ضَيْفٌ مِسكينٌ

في حقلِنا المجاورِ لبيتِنا الرّيفيّ المتواضعِ تتربّعُ عرشَ جمالِه أشجارُ التُّفّاحِ والتّينِ والدُّرّاق، وتكلِّلُه عرائشُ العنبِ بالخضرةِ والنَّضارةِ والجمالِ، وفيه حظيرةٌ للحيواناتِ تضمُّ الأبقارَ والأغنامَ، وفي إحدى زواياهُ خُمٌّ للدّجاج، وفي زاويةٍ أخرى كلبٌ للحراسةِ مربوطٌ، ينبِّهُنا بنباحِه كلّما اقتربَ غريبٌ من الحقلِ.

ذاتَ يومٍ عاد أبي من الحقلِ، وسهِر معنا سهرةً عائليّة، وكان يسرحُ بفكرِه وكأنَّ شيئاً ما حدثَ معه، ولم يَبُحْ لنا بسرٍّ كان يكتمُه، وفي الصَّباحِ الباكر استيقظَ أبي، وراحَ يقهقِهُ والضّحْكةُ تملأُ قلبَه وفمَه مردِّداً: مسكينٌ.. مسكينٌ!

o جدّي: من هذا المسكينُ يا بُنيّ؟ (أصابتْنا الدّهشةُ، ونحنُ ننتظرُ معرفةَ هذا المسكينِ.).

o أبي (مغنّياً): مسكينٌ.. مسكينٌ!

o جدّي: هل هذه أغنيةٌ أم لغزٌ؟ أفهِمْنا! دعْنا نغنّي معكَ.

o أبي: في حقلِنا ينامُ ضيفٌ عزيزٌ؛ إنّه مسكينٌ… مسكينٌ!

o جدّي: لماذا لم تُحضِرْه معكَ إلى البيتِ؛ لنقومَ بواجبِ ضيافتِه؟

o أبي: إنّه ضيفٌ ودودٌ، وصديقٌ أليفٌ لدجاجاتِنا.

o جدّي: أتتركُ الضّيفَ بين الدَّجاجِ؟ يا لَلعارِ!

o أبي: إنّه ليس رجلاً، بل ثعلبٌ مسكينٌ!

o جدّي: (ناهضاً من مكانِه كالبرقِ، وقد استلَّ بندقيّةَ الصّيد): أنتَ المسكينُ يا ولدي!! إنّه ثعلبٌ ماكرٌ.. ويحكَ! لقد فعلَ الماكرُ فعلتَه، فتخلّصَ من الدّجاج.. ليتَ دجاجةً واحدةً تكفي غدرَه وخيانتَه!

تعالَوا معي لأريَكم غدرَه ومكرَه! انطلَقْنا جميعاً إلى الحقلِ، وسرعانَ ما وصلْنا إلى خُمِّ الدَّجاج؛ لنرى المجزرةَ التي حلَّت بالدَّجاجاتِ، فبعضُها مقطَّعُ الأوصالِ، وبعضُها منتوفُ الرّيشِ، وبعضُها مخنوقٌ، وبعضُها مأكولٌ، ولم يبقَ ما يدلُّ على بشاعةِ الجريمةِ إلّا أشلاءُ الدّجاجِ المتناثرةُ هنا وهناك، والرّيشُ المتطايرُ في الهواءِ!

دُهِشْنا لهولِ المُصابِ، وحزنّا على دجاجاتِنا الّتي كنّا نلاعبُها صباحَ مساءَ! كنّا نجودُ عليها بالحَبِّ، وكانت تجودُ علينا بالبيضِ.

o جدّي: أين صاحبُك المسكينُ؟ المسكينُ يا بنِي! الحمدُ للهِ أنّك لم تدْعُه إلى البيتِ! فربّما غدرَ بالأولادِ جميعاً.. لعنَه اللهُ!

o أبي: ربّما لم يفعلْها هوَ يا أبتِي! وربّما كان الجاني وحشاً غريباً!

o جدّي: الوحشُ الغريبُ لا يجرؤُ على الاقترابِ من سورِ الحقلِ! فما بالُكَ كيف يُغامرُ بحياتِه أمام كلبِنا المحترمِ.. لقد خدعَك هذا الثّعلبُ الماكرُ، كما خدعَ كلبَ الحراسةِ بمسكنتِه وتودُّدِه.

ولكنْ لماذا لم تخبِرْنا بقصّةِ هذا الماكرِ من قبلُ! لأنّني كنتُ سأعلِّمُه معنى الضّيافةِ بطلقةٍ واحدةٍ بين عينيهِ!

o أبي: لقدْ رأيتُه منذُ أيّامٍ وهو يصاحبُ الدَّجاجَ، وينامُ بجوارِ بابِ الخُمِّ، والدَّجاجاتُ يلاعبنَه، وينقُرْنَ رأسَه وجسدَه دون أن يحرِّكَ ساكناً، فقلتُ في نفسِي: لقد زادتْ حظيرتُنا حيواناً آخرَ، فأصبح أليفاً، ولو كان يَنوي نيَّةَ السُّوءِ، لكانَ غدرَ بالدَّجاجِ من اليومِ الأوّل! لكنّني عندما اقتربْتُ منه كان نائماً، وظننْتُ أنّهُ مريضٌ، فقلتُ في نفسِي: دعْهُ يأنسُ بالدَّجاجِ لعلَّه يُعافى من مرضِه، وما خطرَ ببالي أنّه يَنوي الغدرَ والخيانةَ!

o جدّي: لا تنخدِعْ بالمظاهرِ يا يا ولدي! فإنّ الماكرينَ يسلكُون دائماً طريقَ البراءةِ والمسكنةِ، حتّى تُشفِقَ عليهِم، وحينَما تَحينُ الفرصةُ، يَغـدرُون بكَ، ولا يُراعُون حُرمةً أو صداقةً أو ودّاً.

الحياةُ يا بُني مليئةٌ بالثّعالبِ، فاحذَرْهم، ولا تنخدعْ بهم، ولا تغترَّ بهدوءِ العاصفةِ، ولا تأمنِ البحرَ الهادئَ! الحياةُ تلفُّها شِبَاكُ الماكرينَ، فلا تكنْ فريسةً سهلةً لأحابيلِهم.

تعلّمْ يا بُنيّ، وعلِّمْ أبناءَك هذه النَّصيحةَ، ومهما ازددْتَ عمراً وخبرةً وعلماً، ففي الحياةِ عِبرٌ ومواعظُ، يجبُ أن تتَّعظَ بها، فاعتبِرْ واتّعِظْ، ولا تكنْ بسيطاً طيِّباً؛ لتقعَ في شَرَكِ الثّعالبِ الماكرينَ من بَني البشرِ.

الشارقة في 22/9/2015

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات