فعل المقاومة في ديوان”عشان أقدر أغنيلك”للشاعرة هناء جودة د/ سيد عبد الرازق 

تمهيد:

عادة ما يطلق شعر المقاومة على الشعر السياسي الذي يهتم بالقضايا القومية والدفاع عن قضية ما في وجه نقيضها كالحرية ضد الاحتلال، العدل ضد الاستبداد، وهذا يختلف بالكلية عما ترمي إليه هذه الدراسة التي تركز على فعل المقاومة النفسي والعضوي الذي تتخذه الشاعرة في مواجهة ما يطرح أمامها من عقبات، وما يعن لها من أمور، ووجهة نظرها التي تفرضها من خلال النص، وصور هذه الردة الفعلية من خلال الكتابة.

ببليوجرافيا الكتاب:

– التعريف بالديوان: ديوان”عشان أقدر أغنيلك” صادر عن سلسلة ديوان شعر العامية بالهيئة المصرية العامة للكتاب لعام 2017م.، وهو الإصدار الثاني عشر للشاعرة حسب ما تروي سيرتها الذاتية المرافقة له.

– الغلاف الخارجي للكتاب: صورة لفتاة ذات شعر متهدل، تنم قسماتها عن حزن ما؛ حيث انكسار العين، وإحاطتها بهالة سوداء، دونها خلفية لأرض متشققة يطغى عليها اللون الأخضر؟!، وأظنها رمزية تبتعد عن عنوان الديوان الذي هو من المفترض يدل على الغناء.

– الغلاف الخارجي الخلفي: أعلاه تقع صورة مجمعة لأربعة من عرابي شعر العامية في مصر وهم – من اليمين لليسار – بيرم التونسي – صلاح جاهين – مرسي جميل عزيز– فؤاد حداد، وأدناه مقطوعة شعرية من قصيدة ”هشاشة فكر” جمعت فيها الكاتبة بين أسماء ثلاثة فلاسفة هم أرسطو وسقراط وهيباتيا ومن المعروف أن سقراط هو أستاذ أفلاطون وأن كلا من أرسطو وهيباتيا تلاميذ للمدرسة الأفلاطونية على تفاوت الزمن بينهما، ومن خلال المقطوعة تود الشاعرة أن تعبر عن أن هذه السلسلة الفلسفية الطويلة على اختلاف عصورها ونتاجها لم تستطع من وجهة نظر الشاعرة أن تجيب تساؤلات الشعر، وكان الأحرى بالغلاف أن يضم صور تلك الشخصيات المذكورة بدلا من صور شعراء العامية المصرية إذ لا موقع للصورة من الإعراب اللهم إلا إذا كانت الشاعرة ترمي إلى أن معاناة الشعر وتساؤلاته ممتدة منذ هؤلاء وحتى اليوم لكن حتى مع ذلك التصور يبقى العمق الزمني الممتد إلى ما قبل التاريخ في المقطوعة أكثر بروزا من الصورة أعلى النص.

– الوصف الداخلي: يتكون الديوان من عدد 144 صفحة قطع متوسط بخلاف الغلاف الخارجي تضم ”الغلاف الداخلي – صفحة الإيداع – عنوان داخلي – إهداء – عدد 36 قصيدة – سيرة ذاتية” تتراوح فيه القصائد بين الطول والقصر، وبحذف الصفحات الداخلية الفارغة يتبين لنا أن متوسط القصيدة حوالي 3 صفحات من القطع المتوسط وهو طول مناسب جدا.

الديوان:

– الإهداء: إحدى العتبات الهامة للديوان التي لخصت فيه الشاعرة تجربة الديوان العامة، حيث تتأرجح فاعليتها ومقاومتها بين الهشاشة والقوة وتتخذ مواقف متناقضة فهي ذاتها التي تستند إلى جدار الوجع حافية، تنزف دموعها لكن النزيف هنا ليوَلِّد لحنا كرد فعل مقاوم، وتتلاعب بها المقادير في هذا الزمن الذي فقد إنسانيته لكنها في الوقت ذاته تستطيع أن تستلب منه يومين تستعيد فيهما قدرتها على الغناء.

صور فعل المقاومة داخل الديوان:

1- فعل المقاومة المتمثل في الانحياز للأمل في مواجهة اليأس:

تتجذر شجرة الأمل في بعض القصائد الموجودة بالديوان كرد فعل على العجز واليأس المسيطران على الصورة التي تلتقطها الشاعرة في الواقع المعاش لكن الأمل أحيانا يأتي في صورة فولكلورية مستأنسة ومكرورة فالشجرة التي تطلب الخلاص (ص 8) من الخريف في رمزية لحياة الوطن، ستستحيل مركبة ليأتيها السندباد/ المهدي المنتظر الذي تنصاع له الريح ويخشاه الموج ويصل بها لبر الأمان.

2- فعل المقاومة المتمثل في إقامة إطار حول الذات في مواجهة العالم الخارجي:

في هذا الإطار تخلص الشاعرة – اعتمادا على خبراتها وقطعها لمشوار الحياة – إلى أن الحياة هي أصوات متداخلة تثير في نفسها التوتر والقلق، بشر لا يحملون غير الجفاف والجفاء، حياتهم صورة للجحيم لهذا وكمواجهة لهذا العالم تنأى الشاعرة بنفسها، وتنكفئ على ذاتها بعدما تبين لها صدأ القلوب المحيطة بها متخلية عن اهتمامها بما حولها، معتبرة ما حولها أسئلة بلا معنى ليست جديرة بالإجابة عنها مرة، وهذا يتجلى في قصيدة ”مافيش إجابات ص 11″.

مرة أخرى تتخذ نفس الموقف في الانغلاق على الذات وخلق إطار أخلاقي وقيمي في مواجهة اختلال ميزان العدل وانحسار موجة الهدى أمام الضلال وسيطرة الجليد على أرض الشمس فاختارت الشاعرة أن تختار لنفسها كهفا بعيدا تتوحد فيه مع أمانها الذاتي تقيم فيه طقوس الولاية لقلبها الذي لا ينفك يغرد بالتكبيرات والدعاء في قصيدة”ح ارسم وطن”ص 41.

ثم تعود الشاعرة في قصيدة ”مولودة جديد” ص 46 إلى ذاتها حيث تتوارى خلف ذاتها، تتصالح مع نفسها وتخلق شمسا خاصة بها وجنة لها وحدها، لكنها هذه المرة وبعد تحقيقها للصفاء الداخلي تستعيد قدرتها على الخروج مما اعتبرته شرنقة داخلية إلى الحياة مرة أخرى.

3- فعل المقاومة المتمثل في الانحياز للحقيقة في مواجهة الزيف:

ربما كانت السمة الأبرز في الديوان هي دفاع الشاعرة عن ذاتها وكلماتها وفلسفتها دائما ضد الاتهام بالزيف وتعد كلمة الزيف من أكثر الكلمات مرورا ببصر القارئ عند مطالعة الديوان، ترفض الشاعرة الاختباء خلف المساحيق وتعتز بالتجاعيد التي أورثها إياها الزمن وهي تناطحه وترفض الخضوع له، وتبرر رفضها للاختباء بأنها عانت الكثير من التجارب الذاتية: اليأس والجرح والتيه وعجز الحلم حيث بلغ بها عنان السماء لتلقيها الشمس بأشعتها وتسقطها على الأرض ربما تأثرا بمعاناة إيكاروس، في قصيدة ”حدفتني الشمس ص 17″.

لكن هذا الانحياز للحقيقة في مواجهة الزيف لم يمنع الشاعرة في أن تتقلب مشاعرها الإنسانية وتلجأ إلى المداراة والمواربة لكي لا يشعر الناس بضعفها كرد فعل مقاوم لما حولها فهي تواري الوجع بالضحكات، تخبئ ضعفها في ضحكة تتعكز، وتخبئ الحزن بالمساحيق في انتقال تام للنقيض عن الحالة السابقة في قصيدة ”حدفتني الشمس” إلى الحالة التي رفضتها واعتبرتها زيفا معبرة عن ذلك بقصيدة ”ضحكة وجع ص 4” وهي من القصائد التي تميزت بالصورة الممتدة المتماسكة والمتناسقة داخل الديوان.

ومن صور الانحياز للحقيقة في مواجهة الزيف أيضا ما اختُص به قلم الشاعرة في قصيدة ”أكبر شرك ص 23” حيث أصر القلم على البوح والتخلص من الخجل رغم ما تتسبب به الكتابة من جراح وفضح للواقع المر فأحلام البنات لا تزال مصلوبة على الطرقات كأعمدة الإنارة والدنيا ليست إلا شركا لمن يطلبها ولا مفر من التعرض لمرار هذا الواقع بالكتابة انحيازا للحقيقة في وجه الرتوش مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك.

ولأن الشاعرة جربت من حولها وعرفت معادنهم التي تتسم بالزيف والخداع، حين تخلوا عنها في أشد لحظات احتياجها حتى لم تعد تكترث لبقائها بينهم فهي وحيدة كالميت تماما، هؤلاء الذين لولا خشيتهم من نظرة الناس ما مدوا لها يدا ترفضهم وترد عليهم أكفانهم وتؤجل موتها ساعة حتى تشتري كفنها بنفسها وتستعد للقاء الموت محتفية به متعطرة للقائه لأنه سيخلصها من هؤلاء المزيفين في صورة بديعة لمقاومة الزيف حتى في أحرج لحظات الحياة كما تعبر عن ذلك قصيدة ”ميلاد الموت” ص 67.

وفي قصيدة ”مغامرة فاشلة” ص 102 بعد أن رصدت الشاعرة صور النقص والميل فيما حولها، وعجزها أمام تحقيق الإصلاح الشامل، واعترافها بأن زيف الضمائر لا يمكن معالجته إلا أنها قررت أن تقاوم هذا الزيف بكسر كاميرا المشهد وتسليط المرآة لتعكس الصورة الحقيقية وفضح كافة الزوايا انحيازا للحقيقة.

4- فعل المقاومة المتمثل في الانحياز للحلم في مواجهة الواقع:

الحلم وسيلة دفاعية تهرب بها الشاعرة من الواقع المرير وطعم الجراح وحشرجة الكلمات، لا تكتفي بأن يقتصر الحلم عليها بل يمتد ليشمل الفراشات التي تستدفئ بحلمها من برد الواقع، وتتقمص فيه الشاعرة شخصيات نفرتاري وحتشبسوت ونفرتيتي كما في قصيدة ”يجوز بكرة” ص 27، أو هو العودة بالحلم إلى مرحلة الجنين وبداية رحلة التكوين، أو التحول لعصفورة كما في قصيدة ”شايفاني اتنين” ص 29.

تعليق عام:

بالإضافة إلى الطرح الذي قدمته الدراسة حول فعل المقاومة داخل الديوان وصوره المختلفة إلا أن هناك جوانب أخرى يجب الالتفات لها:

1- رسم منحنى فعل المقاومة داخل النصوص: عادة يتأرجح فعل المقاومة داخل النص الواحد بين القوة والضعف لكن الشكل العام للمنحنى هو ارتفاع ذروة المقاومة ثم الخفوت الذي قد يصل إلى درجة الانهزامية والمتمثلة في نهايات القصائد لنرى السقوط بعد التحليق في حدفتني الشمس، تغلب الجرح في أكبر شرك، موت الحلم في يجوز بكرة… إلخ. مما يطرح سؤالا وهو إذا كانت هذه هي روح الشاعر فمن الذي سيبث الأمل للناس؟

2- أحيانا في محاولة الشاعرة تصدير فعل المقاومة عبر القصيدة تطغى المنبرية والوعظية وإسداء النصائح والحِكم في بعض قصائد الديوان باستخدام صيغتي افعل ولا تفعل يتجسد هذا في قصيدة ”اهدي نفسك” ص 69 – قصيدة ”شيء مهجن” ص 73 – قصيدة ”جسر العزيمة” ص 84 – قصيدة ”القلوب البيضا” ص 99.

3- هناك مزيج بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي داخل الديوان، وفي القصائد الموضوعية خاصة تلك المتعلقة بالوطن والدفاع عنه نجد السمة الغالبة هي أن الموضوع وطريقة المعالجة ليسا جديدين بالكلية وإنما يجب التوقف أمامهما بعض الشيء لإعطاء الفرصة لطرح مغاير مدهش والذي تمثل في قصيدة ”شجرة حياة”، بينما جاءت قصائد (عشان أقدر أغنيلك، أمر واقع، ع الرصيف، عدسة تانية، جواب مسوجر، قمة هرم، شيء اختل) في حاجة إلى المزيد من العمق والتخييل.

4- الولع بالرصد والنقد الذاتي والمجتمعي أدى إلى تكرار المدخل عن طريق التصوير واستخدام نفس الصورة الشعرية بمكوناتها ( الكاميرا/ البلاتوه / الفيلم/ المشهد/ العدسة/ الصورة/ الكادر… إلخ) بشكل لافت للنظر فقد تكرر استخدام نفس التقنية في قصائد (أفيش الفيلم/ ميلاد الموت/ شيء مهجن/ عدسة تانية/ مغامرة فاشلة).

5- الأوضاع السياسية والاجتماعية أحيانا ما تفرض على الكاتب أمورا منها استخدام الرمز والقناع ليصل ما يريده إلى القارئ دون إيهام ودون أن تقع على عاتقه مسؤولية ما لاحتمال التأويل، ومن هنا لجأت الشاعرة للرمز خاصة الرمز الحيواني في الكثير من القصائد منها( أفيش الفيلم/ جسر العزيمة/ ألف هويس).

6- التفاعل مع الموروثات الدينية والشعبية والتاريخية والميثولوجية كان أحد العوامل شديدة الحضور داخل الديوان حيث نطالع في الديوان السندباد والمهدي المنتظر في قصيدة شجرة حياة، نفرتيتي ونفرتاري وحتشبسوت في قصيدة يجوز بكرة، أسطورة إيكاروس في قصيدة حدفتني الشمس، قراءة الفنجان والطالع وفتح المندل ومؤاخاة الجن في قصيدة أفيش الفيلم، بلال بن رباح في قصيدة ح ارسم وطن، يهوذا والمسيح في قصيدة مين يهوذا؟، أسطورة نرسيس في قصيدة كل القصايد بور، مريم والنخلة في قصيدة جواب مسوجر، اليزيد والحسين وقابيل وهابيل في قصيدة وقعدنا نستنى انفجار، أرسطو وسقراط وهيباتيا في قصيدة هشاشة فكر، أيوب في قصيدة بهاريز، فاكهة الجنة في قصيدة جرعة زيادة، عتريس وفؤادة في قصيدة ألف هويس، بعض هذه التناصات كانت ممتدة ومؤثرة بينما كان البعض الآخر مجرد استدعاء للأسماء دون إفادة حقيقية للنص.

7- شيوع التأثر بالحكمة والمثل الشعبي والتناص معها في مواضع متعددة من الديوان مثل: ص 9 بالصبر أي حديد يلين في إشارة لقول الشاعر”ألا بالصبر تبلغ ما تريد… وبالتقوى يلين لك الحديد”، ص 74 مش هتنفع طار وطبلة من المثل الشعبي”لا ينفع دف ولا طار”، ص 75 دا اللي فاقد شيء لا يمكن يدي منه حد تاني في إشارة للحكمة ”فاقد الشيء لا يعطيه”، ص 94 دي الحياة متجيش تمنى في إشارة لقول شوقي ”وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”، ص 112 ويبقى البيت حيطانه إزاز وبرضوا بيحدفوا بالطوب في إشارة للمثل الشعبي”إللي بيته من إزاز مايحدفش الناس بالطوب”، ص 127 وطول ما البطن بيت الداء مطابقة لحكمة الحارث بن كلدة المعدة بيت الداء.

8- الموسيقى: الديوان من شعر العامية الموزون بالتفعيلة ولقد ولِعت الشاعرة بالموسيقى الخارجية المتمثلة في الالتزام بالتفعيلة والقوافي المتقاربة لإعطاء الجرس الموسيقى المطلوب بالإضافة للموسيقى الداخلية من خلال التجانس بين الحروف والكلمات والجمل وكان رصد التفعيلات كالتالي:

التفعيلة فاعلاتن مفاعلتن وصورتها مفاعيلن متفاعلن وصورتها متْفاعلن فعْلن وصورتها فعِلن مستفعلن فعلن الإجمالي

العدد 12 11 7 4 2 36

يحوي الديوان كسر عروضي واحد هو”نص العذاب ظاهر ونصه التاني متداري”ص 113 حيث القصيدة على تفعيلة مفاعيلن وجاء السطر على وزن مستفعلن.

ختاما: لشعر العامية المصرية بريقه ومكانته التي دائما ما تحلق بأفضية الكلمة والصورة والخيال ولديه القدرة الكاملة على إحداث وعي مجتمعي ورصد بالغ الأهمية لتاريخنا المعاصر مع تحقيق كافة العناصر الفنية التي تكفل له الخلود والبقاء. 

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات