تهويدة إباء الخطيب في خطة الألوان السريةسيد عبد الرازق

عندما تكتب شاعرة مسرحية وأم لأطفالها، فهي تكتب عبر عاملين رئيسين: الموهبة والتجربة، ولأدب الأطفال خصوصيته النوعية التي تحمل كاتبيه على المشي على حد الكتابة؛ إذ إن الغاية في الكتابة للطفل يجب أن تتوفر فيها أعلى درجات المتعة، وسبك الحكي، ومغازلة الموسيقى، وبساطة اللفظ، وعمق المعنى، والقيمة التعليمية، وجاهزية النص للنقد الطفولي، فالطفل يسأل ويحلل وليس مجرد أداة للاستقبال، كل ذلك يضع على عاتق كاتب الطفل مسئولية كبيرة ربما أدت إلى ابتعاد الكثيرين عن هذا المضمار.

ارتسم في وعي إباء ما قاله غورجياس (فيلسوف سفسطائي يوناني ت:375 ق.م) “الكلام متسلط كبير، فبواسطة جسم صغير وغير محسوس: تـنجَز الأعمال الأكثر قدسية، حيث أن له القدرة على تسكين الخوف، ونزع الألم، وتوليد الفرح، وتعظيم الشفقة” لذا جاء استثمارها لعنصر اللغة موفقا في إبراز الموقف النفسي لشخصيات مسرحيتها، متطورا مع الشخصية في علاقة الـ (من- إلى).

اعتنت في تفصيلاتها اللغوية بمراعاة البعد النفسي للغة – العامل الأهم في الكتابة للطفل – فقامت بتوظيف الأصوات داخل النص، وعمدت إلى تنظيم الكلمات ليسهل تلقيها وتخزينها في المعجم العقلي للطفل، والترميز في المعنى بما يمكن لعقل الطفل التعامل معه وفك شيفرته، عبر لغة تتسم بالبساطة، تم استقاؤها من مفردات اليومي للطفل العربي، تتوائم ومقدرته على الفهم، في اتزان مهم يعطي النص فصحاه دون تسطيح على المستوى اللغوي أو مستوى الوعي، بل إنها جنحت لما يعرفه المسرحيون باللغة الثالثة وهي مشتقات العامية والفصحى التي تستثمر في العرض “أبو الوهوج = في إشارة لوهج الشمس الشرير إحدى شخصيات المسرحية، الطبخة تستوي، لون قليل التربية، يا حرام، قال قبلا رأسي بعضكما قال، خلاص خلاص بلاها ياللساني الطويل، وحدي وبس، لا أريد أن يزعل مني أحد، أكيد ونص،… إلخ”

ربط النص اللغة المعاصرة واللغة الثالثة بالموروث اللغوي العربي الأمر الذي له قيمته من حيث تردد الصيغ العربية الموروثة على أذن الطفل لزرع قيمة الانتماء إلى اللغة بأصالتها وتاريخها “جل من لا يخطئ، لا حياة لمن تنادي، الساكت عن الحق شيطان أخرس، ماذا دهاكم، لقد استفحل الأمر، سمعا وطاعة،… إلخ”

ربما مما تجدر الإشارة إليه في هذا الباب أن النص المسرحي لا بد أن يكتفي بنفسه، فهو لا يحتاج للتوضيح عبر الهوامش خاصة إذا تعلق التوضيح بدراما النص، الممكن جدا (عبر الحوار) الكشف عن مفهوم “قرص نيوتن” دون اللجوء إلى الهامش، وهو ما قامت به الكاتبة على لسان اللون الأبيض “أنا اللون الأبيض، ناتج عن اندماج كل ألوان الطيف” لذا لم يكن هناك داع للتذييل.

ولأنه يمكن الاعتماد لفهم اللغة عبر سبيلين الأول يتمثل في قراءتها في سياقها، والثاني يتمثل في نزعها بمنأى عن السياق، حاولت إباء أن تكون تنوعاتها اللغوية بين الحوار، والمقطوعات الشعرية متسقة متوازية المعنى يمكن اجتزاؤها وقراءتها عبر السبيلين السابقين دون أن تحمل رسائل مكرورة، فيمكن ببساطة قراءة المقطوعات الشعرية منفردة عن النص بذات القيمة الدلالية لوجودها داخل النص، فلم تكن عبئا على النص بل كانت محركا للدراما داخله، وجزءا من الحوار المتنامي بتنامي النص.

يعمد توفيق الحكيم (كاتب مصري، ت: 1987م) إلى أن الحوار هو “الأداة المسرحية” فهو الذي يعرض الحوادث ، ويخلق الشخصيات، ويقيم المسرحية من مبدئها الى ختامها، وعند إتيان سوريو (فيلسوف فرنسي، ت: 1979م) هو جملة المنطوق بين الشخصيات خلال المسرحية فهو أساس العمل المسرحي وله خصائص متعددة منها:

الخاصية الصراعية: فهو يتسم بالصراع وتضاد وجهات النظر، وهو ما تحقق بكفاءة في خلق صراعات جانبية تهدف إلى تكوين الصراع الأكبر في المسرحية، فما بين صراع فردين من أبناء اللونين الأحمر والأصفر، ومن ثم صراع أكبر بين مجموعات صغيرة من الألوان، إلى أكبر منه وهو صراع كل أبناء مملكة الألوان، ثم صراع أكبر وهو صراع المملكة مع وهج الشمس الشرير، في تصاعد درامي عبر حوار صراعي محكم يأخذ العمل لخاتمته مستخوذا على اهتمام الطفل المتلقي واندماجه.

خاصية الوضوح: حيث تعبر الشخصيات عن نفسها عبر منطوقها، وهنا لجأت الكاتبة إلى ألوان متعددة من الحوار: الحوار الخارجي بين الشخصيات، والحوار الداخلي أحاديا كان عبر مناجاة وهج الشمس الشرير، حيث كشفت عن مكنونات شخصيته بحيث يتمكن جمهور الأطفال من كشف تفاصيل الشخصية النفسية، أو حوارا جانبيا حين تتحدث شخصية دون أن تسمعها بقي الشخصيات، وهو يعبر عما يجول في خاطر الشخصية، أو حوارا موجها للجمهور ربما جنح لقليل من الوعظية والمباشرة، خاصة في مونولوج الملك الأخير، أو الخطاب المباشر مع الجمهور مثال حديث وهج الشمس في بداية المشهد السابع.

كلما كانت الحكاية مرحة وسهلة وتجنح للأعاجيب وترسم قيم البطولة وتتمازج بالشعر ولا تخلو من قيم تعليمية وتربوية وروح دعابة ولا تميل للجفاف العلمي أو الوعظية والإرشاد الواضحين المباشرين، كان عامل الجذب فيها أكبر لذهن الطفل.

ارتكزت إباء في سرد كافة جوانب مسرحيتها على رسم المناظر مهتمة بدقائق وتفاصيل الأماكن والملابس والحركة أيضا بما جنح في بعض مناطق النص إلى كتابة ما يشبه “سكريبت الإخراج” إن جاز التعبير، الأمر الذي من المهم التخفف منه مستقبلا، لتقليل مساحة “الارشادات المسرحية” غير الضرورية في العمل والمتروكة لتنفيذ المخرج.

لم تغفل إباء داخل نصها عن توظيف المناظر المتغيرة إذ تكونت المسرحية من ستة عشر مشهدا على شكل “فلاشات” مسرحية صغيرة تتناسب وديناميكية الحركة الدرامية والصراع داخل النص، فاستثمرت عاملي الزمان والمكان في رسم صورة المنظر (الصباح الباكر، الظهيرة/ الساحة العامة، قاعة الاجتماعات، خلفية السماء والغيوم، اللافاتات،… إلخ).

كان للعبة الضوء واستثمارها دور في بناء الصراع في المسرحية، خاصة في مشهد اتهام اللون الأحمر بسرقة لمعان اللون الأصفر، وبداية المشكلة بين الفريقين، كان توظيف الإضاءة مهما ومحوريا داخل النص، فهو هنا ليس متزيدا، بل إنه ركيزة من ركائز المشهد، أدى دوره تماما في الفعل الدرامي.

أفادت المسرحية من المؤثرات الصوتية سواء تلك التي تأتي من خلف الكواليس والتي استثمرتها في التقديم للحدث منذ المشهد الأول “فنسمع جملا من أحاديثهم مثل: )هيا أسرعوا(، )هل الزينة جاهزة؟(، )العربات والأضواء تم تجهيزها(، )أين وضعت الأغراض؟(.” وفي تصوير اضطراب المملكة، أو في الموسيقى والأغاني داخل متن النص.

لم يكن الزي المسرحي في هذه المسرحية عاملا مكملا للشخصيات بل كان ركيزة رئيسة؛ إذ إن المسرحية قائمة على فكرة ألوان الطيف متجهة إلى دلالة توحدها في الأبيض لذا كان الزي ولونه عاملين رئيسين تنبني عليهما المسرحية، دون تدخل في تصميمه على شاكلة معينة، فاللون هنا كان موضحا لنمط الشخصية، مطابقا لبيئتها، مفسرا لما شاع من تأويلاتها، من غرور الأحمر، وملكية الأسود، وغيرة الأصفر، … إلخ.

لعبت الموسيقى دورها في النص، ولعل أبرز توظيفاتها موسيقى الشعر، فجاءت بحور راقصة متناغمة مع حالة العرض انحازت فيها الكاتبة إلى الإيقاع الموسيقي أكثر من الالتزام بالضبط العروضي، خاصة في المناطق التي استثمرت بها اللغة الثالثة كما أشرنا سلفا، مع تعدد للقوافي داخل المقطوعة الواحدة مما يكسبها الخفة والرشاقة، وهو أمر اعتمد عليه حتى الأقدمون في محاولة تمرير القيم التعليمية عبر المتون.

تمايزت الجملة الحوارية بين القصر المكثف جدا، وبين المونولوجات الطويلة التي تحتل المشهد، لكنه طول مقبول جدا نظر الأن المشاهد قصيرة ومتتالية تماثل الفلاشات البسيطة التي تكون قطع البازل النهائية مما ييسر على المتلقي الطفل التقاطها بيسر، وإضافتها إلى معجمه اللغوي العقلي.

مررت إباء عبر مسرحيتها قيما متعددة دون إثقال لكاهل النص فحاولت حتى في المناطق التي تتطلب وعظية إلى تخفيف حدتها عبر موسقتها شعرا، ففي تناولها لقيمة الوطنية: بلادنا بلادنا تنفسي حناننا، لنحصد الأمان، في موسم الألوان ويعلم الجميع أن لنا ربيع، من سعينا وجهدنا، وحبنا لبعضنا، وأخبري الزمان، أبناؤك الألوان، تعودوا التعاونا، بلادنا بلادنا” تعمد في هذا المقطع المعبر عن قيمة تالدة وراسخة تناولها ملايين الشعراء إلى رسمها من زاوية تتلائم وروح النص المسرحي، ممرة القيمة عبر خفة الدلالة التي يمكن للطفل التعامل مع رمزها بسهولة، ومن القيم التي تناولها النص أيضا: ربط الجائزة بالعمل “سوف يقوم الملك الأسود، والحكماء الملونون بتوزيع الجوائز على الذين قاموا بإنجازات وأعمال مميزة خلال العام”، وأن الإصلاح يبدأ من الذات ” لن يصلح مملكتنا سزى أبنائها”، وطريقة التعبير عن الاختلاف، وأسلوب إدارة المناقشات الجمعية، وأهمية وجود أهل الحكمة، وقوة الإدارة، وغيرها مما يرسخ في الطفل كيفية حل المشكلات وعصف الذهن وأهمية التشاور، والموازنة بين حكمة الكبار، واندفاع الصغار.

تسللت روح التهويدة إلى النص عبر المقطوعات الشعرية التي تماثل ما يتم التغني به عند نوم الطفل والتي تعتمد على التكرار اللفظي والسجع النثري والقافية الشعرية “لكن عبثا عبثا عبثا، بعض الخضر، حضروا الحدثا” و “كما يقول المثل، نحلة واحدة لا تجني العسل” وفي سرد حكايات الجدات/ الحكماء في المشهد الثاني كاملا.

لم تخرج إباء عن مضمار الطفولة في كل مفردات النص حتى في استثمار الرسوم داخله، فالصور داخل النص ليست احترافية ولا مصممة عبر الحاسوب بل للوهلة الأولى تظنها “شخبطات” طفلة بحيث يستطيع المتلقي الطفل العادي أن يواكبها ويرسم مثيلها لباقي مشاهد المسرحية، فهي بسيطة ومعبرة.

عبر المشاهد القصيرة المركزة، وعدد الممثلين الكبير الذين يمكن توظيفهم حال تنفيذ المسرحية في الشاهد والمجاميع والاستعراضات، ومتطلبات الديكور والملابس البسيطة والمؤثرات الصوتية وغيرها، يمكن القول إن إباء تستنبط واقع مسرح الطفل والمسرح المدرسي الذي تتوافر فيه بالضبط العوامل التي مررتها، من حيث عدد الأطفال الكبير في فريق المسرح، وحبهم للأدوار، عدم إرهاق الطفل في دور كبير، الإمكانات البسيطة لدى تلك المؤسسات، وهذا يشف عن تماس التجربة مع النص.

إن لسيميائية هذا النص الذي يتطور صراعه عبر علامة اللون ودلالات اختلافه، والقيمة القصدية التي أرادتها الكاتبة، والأبعاد التي أوحت بها الصورة الذهنية للنص، وانعكاساتها من خلال اللغة الدرامية، كل ذلك يجعل من خطة الألوان السرية عملا مسرحيا جديرا بالاحتفاء به على خشبة المسرح وتحويله من نص إلى عرض.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

لُغتُنا.. هُويّتُنا

المقدّمةُ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ الّذي نزّلَ القرآنَ العظيمَ هدىً ورحمةً للعالمينَ، وخصّهُ بلغةٍ بالمعاني تَتَعالى، وبالألفاظِ تتَباهَى، وبالبلاغةِ تتَهادَى، جلِيـلةً في قَدْرِها، عظيمةً في…

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات