خُططٌ خُنفُشاريّةٌ

الحياةُ مسرحيّةٌ تاريخيّةٌ يخطُّ أحداثَها الأقوياءُ، ويمثِّلُ أدوارَ أبطالِها ممثِّلونَ بارعونَ في التَّمثيلِ وتقمُّصِ الشَّخصيّاتِ. أمّا الُمخرِجُون، فغالباً ما يختبِئُون خلفَ السّتائرِ، فلا يكادُ يكشِفُ حقيقتَهم إلّا مَن جاءَ بقلبٍ مُنيبٍ.

وجمهورُها سوادٌ ورعاعٌ من الخلقِ أَنهكَ كواهلَهم رغيفٌ من الخبزِ أو قرصٌ من الدَّواءِ أو كومةٌ من الحجارةِ واللَّبِنِ تَقيهم حرَّ الصّيفِ وقرَّ الشِّتاءِ، وأعجزَتْهم عن فهمِ مسرحيّةِ الحياةِ الّتي تُمثَّلُ عليهم.

الممثّلُون في مسرحِ الحياةِ كثرٌ، يمثِّلُون دورَ البطولةِ في قيادةِ الأحداثِ وصناعةِ التّاريخِ ورفعِ ألويةِ النَّصرِ في شتّى مجالاتِ الحياةِ، سواءٌ منها السِّياسيّةُ والاقتصاديّةُ والاجتماعيّةُ والعلميّةُ والفنّيّةُ والأدبيّةُ والفكريّةُ.

ولكنْ كيفَ لنا أن نكشِفَ السِّتارَ عن خباياهُم وطويّاتِهم الحقيقيّةِ؟

المسألةُ تحتاجُ إلى ذكاءِ الكاتبِ العربيِّ الكبيرِ مُصطفى لُطفي المنفلُوطيّ في ابتكارِ فِخاخٍ فكريّةٍ تصطادُ ألاعيبَ وشياطينَ هؤلاءِ الممثّلينَ، إذ تكشفُ عوراتِهم، وتُميطُ اللِّثامَ عن نواياهُم وخبائِثِهم، وما عليْنا إلّا صياغةُ اختباراتٍ خُنفُشاريّةٍ في إجراءِ الامتحانِ الّذي عندَه يُكرّمُ المرءُ أو يُهان. والقصّةُ الآتيةُ تُعرِّفُنا معنَى الخُنفُشارِ في التّمييزِ بين العالِمِ والحِمارِ، وكشفِ النِّقابِ عن الخُططِ والأسرارِ، وخلعِ جلابيبِ الدُّجى في وضحِ النَّهارِ.

رُويَ أنَّ رجلاً فارسيَّاً، طويلَ القامةِ، عريضَ المَنكِبينِ، أبيضَ اللّحيةِ، فصيحَ اللّسانِ أتى إلى القاهرةِ، وأقامَ في أحدِ أحيائِها الشّعبيّةِ القديمةِ.. وكان يجلسُ منذُ الصّباحِ حتّى المساءِ أمامَ منزلِه، والقلمُ والكتابُ لا يُفارقانِه أبداً.

وذاتَ يومٍ دخلَ عليهِ شابٌّ، مرحِّباً به محاوِلاً معرفةَ حقيقتِه وأسبابَ مجيئِه وإقامتِه. فأجابَه الرّجلُ بأنّه علّامةٌ متنسِّكٌ للعلمِ، لا يقومُ بعملٍ غيرِه، يقتاتُ على هدايَا طلّابِ العلمِ والمعرفةِ. وقد جمعَ كلَّ علومِ الدُّنيا وآدابِها وفنونِها ومعارفِها، إذ يملكُ موهبةَ الإجابةِ على شتّى أصنافِ الأسئلةِ، مهما لفَّها الغموضُ والتّعقيدُ.

دُهِشَ الشّابُّ بما سمِعَ، فراحَ ينشرُ الخبرَ في الحيِّ. وإذا بجُموعِ النّاسِ تَتْرى إليه عندَ المساءِ، حاملةً الهَدايا والهِباتِ، ورحَّبُوا بقدومِه وراحُوا ينهالُون عليه بالأسئِلةِ:

o سألَه أحدُهم: ما عددُ نجومِ السَّماءِ، أيُّها العلّامةُ الجليلُ؟

o فأجابَ العلّامةُ: اكتبْ على ورقةٍ الرَّقمَ ( 7 ) وأضفْ أمامَه ثلاثةً وتسعينَ صفراً، تنلِ الجوابَ الصَّحيحَ.

o وسألَه آخرُ: متى وُجِدَ البشرُ على الأرضِ، وأينَ؟

o فأجابهُ العلّامةُ: وُجِدوا منذُ ثلاثةِ ملايينَ وأربعةِ آلافٍ وثلاثمائةٍ وخمسٍ وسبعينَ سنةً وثلاثةِ أشهرٍ وخمسةِ أيّامٍ في مكانٍ يُدعى هِليَاس.

o وسألهُ الثّالثُ: مَن صاحبُ المثلِ السّائرِ: الابنُ سرُّ أبيهِ؟

o فأجابَ العلّامةُ: هو العبّاسُ بن المعلّسِ.

