عُرسُ الكائناتِ

ليسَ العرسُ عرفاً اجتماعيّاً يقتصرُ على بني البشرِ، وإنّما هو فرحٌ جماعيٌّ أو فرديٌّ تتشاركُ فيه جميعُ الكائناتِ على وجهِ البسيطةِ، ولكلِّ كائنٍ أو مجموعةِ كائناتٍ ديدنُها الخاصُّ الذي تعبّرُ فيه عن الفرحِ والسّرورِ، وتُقيمُ لأجلِ ذلك الفرحِ طقوساً لا تستطيعُ نقلَ وقائعِها إلّا عدساتُ الوجدانِ الذي صقلتْه الطّبيعةُ، وجعلتْه ينسابُ في شرايينها؛ ليشعرَ بنبضاتِ الحياةِ في عروقِها، ويستنشقَ أوكسجينَها، فيصبحَ هذا الإنسانُ كائناً مثلَ جميعِ الكائناتِ يفرحُ لفرحِها، ويحزنُ لحزنِها، ويتألّمُ لألمِها، ويتكلَّمُ بلسانِها.

في دبيّ بحيرةُ المِمْزرِ هادئةٌ هدوءَ اللّيل، تترقرقُ مياهُها عذبـةً، وتنعكسُ على صفحتِها أضواءُ المدينةِ والشّوارع، فتفترُّ لكَ عن ابتساماتٍ تحملُ بشائرَ الفرحِ، كأنّها في ليلةِ زفافِها، وثمّة تناغمٌ بين النّسماتِ الرّقيقةِ الّتي تُقبِّلُ وجهَ المياهِ، فتراها سَكْرى تترجرجُ على قبلاتِ النّسيمِ، وفي كبدِ السّماءِ يلُوحُ القمرُ كأنّه نسيَ الدّنيا، وراح يرمي بنظراته إلى البحيرة، وكأن عشقا أبديا بينهما قد ولد وترعرع، ومما يَزيدُ البحيرةَ بهاءً وجمالاً تلك الأسماكُ التي تتقاذفُ هنا وهناك، كأنّها تُراقصُ القمرَ وتُداعبُ النّسمات.

كانت أضواءُ الشّارعِ المجاورِ للبُحيرةِ تنعكسُ على صفحةِ المياه، فترسمُ أخاديدَ، وكأنّ محراثاً قد شقّقَ صفحتَها. يالجمالِ المشهدِ! بحيرةٌ هادئةٌ، نسماتٌ ساحرةٌ، ليلٌ عاشقٌ، قمرٌ يتلألأُ؛ ليتغزّلَ بجمالِه ذوو الأحاسيسِ الشّاعريّةِ المرهفةِ.. هدوءٌ وسكونٌ آسرٌ يجعلُ الأرواحَ تنسابُ في أعماقِ الوجودِ، وينطلقُ الفكرُ في توهُّجٍ، بعد أن انتشَى بسَكرةِ التّأمّلِ والتّفكُّر والتّبصُّر!

هذه البحيرةُ رائعةٌ صادقةٌ في مشاعرِها، لا تعرفُ للبهرجةِ المصطنعةِ لوناً، ولا للتّملُّقِ والزّيفِ شعوراً، ولا للوثةِ الجِبلّةِ وكدرِ الكينونةِ قيدَ أُنملةٍ. إنّها في غايةِ الصّفاءِ والنّقاء، في ذروةِ النّشوةِ والصّحوةِ، في سؤددِ البهجةِ والسُّرور، في عرسٍ ملائكيٍّ تتراقصُ فيه الأسماكُ طرباً، وتتمايلُ فيه المويجاتُ مع النّسيمِ العليلِ فرحاً، والقمرُ يعزفُ بضيائِه أعذبَ سمفونيّاتِ الحياة، وأضواءُ المدينةِ تصفِّقُ ابتهاجاً بجمالِ الطّبيعةِ، وذرّاتُ الرّمالِ الذهبيّةِ تستحمُّ برذاذِ الأمواجِ، والنّاسُ حول البحيرةِ كلٌّ يُغنّي على ليلاهُ، وأنا صامتٌ أتأمّلُ عرسَ البحيرةِ وأعيشُ بين كائناتِها.

عدتُ إلى البيتِ واطّرحتُ الفراشَ، ورحتُ أتأمّلُ الكونَ بفكري ووجداني؛ لأستنضحَ ما فيهما من حكاياتٍ وقصصٍ مرّتْ أمامَ خاطري أو طرقتْ أسماعي، دونَ أن أبالي بها ساعةَ حدوثِها أو لحظةَ سماعِها.

فتذكّرتُ ذلكَ المشهدَ الغريبَ حينَما كنتُ سالكاً درباً من دروبِ قريتي صوبَ بستانِنا المتربِّعِ على ربوةٍ، وفي الطّريقِ وأنا أقرأُ ديوانَ أبي القاسمِ الشّابّي وأردّدُ قصيدتَه في الحياة:

وَقَالَـــــــتْ لِيَ الأَرْضُ – لَمَّا سَــــــــأَلْتُ:        “أَيَا أُمُّ هَـــــــــلْ تَكْـــــــــــرَهِينَ البَشَـــر؟”

أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْـــــــلَ الطُّمُــــــــوحِ           وَمَـــــــنْ يَسْــــــتَلِـذُّ رُكُـــــــوبَ الخَــــطَــر

وأَلْعَـــــنُ مَـــــــنْ لا يُمَـــــاشِي الزَّمَـــــانَ           وَيَقْنَـــــــــعُ بِالعَيْـشِ عَيْشَ الحَـــــــجَـر

هُـــــوَ الكَوْنُ حَيٌّ، يُحِــــبُّ الحَيَـــــــاةَ           وَيَحْتَــــــــقِرُ الْمَـيْـــــتَ مَهْـــــــــمَـا كَـــــــــــبُر

فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْـتَ الطُّيُـــــــــورِ           وَلا النَّحْـــــــــلُ يَلْثِمُ مَيْـــــــتَ الزَّهَــــــــر

وَلَـــــــوْلا أُمُـــــــــومَةُ قَــــــلْبِي الـــــــرَّؤُوم          لَمَـا ضَمَّتِ المَيْــــــــــــتَ تِلْكَ الحُــــــفَــر

فَـــــوَيْـلٌ لِمَــنْ لَــــمْ تَشُـــــــقْـهُ الحَيَـاةُ          مِنْ لَعْنَـــــــــــــةِ العَــــــــــــــدَمِ المُنْتَــــصِـر!”

طرقَتْ مسمعِي وشوشةٌ، وسمعتُ أصواتَ العشبِ تخشخشُ، وكأنّ ثمّةَ عراكاً بين كائنينِ.. رفعتُ ناظريَّ عن الدّيوان، ووجّهتُهما صوبَ الجلبةِ، وأطلقتُ سهامَ فكري وخيالي في ذلكَ المحيطِ من الطّبيعةِ، وسمَّرتُ مسمعِي، وكبحتُ جماحَ حركاتي، حتّى أصوِّرَ ما يدورُ أمامي من أحداثٍ.

كان ما أراهُ زفافاً بين ذكرٍ وأنثى من أسرةِ الأفاعي بين ثُعبانينِ أسودينِ. الجسدانِ ملتحمانِ وملتفّان حول بعضِهما البعضِ كجديلةِ السّمراء، وقد انتصبَا كأعمدةِ الآثارِ الرّومانيّة، والرّأسانِ متقابلانِ يتجاذبانِ ثمّ يفترقانِ، يتبادلانِ القبلاتِ والهمساتِ واللّمساتِ، ثمّ يرتميانِ في أحضانِ الطّبيعةِ. واستمرّ العناقُ والتّلاقحُ نصفَ ساعةٍ بين العروسينِ، وحينما أفرغَا جامَ الهَوى، وقضَى كلٌّ منهما وطرَ الآخرِ، وأيقنَا بانتشاءِ الرّوحِ والجسد، تفارقَ الكائنانِ وانسحبَا برويّةٍ، ودخلَا في جُحرٍ بين النّباتاتِ والأشجارِ، وانتهى الزّفافُ وتمّتِ الحكايةُ.

العروسانِ كائنانِ حيّانِ من الطّبيعةِ في زفافٍ طبيعيٍّ، كلٌّ منهما يُبادلُ الآخرَ كأسَ الغرامِ والهيامِ، لا حسّادَ ولا رقباءَ يعكّرونَ عليهما ساعةَ النّشوةِ والصّفاء، زفافٌ رومانسيٌّ لا تلوِّثُه قرقعةُ الطُّبولِ ولا مزاميرُ الأبواقِ ولا صخَبُ أو ضجيجُ الآلاتِ الموسيقيّةِ على مكبِّراتِ الصّوت مع نقيقِ الضّفادعِ البشريّةِ.

مسرحُ الزّفافِ الطّبيعةُ بما تتزيَّ به من جمالٍ إلهيٍّ، وما تتحلّى به من خضرةٍ مرصَّعةٍ بألوانِ الأزاهيرِ، والمدعـوُّون لحفلِ الزّفافِ كائناتٌ وعناصرُ من الطّبيعةِ.

أمّا عاداتُ وتقاليدُ الزّفافِ عند كائناتِ الطّبيعةِ، فتختلفُ عن عاداتِنا نحنُ – بني البشرِ- فلا أعراسَ ولا ولائمَ، لا راقصاتٍ ولا مغنّياتٍ، لا شروطَ في الزّواجِ من شقّةٍ فاخرةٍ، ولا سيّارةٍ حديثةٍ، ولا ذهبٌ برّاقٌ تتباهى به العروسُ، ولا شهرَ عسلٍ في أفخمِ الفنادقِ، ولا شروطَ طبقيّةٍ أو اجتماعيّةٍ أو دينيّةٍ أو مذهبيّةٍ أو عرقيّةٍ أو قبليّة.

إنّ أعراسَ الكائناتِ وعناصرَ الطّبيعةِ أكثرُ من أنْ تُعَدَّ أو تُحصى، ولعلَّ أجملَها زفافُ الطُّيورِ والعصافيرِ، فلها قصصٌ وحكاياتٌ تتجلّى في أبْهى صورِها في الرَّبيعِ، حيثُ الدِّفءُ والجمالُ، وحيثُ النّشاطُ والحيويّةُ والانبعاثُ بعد رقادِ الشِّتاءِ.

في فصلِ الرّبيعِ تُقامُ حفلاتُ زِفافِ العصافيرِ والطّيور، فينطلقُ الغناءُ ويَعبقُ الجوُّ بالتّغريداتِ، ويتمُّ الزِّفافُ بين أغصانِ الأشجارِ في الحقولِ والبساتينِ، وبين الورودِ والأزاهيرِ ، وعلى أنغامِ همساتِ النّسيمِ وخريرِ الجداولِ والأنهارِ، وحفيفِ أوراقِ الأشجارِ، وبريقِ أشعّةِ الشّمسِ الذّهبيّة، سرعانَ ما يُتوَّجُ كلُّ زفافٍ ببناءِ الأعشاشِ الزَّوجيّة التي تتمخَّضُ عن بيوضٍ ترقدُ عليها العروسُ؛ لتمنحَها دفئاً وحناناً.. إلى أن تنمُوَ الفِراخُ داخلَها، وحينَما تكتملُ دورتُها في الحياةِ تشرئبُّ الفِراخُ من قلبِ البيوضِ، وتفتحُ أعينَها للنُّورِ، وتستنشقُ الهواءَ العليلَ.

وسرعانَ ما تتحوّلُ العروسُ إلى أمٍّ رؤومٍ، تحتضنُ فراخَها، وتسهرُ على راحتِهم وأمنِهم وسعادتِهم، وتنطلقُ بين الحقولِ تبحثُ لهم عن قُوتِهم اليوميِّ الّذي يضمنُ بقاءَهم واستمراريَّتهم، إلى أن ينمُوَ زُغبُهم، وتنضجَ قوادمُهم ويُصبحُوا قادرين على ممارسةِ الحياةِ بأنفسِهم.. وهكذا تستمرُّ الحياةُ!

ويبدو أنّ قصيدةَ الشّابّي التي كنتُ أقرؤُها تتناغمُ مع فكري وخيالي تناغمَ النُّجومِ في السّماء، وتتسامرُ مع بناتِ أفكاري تسامرَ الطُّيورِ الحالمةِ مع ضوءِ القمرِ، فكلُّ ما في الطّبيعةِ يُحسُّ ويشعرُ ويتكلَّم، كما قال شاعرُنا البُحتريُّ في وصفِ الرّبيع:

أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً           مـــــنَ الحُســــــنِ حتّى كـادَ أنْ يَتَكَلّـــــــمَا

وَقَـــد نَبّهَ النّـوْرُوزُ في غَلَسِ الــدّجَى           أوائِـــــلَ وَرْدٍ كُــــــــنّ بالأمْـــسِ نُــــــوَّمَــــــا

يُفَتّــــــقُهَــا بَــــــرْدُ النّـــــــدَى، فكَأنّـــــــــهُ           يَنِــــــــثُّ حَـــــديثاً كانَ قَبــــــــلُ مُكَتَّــــــــمَـا

وَمِـــــنْ شَـــــــجَرٍ رَدّ الرّبيـــع لِبَاسَـــــهُ            عَلَـــــــيْـهِ، كَمَـــــا نَشَّرْتَ وَشْــــياً مُنَمْنَمـا

أحَـــلَّ، فأبْـدَى لِلْعُيـــونِ بَشَــــــاشَـةً،           وَكَانَ قَـــذًى لِلْعَــــــينِ، إذْ كانَ مُحْرِمـا

وَرَقّ نَســـيمُ الـــــرّيحِ، حتّى حَسِـبْتُهُ           يَجىءُ بأنْفَـــــــــاسِ الأحِبّـــــــــــةِ، نُعَّـــــمَـا

ففي فصلِ الرّبيعِ أعراسٌ وحكاياتُ فرحٍ وقصصُ عشقٍ لا تَنتهي؛ إنّه موسمُ البهجةِ والسُّرورِ والحُبور، موسمُ زفافِ الكائناتِ، وانبعاثِ الحياة. فكلُّ عناصرِ الطّبيعةِ تتراقصُ فرحاً، وتنتَشي طرباً، وكلُّ عنصرٍ يعشقُ العناصرَ الأخرى، ويمتزجُ معها؛ ليرسمَ أبهى وأجملَ لوحةٍ في كنفِ الطّبيعةِ السّاحرة.

انظرْ إلى الطّبيعةِ الخضراءِ المزركشةِ بألوانِ الأزاهيرِ المفْعمةِ بأريجِ الرّياحينِ السَّكرى بكؤوسِ قطراتِ النّدى، وقد تفتَّحتْ عيونُ الورودِ؛ لتقبِّلَ أشعّةَ الشَّمسِ الذَّهبيّةَ، وراحتْ زقزقةُ العصافيرِ تمتزجُ بسقْسَقةِ المياهِ في الجداولِ؛ لتعزفَ أعذبَ سمفونيّةٍ موسيقيَّةٍ للحياةِ، ناهيكَ عن همسِ النّسيمِ، وحفيفِ أوراقِ الأشجارِ، وغناءِ الفلّاحينَ في الحقولِ والبساتينِ.

ولا ننسى غناءَ الأرضَ للغيثِ المنهمِرِ، وعشقَ الثّرى لحبّاتِ المطرِ، وتراقصَ الأغصانِ والنّباتاتِ وهي تلثمُ شفيفَ النّدى، وتَغرورِقُ بالدّموعِ اغرِيراقاً فرحاً بدفءِ الشّمس، ولكنّ الرّبيعَ مهما امتَطى من صهواتِ المجدِ والعزّةِ والجمالِ والكبرياءِ، فلا يُمكنُ أن يعتليَ عرشَ الجمالِ، دون أن يكونَ للشّتاءِ يدُ البيضاءِ، وللفصولِ الأخرى سجَايا العطاءِ، قال أبو تمّام:

رقتْ حواشي الدهرُ فهيَ تمــرمرُ        وغَـــــــــــــــدَا الثـّرَى في حَلْيِــــــــــــهِ يَتـــكسَّرُ

نَزلَتْ مُقَـــــدّمَــةُ المَصِيفِ حَمِيـدة        ويـــــــــدُ الشــــــــــتاءِ جديـــــدة لا تكفــــــــرُ

لولا الـذي غــــرسَ الشـــتاءُ بكفـهِ        لاَقَى المَصِيـــــــفُ هَشَــــــــائِماً لا تثــــمـــــــر

مَطَرٌ يَذُوبُ الصَّحْوُ منــه وبَعْــدَه        صَحْوٌ يَكادُ مِـــــــــنَ الغَضَــــــارة يُمْطِـــرُ

غَيْثَانِ فالأَنْـــــــــوَاءُ غَيْــثٌ ظاهِــــــرٌ        لكَ وجههُ والصـــــحوُ غيثٌ مضــــمرٌ

وندىً إذا ادّهنـــــتْ بهِ لممُ الثّـــرى       خِلْتَ الســــحابَ أتاهُ وهـــــــــو مُعَــذرُ

وتكتملُ لوحةُ الطّبيعةِ في دورةِ الحياةِ، ويمتزجُ الحزنُ بالفرحِ، وتختلُطُ الألوانُ بين الظَّلامِ والضّياءِ، بين الدُّجى ولألأةِ النُّجومِ، بين عتمةِ اللّيلِ وبزوغِ الفجرِ، وتتَهاوى الغصونُ والزُّهورُ والثِّمارُ، ويخبُو جمالُ السَّماء، ويذبلُ سِحرُ المروجِ تحت وطأةِ الرّياحِ والضَّبابِ والثُّلوجِ والأمطارِ والسُّيولِ، لكنّها تظلُّ حالمةً بأنفاسِ الرّبيع.

وهكذا الحياةُ حياةُ الكائناتِ فصولٌ متعاقبةٌ سرعانَ ما تَنتهي، وتَبقى الذِّكرياتُ، وتظلُّ الأحلامُ معلَّقةً بالرّبيع:

وفـي ليـــــــــلــةٍ مِـن ليــــــــالي الخَـــــــــــــــــــــــريفِ        مثقَّلــــــــــةٍ بالأسَـــــــــــــــــــــــــــى، والضّجَـــــــــــــــــــــرْ

سكرتُ بهــــــــــا مـن ضِيــــــــــاءِ النُّجــــــــــــــــومِ          وغنَّيْــــــــــــتُ للحُـــــــــــــــــــــــزْنِ حـتّى سَـــــــــــــــــكِرْ

سألتُ الدُّجَى: هــــل تُعيـــــــــــــــــــدُ الحـياةُ،          لمــــــــــا أذبلَتْـــــــــــه، ربيــــــــــــــــــــــــــعَ العُمُـــــــــــــــــــرْ؟

فلــــــــــم تتكـــلّمْ شـــــــــــــــــــفاهُ الظّـــــــــــــــــلامِ         ولـــــــــــــم تــترنَّمْ عَــــــــــــــــــــــــــــــذارَى السَّـــــــــــحَرْ

وقــــــــــــال لــيَ الغــــــــــــــــابُ فــي رقَّـــــــــــــــــةٍ          مُحَبَّبَـــــــــــةٍ مثـــــــــــــــــــــــــــلَ خــفْقِ الوتَـــــــــــــــــــــرْ:

يجِيءُ الشِّــــــــتاءُ، شــــــــــــــــــــــتاءُ الضَّبـابِ            شـــــــــتاءُ الثـُّلـــــــــــوجِ، شـــــــتاءُ المطَـــــــــــــــــــــــــــــرْ

فينطفِئُ السِّــــــــــــحرُ، سحرُ الغُصُــــــــونِ            وسِحرُ الزُّهـــــــــــــــــورِ، وسـِـــــــــحرُ الثـَّمَـــــــــــــــــــــرْ

وسحرُ السّــــــــــــــماءِ، الشَّـــجيُّ، الوديـــعُ            وســــــــــــــــــحرُ المــــــــــــــــــروجِ، الشَّهيُّ، العَــــــطِـرْ

وتَهْــــــــــــــــــوِي الغصـــــــــونُ، وأوراقُـــــــــهَـــا           وأزهـــــــــارُ عهـــــــــــــــــدٍ حـبيــــــــــــــبٍ نَضِـــــــــــــــــــــــرْ

وتلهُــــــــــــــــو بهــــــــــا الــــــــــرّيحُ فـي كلِّ وادٍ،           ويـــــــــدفنُهَـا السَّــــــــــــــــــــيلُ، أنَّـى عَــــــــــــــــــــــــــبَرْ

ويَفْنى الجمــــــــيعُ كحُــــــــلْمٍ بـــــــــــــــــــديـــعٍ،            تــألّــــــــــــــــــقَ فـــي مُهْجـــــــــــــــــــــةٍ واندثـَــــــــــــــــــــرْ

وتَبــــــــــقـى البُــــــــــــــــذورُ، الّتـي حُمِّــــــــــــلَتْ            ذخـــــــــــــــــيرةَ عُمْـــــــــــــــــــــرٍ جـمـــــــــــــيلٍ، غَــــــــــــبَرْ

وذِكــــــــــــرى فصــــــــــولٍ، ورؤيَـــــــــا حيَـــــاةٍ،            وأشـــــــــــباحَ دُنْيـــــــــــــا، تلاشَـــــــــــتْ زُمَــــــــــــــــــــــرْ

معانِقــــــــــــــةً وهـي تحـــــــتَ الضَّــــــــــبـابِ،            وتحـــــــــــتَ الثـُّلـــــــــــــوجِ، وتحــــــــــــــتَ المَـــــــــــدَرْ

لِطَيْــفِ الحـــــــيـاةِ الّـــــــــــــذي لا يُمَــــــــــــــــلُّ            وقلــــــــــبِ الـرّبيــــــــــــــعِ الشـَّــــــذِيِّ الخَـضِــــــــــرْ

وحـــــــــالمِـــــــــــــــــــةً بأغــــــــــــاني الطُّيـــــــــــــــــــــورِ            وعِطْـــــــــــــــرِ الزُّهــــــــــــــورِ، وطَعْـــــــــــمِ الثـَّمــــــــــرْ

إذنْ فالحياةُ لوحةٌ تتشابكُ فيها المشاعِرُ، وتختلطُ فيها دموعُ الفرحِ بدموعِ الحزنِ، وتذوبُ فيها لحظاتُ السّعادة بأوقاتِ الشّقاءِ، ويخبُو الأملُ في ضبابِ اليأسِ، وتَغيبُ الشَّمسُ في عَتمةِ اللَّيلِ، ويكفهِرُّ وجهُ القمرِ، وتغفُو النُّجومُ بين سحُبِ الشِّتاء، ويخلَعُ الرَّبيعُ أرديتَه الجميلةَ، ويكفِّنُها الشِّتاءُ بعباءتِه الدَّاكنة، وتغـرقُ حركةُ الكائناتِ في بحارِ اللّيل وصقيعِ الشّتاء، ويمَّحي عزْفُ البلابلِ والجداولِ تحت قصْفِ الرّعودِ وهديرِ المطرِ، وتقضِي الكائناتُ نحبَها، وتستمرُّ الحياةُ بولادةِ كائناتٍ جديدةٍ، ويظلُّ القمرُ بين هلالٍ وبدرٍ، وتبقَى الشَّمسُ بين شروقٍ وغروبٍ، وتستمرُّ الطَّبيعةُ بين صيفٍ وخريفٍ وشتاءٍ وربيعٍ، وليلٍ ونهارٍ، بين حرٍّ وقرٍّ، بين دورانٍ أو توقُّفٍ لا يعلمُه إلّا مَن أبدعَ الكونَ بكلِّ ما فيه من كائناتٍ.

الشارقة في 23/12/2012

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

أوَابِدُ التَّحدِّي

انطلقَتْ بنا الحافلاتُ الثَّلاثُ من قريةِ نيصَافَ السَّاعةَ السَّابعةَ صباحاً، برفقةِ الأخِ خالِد يوسُف والجهازِ الإداريِّ والتَّدريسيِّ في المدرسةِ، مع طلَّابِ وطالباتِ المرحلةِ الإعداديَّةِ، وكلٌّ…

تعليقات