دعاءٌ للحياةِ

الحياةُ رحلةٌ قصيرةٌ، يسافرُ بنا قطارُ الزَّمنِ من محطَّةِ المهدِ، وينتقلُ بنا إلى محطَّةِ الطُّفولةِ البريئةِ الجميلةِ، نتأمَّلُ فيها العالمَ والكونَ، فنراهُ حديقةً غنَّاءَ. كلُّ شيءٍ فيها جميلٌ ساحرٌ، حتَّى الأحلامُ، فإنَّها رائعةٌ ومصدرٌ للسَّعادةِ، لكنَّ قطارَ الزَّمانِ لا يلبثُ أن يحـرِّكَ عجلاتِ سيرهِ إلى الأمـامِ ليحطَّ بنا في محطَّةِ الشَّبابِ، فتكبرُ الأحلامُ، وتتَّسعُ معها الهِممُ والطُّموحاتُ، ويزدادُ الجسمُ نشاطاً وحرِّيَّةً وحيويَّةً وتتفتَّح براعمُ الحياةِ وتُورقُ أغصانُها..

ويَمضي القطارُ إلى محطَّةِ الرُّجـولةِ والشُّعورِ بالذَّاتِ، فيتحوَّلُ النَّشاطُ إلى عملٍ وإبداعٍ، وتصيرُ الحيويَّةُ إلى طاقةٍ من الإنتاجِ والعطاءِ، وتُثمرُ الحياةُ لتُعطيَ أُكُلَها وثمارَها، وتتحرَّكُ عجلاتُ القطارِ إلى الأمامِ؛ ليحُطَّ بنا في مرحلةِ الكُهولةِ، فتبدأُ علائمُ التَّعبِ واضمحلالِ الهمَّةِ والعزيمةِ بالظُّهورِ على جبهةِ الإنسانِ وحركاتِه وقُدراتِه، وتتثاقلُ عجلاتُ القطارِ في الهبُوطِ إلى محطَّةِ الشَّيخُوخةِ، وتنتهي الحركةُ إلى جمودٍ، ثمَّ إلى مَواتٍ، ويضمُرُ الجسدُ وتضمحِلُّ الرُّوحُ، وتتساقطُ أوراقُ شجرةِ الحياةِ، ثمَّ تبدأُ الجذورُ بالموتِ رويداً رويداً، ويصيرُ الجذعُ والأغصانُ إلى يبسٍ، ثمَّ إلى اهتراءٍ وفناءٍ.

الحياةُ رحلةٌ، لكنَّها مليئةٌ بالرّحلاتِ، حُبلى بالأحداثِ والمواقفِ والطَّرائفِ، سَكْرى بالأسرارِ والأحلامِ والطُّموحاتِ، غَرْقى بالذُّنوبِ والأخطاءِ، نَشْوى بالسَّعادةِ والفرحِ والبهجةِ والسُّرورِ، هاويةٌ في قيعانِ الشَّقاءِ والتَّعاسةِ والأحزانِ.

الحياةُ ضياءٌ وظلامٌ، سعادةٌ وشقاءٌ، غِنىً وفقرٌ، تفاؤلٌ ويأسٌ، نجاحٌ وفشلٌ، قوَّةٌ وضعفٌ، حاكمٌ ومحكومٌ، ظالمٌ ومظلومٌ، وقد تكونُ بينَ بينَ. فالحياةُ مسرحٌ للتَّناقضاتِ، لكنَّ هذهِ الأوصافَ ليستْ للحياةِ؛ لأنَّ الحياةَ جميلةٌ بأناسِها، قبيحةٌ بهمْ. الحياةُ رائعةٌ بروعةِ مَن يحبُّونَها ويسعونَ إلى تجميلِها، والحياةُ منفِّرةٌ وتعيسةٌ بنظرةِ البشرِ إليها.. لقدْ أنصفَ الإمامُ الشَّافعيُّ الحياةَ وخلَّصَها من جوْرِ البشرِ، حينَ قالَ:

نَعيـبُ زمــــانَنَـا والعــــــــــــيـبُ فــــينـَا      ومـا لزمانِنــــــــــــــــا عيـــــــــبٌ سـِــــــــــــوانا

ونَهجُو ذا الزَّمــــــــــــــانَ بغــــيرِ ذنبٍ       ولو نطــــــقَ الزَّمـــــــــانُ لنـــــــــا هجَانا

وليسَ الذِّئبُ يأكلُ لحـــــمَ ذئـبٍ       ويأكلُ بعضُــــــــــنا بعـــــضاً عِيَــــــــــــــانا

وهذا شاعرُنا إيْليا أبُو ماضِي يدعُو أُناسَه للتَّفاؤُل والجَمالِ؛ لتكونَ الحياةُ جميلةً، فنحنُ مَن يُجمِّلُها، ونحنُ مَن يُقبِّحُ وجهَها، ويُلبسَها ثوبَ الحزنِ والتَّشاؤمِ، فيقولُ:

أيُّهَــــــــــذا الشَّــــــــــــــــاكِي ومَــــــــــــا بـِــــــــكٌ داءٌ          كيفَ تَغــــــــــدُو إذا غــــــــــــدَوتَ علِيــــــــــلاْ؟

إنَّ شَــــــــــــرَّ الجُنــــــــــــــــــاةِ في الأرضِ نفسٌ           تَتَـــــــــوقَّى، قبـــــــــلَ الرَّحيــــــــلِ، الرَّحِيْــــــــــلا

وتَــــــــــرى الشَّـــــــوكَ في الـــــــــوُرودِ وتَعْمَى           أنْ تَــــــــــــــــرى فــــــوقَهَـا النَّـــــــــــــــدَى إِكلِيــلاْ

هــــــــــوَ عِــــــــــبءٌ علــى الحيــــــاةِ ثقيـــــــــلٌ           مَنْ يَظــــــــــــــنُّ الحيــــــــــاةَ عِبـئـَاً ثَقِيــــــــــــلاْ!

والَّـــــــــــــذي نفسُــــــــــــه بغـــــــــــيرِ جمـــــــــالٍ             لا يَـــــرى في الوجـــــــــــــودِ شيئاً جَمِـــــــــــيلاْ

ليس أشقَى ممَّنْ يـــــــــــــرى العيشَ مُرَّاً             ويظــنُّ الَّلــــــــــذَّاتِ فيـــــــــــــــــهِ فُضُــــــــــــولا

قُـــــــــــــــلْ لقــــــــــومٍ يســــــــتنزِفُــون المـــــــــآقِي            هـــــــــلْ شَفَيْتُــــــم مـــــعَ البُـكاءِ غَلِيــــــــــلا؟

مَـــــــــا أتيْـــــــنـَا إلى الحَيــــــــــــــــاةِ لنَشــــــــقَى             فأَريحُـــــوا، أهـــــــــلَ العُقـــــــولِ، العُقـولا

أيُّهــــــــــذا الشَّـــــــــــــاكي ومَــــــــا بِـــــــــــك داءٌ              كنْ جَمِــــــيلاً، تـرَ الوجُــــــــــــودَ جَمِــــــــــيـلا

وقالَ أبو الطَّيِّبُ المتنَبِّي:

ومَـنْ يكُ ذا فَمٍ مُـرٍّ مريضٍ           يجِــــــــــدْ مُــرَّا بهِ المـــــــــــــاءَ الزُّلَالَا

فتَعالُوا أيُّها الَّناسُ لنبتسِمَ للحياةِ؛ حتَّى تبتسمَ لنا وتَضحَكَ، تعالُوا لنتفاءَلَ بالحياةِ؛ كي تتفاءَلَ وتسرحَ وتمرحَ بِنا، تعالُوا لنهمِسَ إلى أُذنِ الحياةِ بكلِمةِ خيرٍ ومحبَّةٍ، حتَّى تجودَ علينَا بحبِّها وخيراتِها.

تعالُوا لنغرِسَ حقولَ الحياةِ بالخُضرةِ والنَّضارةِ والجمالِ، ونَحرِقَ أشواكَ اليأسِ والعجْزِ والخُمُولِ، تعالُوا لنُوقِدَ مصباحَ النُّورِ في ظلامِ الحياةِ؛ حتَّى نُزيلَ الظَّـلامَ من أعماقِ نفوسِنا، فنسيرَ في دُروبِ الحقِّ والاستقامةِ والرَّشادِ.

تعالُوا لنُغنِّيَ ونُنْشدَ كالبلابلِ والطُّيورِ؛ حتَّى نعيشَ في أمنٍ وسلامٍ، تعالُوا لنَرويَ الحياةَ بماءِ المكرُماتِ؛ كيْ نَثْملَ بالإنسانيَّةِ العظيمةِ، تعالُوا لنُعانِقَ الحياةَ ونستَنْشِقَ أنفاسَها؛ حتَّى تُعانِقَنا وتُعطِّرَ أنفاسَنا برياحينِ النَّشْوةِ السَّاحرةِ.

تعالُوا لنفتَحَ نوافذَ الحياةِ على مِصراعَيْها؛ حتَّى نَرى ضِياءَ الحرِّيَّةِ ونَنْعمَ بأشعَّتِها الدَّافئِةِ، ونستنشِقَ نسيمَ الصَّباحِ ونَسْكرَ بهمساتِه عندَ المساءِ.

تعالُوا لننشرَ محبَّتَنا في ربيعِ الحياةِ، وفي رُباهَا وبِطاحِها وهضابِها ووديانِها، في كلِّ زاويةٍ ملَّتِ السُّكونَ؛ لنغرِسَها بالحركةِ والنَّشاطِ.

تعالُوا لنشُمَّ تربةَ الحياةِ؛ لنتذكَّرَ أنَّنا عائدونَ إليهَا كما وُلِدنا منها، تعالُوا لننهلَ من ينابيعِ الحياةِ؛ حتَّى لا تَظْمأَ نفوسُنا وقْتَ حـرِّها، وتقشعِرَّ حينَ قـرِّهَا.

تعالُوا لنُصغيَ إلى الحياةِ؛ حتى يتكلَّمَ ضميرُنا وينطِقَ وجدانُنا بالحقيقةِ، تعالُوا لنكِدَّ ونجِدَّ؛ حتَّى تجودَ عليْنا الحياةُ بثرواتِها الكامِنةِ في أعماقِ الوجودِ.

مصياف في 9\4\1996م

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

جبران خليل جبران

صورةٌ وفلسفةٌ كلَّما تأمَّلتُ صورتَك على غلافِ كتابِك، تذكَّرتُ تاريخَ ميلادِكَ وصفَحاتٍ من حياتِكَ، ونسِيتُ أوراقَ أبْحَاثي مُبعْثرةً جانِباً؛ وغفِلْتُ عنْ مصادِري ومراجِعي وكتاباتِي مُتَناثِرةً…

تعليقات