أُعجبَ الحاضرونَ ببراعةِ هذا العلّامةِ في الكلامِ وسرعةِ خاطرِه وسَعةِ معرفتِه، وعادُوا مُغتبِطينَ؛ لأنّهم وجدُوا من يَحُلُّ ما ألغزَ في أفهامِهم من تساؤلاتٍ، وراحُوا يُذيعون خبرَه في الأحياءِ الأُخرى، فتهافتَ النّاسُ عليه أفواجاً، حاملينَ هداياهُم إليه لقطفِ ثمارِ معرفتِه اليانِعةِ.

كان بين سكّان الحيِّ شابٌّ نبيهٌ في الأدبِ والفقهِ هو مُصطفى لُطفي المنفلُوطيّ، فعلمَ أمرَ هذا العلّامةِ، وأدركَ من إجاباتِه الّتي حمَلُوها عنه أنّه محتالٌ، يستغلُّ سذاجةَ النّاسِ؛ كي يعيشَ على حسابِهم.

وذهبَ إليه مع جموعِ النّاسِ وجعلَ يُصغي إلى أسئلتِهم وإجاباتِ العلّامةِ، حتّى أيقنَ بخداعِ الرّجل.

في الغدِ دعا المنفلُوطيّ سكّانَ الحيِّ، وقالَ لهم: لا يَغرنَّكم هذا الدَّاهيةُ بأجوبتِه، فليس فيها أيُّ جوابٍ صحيحٍ. وحينَما استغربُوا كلامَه، قالَ لهم: عند الامتحانِ يُكرَّمُ المرءُ أو يُهان. تَعالَوا الآن نُركِّبُ كلمةً لا معنَى لها من الحرفِ الأوَّلِ من كلِّ اسمٍ من أسمائِكم، ثمَّ نسألُه عن معنَاها. وكانتِ الكلمةُ المركَّبةُ (خُنْفُشَار ).

عندما دجَى اللّيلُ، سارُوا إليه وسألُوه:

o ما معنَى ( الخُنفُشار )؟

o مسحَ العلّامةُ شفتيهِ وأجابَ: إنّه نباتٌ في أطرافِ الهندِ الشّرقيّة، ثمرُه أحمرُ، وشكلُه يُشبهُ البرتقالَ، ويَشفِي من داءِ السُّكَّر.

o ما إنْ أتمَّ العلّامةُ إجابتَه حتّى قَهْقَه الحاضِرونَ وهتفُوا بصوتٍ واحدٍ: فلْيَحْيا الخُنفُشارُ!

وانصرفُوا عنهُ دونَ وداعٍ، بعد افتِضاحِ أمرِه، فرافَقَهم إلى البابِ وهو يَفْرِكُ رأسَه ويقولُ: إنّي أشكُو اللَّيلةَ من صداعٍ شديدٍ.

وبعد انفضاضِ النّاسِ من حولِه، حزمَ أمتعتَه وخرجَ هارباً في جُنحِ الظّلامِ، لعلّه يُجرِّب حظَّه من جديدٍ في حيٍّ آخرَ.

ولو تأمَّلْنا الحياةَ بعينِ البصيرةِ، وغُصْنا إلى أعماقِ أحداثِها وحلَّلْنا كثيراً من شخصيّاتِها البطوليّةِ، لوجدْنا آلافَ الأحداثِ الخُنفُشاريّةِ وعشراتِ الآلافِ من الخُنفُشاريّين الّذين برعُوا في صناعةِ خُنفُشاريّاتِهم.

فثمّةَ مَن يدّعي أنّه يملكُ الخوارقَ، فيُخاطبُ الجِنَّ ويستحضِرُهم ويسخِّرُهم لكشفِ السَّرقاتِ، ويَرى الغريبَ في بلادِ الغُربةِ -أينَما كان- لذويهِ وأقاربِه، وثمّةَ مَن يسخِّرُهم لكشفِ الكنوزِ وكشفِ مواقعِ العدوِّ، وغيرِها ممّا لا يصدِّقُه عاقلٌ، ولا يُؤمن به لبيبٌ.

وثمّةَ مَن يُداوي المرضَى بالسِّحْرِ، ويطردُ الشَّياطينَ الّتي تتلبَّسُ بعضَ المرضَى، ومنهم مَن يُوفِّقُ بين الزَّوجينِ المتناحِرينِ من خلالِ أساليبِ السِّحرِ والشَّعوذةِ، ومنهم مَن يُفرّقُ بين الحبيبينِ، أو يُمزِّقُ شملَ الأسرةِ أو القبيلةِ إلى ما هُنالكَ من ادّعاءاتٍ، ومنهم مَن يدّعي علمَ الغيبِ واتَّصالَه بالسَّماءِ، ومنهم مَن يُكلِّمُ الأمواتَ ويراهُم رأيَ العينِ، ومنهم مَن يخدعُ النّاسَ بوسائلِ الاتّصالِ الحديثةِ، فيبثُّ إشاعةً كاذبةً، ولا سيَما في أمورِ الدّين، فيُصدِّقُه الآلافُ من البشرِ.

ذاتَ يومٍ قدِمَ إلى قريتِنا رجلانِ يَدَّعيانِ أنَّهما من بلادِ المغربِ، وقد ارتديَا ملابسَ المغاربةِ، وراحَا يَخدعانِ النَّاسَ بقدرتِهما على شفاءِ المرضَى وفكِّ السِّحرِ، وقد جمَعَا بعضَ الأموالِ.

وقد حذَّرتُ النّاسَ من دجلِهما، بعضُهم صدَّقَني، وبعضُهم الآخرُ لم يقتنعْ بكلامِي، حتّى جاءتِ الصُّدفةُ، فالتقيْتُهما يسيرانِ على الأقدامِ مغادرينِ القريةَ، فأوقفْتُ سيّارتي الخليجيّةَ، ودعوتُهما للرّكوبِ معي، ودار الحديثُ بيني وبينَهما.

o فقالَا: أنتَ مسحورٌ ومحسودٌ وعليكَ عينٌ؛ لأنّك تملكُ سيّارة وبيتاً من طابقينِ.

o تذكّرتُ خطّةَ المنفلوطيّ الخُنفُشاريّةَ، ورحتُ أجاملُهما وأصدِّقُ ما يَقولان.

o فقلتُ لهما: إذا استطعتُما أن تفكّا السّحرَ عنّي، فسوفَ أذبحُ لكُما أربعةَ خرافٍ، وأمنحُكُما ما تُريدانِ من المالِ. فسُرَّ الرّجلانِ ووثِقَا بي.

o فقلتُ: أينَ ذلك السِّحرُ؟

o فأجابَا: تحتَ بيتِكَ الّذي كنتَ تُوقِفُ السّيّارةَ أمامَه، وأشارا إلى بيتِ أُختي، وكنتُ أوقفُ السّيّارةَ هناك، بسببِ الأعمالِ أمامَ منزلي في وسطِ القريةِ.

o وطلبتُ منهُما أن يصِفا لي ساحرِي أو حاسدِي، فوصفاهُ، وادّعيَا أنّه من جيراني، فقلتُ لهُما:

o ليس في قريتِنا مَن يحملُ هذه الأوصافَ، وجيرانُنا محتَرمُون ليس عندَهم نوايا الحسدِ أو السِّحرِ.

o فقالَا: ربّما يكونُ من حارةٍ أُخرى!

o فقلتُ: أهلُ قريتِنا دراويشُ ليس عندَهم من الخُبثِ الّذي تتحلَّيانِ به.

o اندهشَ الرّجلانِ، وصُعِقا من جَوابي القارحِ.

o وتابعتُ الحديثَ: ثمّ إنَّ البيتَ الّذي أشرْتُما إليه ليسَ بيتي! وأنا لستُ من هذه القريةِ، بل كنتُ زائراً، وهذه السَّيّارةُ ليستْ لي، بل استعرتُها من صديقِي الّذي يعملُ في الخليجِ، ولا أملكُ شيئاً أُحسَدُ عليه.

فصَمتَ الرّجلانِ واندهشَا من إجابتي، ونزلا فوراً من السّيّارة، بعد أن أيقنَا بفشلِ خداعِهما، حين استعملْتُ معهما طريقةً خُنفُشاريّة جديدةً.

ونصحْتُهما بعدمِ الرُّجوعِ مرّةً ثانيةً إلى القريةِ، وادّعيْتُ أنّ بعضَ النّاسِ اتّصلُوا بالشّرطةِ للقبضِ عليهِما وهُم يبحثُون عنهُما منذُ قليلٍ.

صدّقَ الرّجلانِ نصيحَتي، وولَّيَا مسرعينِ، ولم يَزورَا قريتي بعدَها، وانقطعتْ أخبارُهما، ثمّ رويتُ القصّةَ للنّاس فأُعجبُوا بحسنِ صَنيعي!

الشارقة في 15/1/2016

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات