فَيْضُ المشَاعِرِ 

سَألنِي أحدُ الأصدقاءِ عنْ أحْوالي على إِحدَى وسائلِ التَّواصلِ الاجتِماعيَّةِ الحديثةِ المشْهورةِ في زمنٍ يُقالُ عنهُ: (العالَمُ قريةٌ صغيرةٌ)، وأرادَ أنْ يَطمِئنَّ على صِحَّتي وسَعادتي الأُسريَّةِ والمعيشيَّةِ.. فوقفْتُ دقيقةَ صمْتٍ إجلالاً لمعنَى سُؤالِه، وتقديراً لقيمتِه وأهمِّيتِه الفكريَّةِ والفلسفيَّةِ في حياةٍ أصبحَتْ بلا فكرٍ ولا فلسفةٍ ولا مَنطقٍ ولا شريعةٍ!

فكانَت إجابتِي -بعدَ مبادلتِه التَّحِيَّةَ والمودَّةَ والاطمِئنانَ- في غايةِ البساطةِ: نحنُ بخَيرٍ ما دُمْنا نتَنفَّسُ الهواءَ مجَّاناً دونَ أن ترِدَنا رسالةٌ إلكترونيَّةٌ تُطالبُنا بدفْعِ فاتورةِ الأوكسِجينِ، وما دُمْنا نستقبِلُ أشعَّةَ الشَّمسِ بأعيُنِنا صباحاً ونودِّعُها مساءً دونَ أنْ يُطالبَنا أحدٌ بفاتورةِ الطَّاقةِ الشَّمسيَّةِ، وما دُمْنا نُكحِّلُ مآقِيَنا بضوءِ القمرِ حينَما يتربَّعُ عرشَ جمالِه الأبديَّ في كبِدِ السَّماءِ، دونَ أن تتَقاذفَ رسائلُ الاتِّصالِ إلى هواتفِنا الذَّكيَّةِ تُطالبُنا بسَدادِ فاتُورةِ الطَّاقةِ الضَّوئيَّةِ!

ثمَّ انهمرَتِ الأفكارُ على فمِ يراعتِي سَيلاً عرمْرَماً يكتسِحُ سهولَ أوراقِي بشقِّ أخاديدِ سطورِها برُكامِ عباراتِ (نحنُ بخيرٍ ما دُمْنا..).

أخِي العزيزُ: لا تقلَقْ عليْنا، فنَحنُ بخيرٍ، ما دُمْنا نَرى الشَّمسَ بمِلءِ أبصارِنا، دونَ أن تحجِبَها عنَّا سحابةُ دخانِ حروبِ الغدْرِ والحِقدِ والقَتلِ والدَّمارِ والإجرامِ!

نحنُ بخيرٍ، ما دُمْنا نُبْصرُ أشَّعةَ ذُكاءَ بمِلءِ إرادتِنا وفي كلِّ أوقاتِنا وأيَّامِنا، دونَ أن نحلُمَ بها في زنْزاناتِ طواغِيتِ العصْرِ بشتَّى أساليبِهم القمعيَّةِ القذرةِ! نحنُ بخيرٍ، ما دُمْنا نُجْلَدُ بسِياطِ رغيفِ الخبزِ وباركوداتِ الدَّواءِ والغذاءِ وذرَّاتِ الكهرَباءِ وقطراتِ الماءِ ولعنةِ العروبةِ السَّوداءِ ونقْمةِ الحروفِ الأبجديَّةِ وشقاوةِ الأفكارِ المرصَّعةِ بالجواهرِ المعتَّقةِ الثَّمينةِ!

نحنُ بخيرٍ، ما دُمْنا نَنامُ على هديرِ السَّيَّاراتِ، ومكيِّفاتِ الهواءِ، وصِياحِ الصِّبْيانِ في الشَّوارعِ، وقرقعةِ الكَراسِي والطَّاولاتِ لجيرانٍ يُعرِّشونَ فوقَ شِقَّتِنا كالغِربانِ، لا تَعرفُ عيونُهم طعْماً للنَّومِ في الَّليلِ، ونكادُ نحِنُّ لأصواتِهم سَحابةَ النَّهارِ، وهمْ في سُباتِ الماعزِ وقتَ المَقيلِ!

نحنُ بخيرٍ، ما دامَتْ أحلامُنا مُعلَّقةً بضجيجِ المدينةِ، لا بهديرِ الطَّائراتِ والدَّبَّاباتِ والبراميلِ المتفجِّرةِ والقنابلِ الفراغيَّةِ والأسلحةِ الكيميائيَّةِ!

نحنُ بخيرٍ، ما دامَتْ أبصارُنا تلْمحُ الطُّيورَ مُحلِّقةً فوقَنا في الفضاءِ، وما دامَتْ تُراقبُ طائراتِ الحضارةِ البشريَّةِ تجوبُ السمَّاء موِّحدةً الأجناسَ الإنسانيَّةَ كلَّها على متْنِها، ولا تُفَاجَأُ بالقذائفِ تنهالُ فوقَ رؤوسِنا كوابلِ الغَيثِ؛ لتقتلِعَنا أحياءً أو أمواتاً منَ الجذورِ!

نحنُ بخيرٍ، ما دُمْنا نقرأُ عنِ السَّعادةِ ولم نذُقْ طعْمَها، ولم نشْعُرْ بها إلَّا حينَمَا نتأمَّلُ ذواتَنا منَ الدَّاخلِ، ونكادُ نلْعنُها في جُنحِ الظَّلامِ وفي كلِّ زاويةٍ نُقِشَتْ عليها السَّعادةُ شِعاراتٍ!

نحنُ بخيرٍ، ما دُمْنا نتَقاضَى ثمَنَ كلماتِنا وأفكارِنا بعدَ صياغتِها فضَّةً، ثمَّ نقدِّمُه إبريزاً خالِصاً مَصُوغاً من لحمِنا ودمِنا للأعرابِ لقاءَ استضافتِهم لنا في خيَمِهم وأكواخِهم الَّتي لا يملِكُونَ سِواهَا!

نحنُ بخيرٍ، ما دامَتْ حشَراتُ الأرضِ في نأيٍ زمانيٍّ ومكانيٍّ عنْ حدودِ أجسادِنا الجغرافيَّةِ والتَّاريخيَّةِ والمصيريَّةِ!

نحنُ بخيرٍ، ما دُمْنا لا نُساقُ كالقَطيعِ للدَّورانِ حولَ تِمثالِ خُوفُو، أو الرُّكوعِ أمامَ حِصانِ طُروادَةَ، أو السُّجودِ في مِحرابِ أهراماتِ فِرعَونَ!

نحنُ بخيرٍ، ما دامَتْ طواحينُ الهواءِ لا تَنالُ من عزيمَتِنا، ولا أنهارُ الحياةِ تَحمِلُنا إلى مُستَنْقعاتِها الآسِنةِ في حضنِ الصَّحراءِ، ولا أمواجُ البحارِ تَجرفُنا معَ رمالِها إلى أعماقِها السَّحيقةِ المتناهيةِ في مجاهِلِها الأبديَّةِ!

نحنُ بخيرٍ ما دُمْنا نَحتسِي فناجيَنَ قهوتِنا بينَ أحضانِ الطَّبيعةِ، ولا تُصادِرُ لحظاتِ مُتعتِنا دوريَّاتُ العسَسِ في مَحميَّاتِ السُّلطانِ المقدَّسةِ الّتي لا تَطؤُها إلَّا أقدامُ حاشيتِه حِفاظاً على سلامتِها مِن رعاعِ المخلُوقاتِ!

نحنُ بخيرٍ ما دامَتِ العِنايةُ الإلهيَّةُ تُرفرِفُ بأجنِحتِها فوقَ رؤوسِنا حمَاماتِ سلامٍ، لا قذائِفَ تنهالُ على رؤوسِنا حِجارةً من سجِّيلٍ، لا تُدركُ الأفهامُ مصدرَها: هلْ هيَ من جماعةِ أبي قضاعةَ، أمْ مِن جماعةِ المهلهلِ العقَنْقليِّ، أم مِن منظَّمةِ الرَّدَى بِلا حدودٍ، أمْ مِن تنظيمِ سيوفِ الحقِّ، أمْ من جيشِ أبي دُلَيْمةَ الغسَّانيِّ أمِ القحْطانيِّ!

نحنُ بخيرٍ ما دامَتْ سِياطُ الأمرِ بالدَّردبيسِ والنَّهيِ عنِ العلْطبيسِ لا تُلاحِقُنا؛ لتقودَنا إلى حظائرِ الملكوتِ الطَّاغي الّذي يُجرِّدُنا من ذواتِنا؛ كيْ يَسعدَ، ويَبسِطَ رضاهُ عليْنا في ألواحِ الكهنُوتِ السَّماويِّ، كمَا يَفعلُ الطَّاغوتُ العسكريُّ في محاريبِ تقديسِ الكهنُوتِ الفِرعونيِّ الموروثِ من عهدِ سفينةِ نوحٍ وجيشِ سُليمانَ الأسطوريِّ!

نحنُ بخيرٍ ما دامَتْ أعضاءُ أجسادِنا تتَناغمُ في وظائفِها دونَ أن يتمرَّدَ شِلْوٌ مِنها على بقيَّةِ أجزائِها احتِجاجاً على سُوءِ التَّوزيعِ في تنوُّعِ البروتيْناتِ والفيْتامِيناتِ، على حدِّ تعبيرِ الكاتبِ الإيرلنديِّ السَّاخرِ برنارد شُو حينَ سُئِل عن اقتصادِ العالمِ، فأشارَ إلى صلْعةِ رأسِه ولحيتِه الكثَّةِ قائلاً: غزارةٌ في الإنتاجِ وسوءٌ في التَّوزيعِ!

نحنُ بخيرٍ ما دامَ فؤادُنا يَخفِقُ بالحياةِ ويتراقَصُ مثلَ عقاربِ السَّاعةِ دونَ تقديمٍ أو تأخيرٍ، ويقِفُ طوْداً شامخاً أمامَ أمواجِ بحرِ الحياةِ المتلاطمةِ الّتي تعصِفُ بوجودِنا، تُريدُ أنْ تقتلِعَنا من جذورِنا حتَّى يتفرَّدَ حيتانُها الضَّاريةُ بكلِّ خيراتِها وثرواتِها!

نحنُ بخيرٍ ما دامَتْ ألسِنتُنا تقولُ قولتَها دونَ أن يُصيبَها شلَلٌ، أو تَنزلَ بها نازلةٌ منْ نوازلِ الدَّهرِ أو عادِيَةٌ منْ عادياتِ القهرِ والاستِبدادِ، ودونَ أنْ تطأَهَا سكاكينُ الجزَّارينَ بالقَطعِ أو السَّلْخِ أو السَّحْلِ تحْتَ سلاسلِ الدَّبَّاباتِ والعرباتِ المجَنْزرةِ!

نحنُ بخيرٍ ما دامَتْ مآقِينا تكتَحِلُ برؤيةِ مَنْ تَهوى أفئِدتُنا ومَن تَعشقُ أرواحُنا دونَ مفاجآتِ عواصفِ الدَّهرِ وخُطَا القدَرِ المنهمِرِ من غَياباتِ الحياةِ الّتي لا تُقيمُ وزناً لروحٍ، ولا تُبالي بإحساسٍ شفِيفٍ مثلَ تُوَيجاتِ الزُّهورِ!

نحنُ بخيرٍ ما دامَ في الحياةِ أُناسٌ يَفهمُونَ أفكارَنا، ويُراعُون مشاعِرَنا، يتألمَّون حينَما نألمُ، ويَفرحُون حينمَا ترتسِمُ ابتسامةٌ على مُحيَّانا، ويأْسَون على ملمَّاتِنا، ويَسعدُون على مسرَّاتِنا!

نحنُ بخيرٍ ما دامَتْ رسائلُنا تَخُطُّ حروفَها على جُدرانِ أفئِدةِ محبِّينا، وما دامتْ رسائلُ مَن ترتاحُ إليهِم نفوسُنا تَروِي ظمَأَ أفكارِنا وأحاسيسِنا ورُؤَانا وآمالِنا وأحلامِنا في سُباتِها وفي يقظتِها!

نحنُ بخيرٍ ما دامَ في الحياةِ نهرٌ عذْبٌ يفيضُ ببركاتِ خيراتِه علينَا، وما دامَ فيهَا يُنبُوعٌ سلسبيلٌ يَروي ظمأَ العابرينَ، وما دامَ فيها قمرٌ تَرْنو إليهِ أبصارُ العاشقينَ، وما دامَ فيها شمسٌ تُدغدِغُ أحلامَنا عندَ الصَّباحِ المشرِقِ الجميلِ، وما دامَ فيها نسيمٌ عليلٌ يحرِّكُ مشاعرَ الحبِّ والهوَى في أوصالِنا!

نحنُ بخيرٍ ما دامَتِ البشريَّةُ بخيرٍ، وما دامَ الكونُ في سَلامٍ، وما دامَ كوكبُنا يدورُ حولَ نفسِه وحولَ الشَّمسِ، كما ندورُ حولَ ذواتِنا وحولَ جميعِ المخلوقاتِ الّتي تُحيطُ بِنا! 

الشارقة في 24/2/2018

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات