةَ الفيروساتِ وتَحرمُها منَ التّفكيرِ في مُهاجمةِ الجسدِ البشريِّ؟! أم أنّهُ سيحمِلُ إليْنا مُفاجآتٍ كارثيّةً تُنْهي حياةَ كائناتٍ ومخلُوقاتٍ؛ لتَحِلَّ محلَّها كائناتٌ ومخلُوقاتٌ أخرى؟!

ماذا يُخبِّئُ لنا العامُ الجديدُ بعدَ كِمَاماتِ 2020؟ ننْتَظرُ لنَرى كيفَ سيتراقَصُ العالمُ، وكيفَ سيَتسَامرُ ليلتَهُ، وكيفَ ستُغنّي كلُّ أمّةٍ على ليلَاهَا.. ونَصْبرُ حتّى يَظهرَ المتنبِّئونَ والمنجِّمُون على شاشاتِ التّلفزةِ، وكلُّ مُنجِّمٍ يُغرّدُ كمَا يحلُمُ ويَهْوى.. وتَظلُّ الحقيقةُ مُتواريةً ما بينَ الجِدِّ واللّعِبِ، على نحوِ ما عبّر عنهُ شاعرُنا أبو تمّام لسيفِ الدّولةِ الحمْدانيِّ حينَ قرّرَ فتحَ عمُّوريّةَ: ( )

السَّــــيفُ أَصـــــــــدَقُ أَنبــــــــــــــــــاءً مِـــــنَ الكُتُبِ

في حَدِّهِ الحَـــــــــــــــدُّ بَينَ الجِـــــــــــــــــــدِّ وَاللَّعِـــــــــبِ

بيضُ الصَّفائِحِ لا سـودُ الصَّحائِفِ في

مُتـــــــــــونِهِنَّ جَـــــــــــــــــــــلاءُ الشَّـــــــــــــــــكِّ وَالرِّيَـــــــــــــــــبِ

وَالعِـــــــــــــــــلمُ في شُهُــبِ الأَرمـــــــــــــــــــاحِ لامِعَـــــــــــــةً

بَينَ الخَميسَـــينِ لا في السَّـــــبعَةِ الشُّهُبِ

أَيـــــــــــــنَ الــــــــــــــرِّوايَةُ بَل أَيــــــــنَ النُّجـــــــومُ وَما

صاغـــــــــــوهُ مِـــن زُخرُفٍ فيها وَمِـــــــــن كَذِبِ

لكنْ مهْما تشاءَمْنا، لا بدَّ أنْ يَنبلِجَ النُّورُ من بينِ سُدولِ الدَّيجُورِ.. ومهْما احلولَكَتِ الأيّامُ، لا بدَّ منْ فرجٍ قريبٍ.. ومهْما قَسَا فؤادُ الزّمانِ.. لا بدَّ لهُ من أنْ يَلينَ.. ومهْما تَجبَّر الجبابِرةُ، لا بدَّ أن تأخذَهُم مَشيئةُ اللهِ بغتةً.. في التّاريخِ البشريِّ عِبَرٌ وعَبَراتٌ، وفي تاريخِ الإنسانيّةِ إمبراطوريّاتٌ اندثرَتْ.. وثوْراتُ عبيدٍ انتَصرَتْ.. يَبْقى الأملُ مَعقُوداً على نَواصي نوَايا الخيرِ في المصْلِحينَ والمفكِّرينَ وأصْحابِ النّزعةِ الإنسانيّةِ النّبيلةِ!! 

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات