المرضُ والتّحدّي (قِصّة)

كان خالدٌ طالباً ذكيّاً هادئاً، يلمع في عينيه بريقُ الذّكاء وعمقُ التّفكير،لا يهتمُّ بالشّكل ولا تهمُّه المظاهرُ، ما يهمُّه هو أن يقولَ له المعلّمون في المدرسة: أحسنتَ يا خالدُ! وأن يقولَ له أبواهُ كلّما رأياه يدرسُ بجدٍّ ونشاط: الله يقوّيك يا ولدي ويسهّلْ أمورَك.

نشأ خالدٌ في بيئةٍ فقيرة من أسرةٍ لا تكاد تملكُ قوتَ يومِها إلّا بشقِّ الأنفس، أمّا والدُه فكان فلّاحاً بسيطاً يعمل في أرضه التي لا تكاد تردُّ له ما يُنفقُه عليها مـن البذارِ والحراثةِ والتّعب، وأمّا أمّه فريفيّةٌ بسيطةٌ طيّبةٌ، لكـنّ والديه لم يكونا أمّيينِ، وإنّما كان عندهما بعضُ الاطّلاع والثّقافة العامّة في أمور الحياةِ والدّين.

رأى خالدٌ شقاء أسرتِه المؤلَّفةِ من الوالدين وثلاثةِ أبناءٍ (خالدٌ ومحمود وأحمد) وآلمه هذا الواقعُ البائس، فراح ينكبُّ على الكتب يريد أن يغيّرَ بهـا تاريخَ أسرته المسكينةِ البائسة.

o خالدُ: لماذا تتعبُ وتشقى يا والدي كلَّ هـذا الشّقاءِ، حتّى تقرّحت يداكَ مـن كثرةِ العمل؟!

o الأبُ: من أجلكَ ومن أجلِ إخوتِك يا بنيَّ! فأنا لا أتعبُ ولا أشقى إلّا من أجل أن أوفِّرَ لكم لقمةَ العيشِ وتكاليفَ الدراسة.

o خالدٌ: ولكنَّ العملَ في الأرض لا يُجدي نفعاً يا أبي! فالأرضُ لا تُعطي الكثيرَ من المحاصيل، ولا تكادُ تُنتج سوى القمحِ والشّعير!

o الأمُّ: ولكن من سيحرثُ أرضَنا يا خالدُ؟ إذا لم يشتغلْ فيها أبـوكَ، فسوف تبقى بواراً (عاطلة) لا نستفيدُ منها شيئاً! وماذا سيعملُ أبوك؟!

o خالدٌ: هناك أعمالٌ كثيرة يمكن أن يعملَ فيها والديْ، ويَجني منـها أكثرَ ممّا يجني من الأرضِ.

o الأمُّ (ضاحكةً): ولكنْ لا تنسَ يا خالدُ أنّ الأرضَ هي وجودُنا، هي وطنُنا، هي أمُّنا التي تطعمُنا وتَسقينا وتَأوينا، والعملُ فيها أشرفُ مـن العمـل عنـد النّاس! ولا تنسَ أنّ رسولَنا الكريمَ صلّى اللهُ عليه وسلّم أوصانا بالعمل في الأرض وحراثتِها وغرسِها وزرعِها إذ قال: “اليدُ العليا خيرٌ من اليد السُّفلى”.

o الأبُ (ناظراً إلى زوجته بإعجابٍ): يا لكِ من امرأةٍ صالحة يا أمَّ خالدٍ! ما شاء اللهُ! إنّكِ تفهمين في أمورِ الدّين أكثرَ منّي!

o الأمُّ (مبتسمةً): نحن من بعدِك يا أبا خالدٍ، والفضلُ لك، فأنتَ الّذي علّمتَنا أمورَ الدّين، وهل نسيتَ تلك اللّيالي الباردةَ التي كنّا نجتمع فيها حول المدفأة، وأنتَ تتلُو علينا آياتِ القرآن الكريم، وتعلِّمُنا أحاديثَ الرّسول عليه الصّلاةُ والسّلام، كما تَروي لنا الكثيرَ من الحكاياتِ الممتعةِ؟!

(وفجأةً يُفتح البابُ ويدخل محمودٌ وأحمدُ فرحينِ مسرورين):

o مساءُ الخيرِ يا بابا.. مساءُ الخير يا ماما. (ويقبِّلان أيديهما).

o كيف حالُك يا خالدُ؟ لماذا لم تذهبْ معنا إلى اللّعب؟ لقد كان الجوُّ رائعاً ولعبْنا الكثيرَ من الألعاب، حتّى شبعْنا!

o خالدٌ (محدّثاً نفسَه: آهٍ لا همَّ لكما غيرُ اللّعب): ولكن.. هـل حضّرتُما واجباتِكما المدرسيّةَ يا إخويَّ الكريمين؟!

o محمودٌ: أوه! لقد ذكَّرتني بواجبِ الرّياضيّات يا خالدُ.

o أحمدُ: ياه! لقد نسيتُ أن أحفظَ نشيدَ الأمّ الذي أخذناه هذا الأسبوعَ.

o خالدٌ (بلهجة العتابِ واللّوم والسُّخرية): يجب عليكما أن تتذكَّرا أنّ اللّعبَ ليس حراماً، ولكنْ يجب أن تدرسا وتحضّرا واجباتِكما، ثمّ اخرجا إلى اللّعب.

o الأبُ (فخوراً): صدقتَ يا خالدُ! فإنّ ما تقولُه هو الصّواب، فليس اللّعبُ أهـمَّ من الدّراسة.. أسمِعتَ يا محمود؟ هل فهمتَ يا أحمد؟

o ويَمضي العامُ الدّراسيُّ وخالدٌ يجدُّ ويدرس ولا يدعُ فرصةً تفوتُه دون أن يقرأَ فيها، وكان يحبُّ المطالعةَ في الكتب العلميّة والدّينيّة وغيرِهـا. أمّـا أخـواه الآخران، فلم يكونا بنفسِ اهتماماتِه، ولم يكونا ينظّمان الوقتَ كما كان يفعل خالدٌ.

وينتهي العامُ الدّراسيّ، وتأتي بطاقةُ دعوةٍ لأبي خالدٍ من أجل حضورِ حفل تكريمِ الأوائلِ في المدرسة.

o مديرُ المدرسة ( بعد التّرحيبِ بالضّيوف وتوجيهِ كلمةٍ إلى الحضور): كلَّ عامٍ وأنتم بألفِ خيرٍ، يسرُّني أن أهنِّئَكم بتفوُّق أبنائِكم أيُّها الآباء والأمّهاتُ الكرام.

والآن إليكمْ أسماءَ المتفوّقين لهذا العامِ الدّراسيّ:

المتفوّقُ بالمرتبةِ الأولى: خالدُ محمّد عيسى عليّ.

(ويصفّق الحاضرون، ويتابع المديرُ قراءةَ أسماءِ المتفوّقين، ويفرح الجميعُ).

o المديرُ: مباركٌ تفوّقُك يا خالدُ (ويصافح خالداً بكلِّ فخرٍ واعتزاز). أتمنّى لك المزيدَ من النّجاحِ والتّفوُّق.. أحسنتَ يا خالدُ! وبارك اللهُ فيك.

o خالدٌ (بكلّ ثقةٍ وشجاعة): شكراً لك أيُّها المديرُ الموقَّر، شكراً لكم يا معلّميَّ الأفاضلَ، ولا يسعُني إلا أن أقولَ: “مَن علَّمني حرفاً كنتُ له عبداً”.

(ويتسلَّم شهادةَ التّقدير من المدير، وعيناهُ ممتلئتانِ بالفرح والبهجة.).

ويتقدّم مديرُ المدرسة من أبي خالدٍ (مصافحاً إيّاه، حاملاً في قلبه كلَّ الإعجابِ بهذا الفلّاح الواعي).

o المديرُ: مباركٌ تفوُّق ابنك يا أبا خالدٍ! إنّك فلّاح نشيطٌ تبذرُ البذارَ، وتجني الثّمارَ، وتحرث الأرضَ على الحمارِ. (ويضحكُ الجميع). إنّك أبٌ ناجح، ها قد نضجتْ ثمارُ تعبك في أبنائِك. نعمَ الطّالبُ خالدٌ، ونعمَ التّربيةُ والأخلاق! ليت جميعَ الطّلّاب مثلَه!

o أبو خالد: شكراً لك أيّها المديرُ الفاضل، وشكراً لكم أيُّها المعلّمون.. ولنكنْ جميعاً يداً واحدة في بناءِ هذا الوطن، ولنكنْ جميعاً جنوداً أوفياء، كلٌّ في مجال عملِه.. الجنديُّ في جبهاتِ القتال، والمعلّمُ في مدرستِه، والطّالبُ في دراسته، والفلّاحُ في أرضه، والعاملُ في معملِه.

o المديرُ (ملتفتاً إلى أبي خالدٍ بكلّ اعتزاز): ما شاء اللهُ! إنّك فلّاحٌ وطنيٌّ مثقّفٌ يا أبا خالدٍ.. واللهِ إنّك تُعجبُني بهذا الوعي! نعمَ الفلّاحُ أنت! ليت جميعَ العاملين فلّاحون مثلك.. بوركتَ!

وينصرفُ خالدٌ مع أبيه مودّعين المديرَ والمعلّمين والحضورَ، ويتّجهان إلى البيت، ويدخلان المنزلَ، وعلائمُ الفرح في عينيهما:

o أبو خالد: السّلامُ عليكِ يا أمَّ خالدٍ.

o أمّ خالد: وعليكم السّلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه، أهلاً يا أبا خالد، نوَّرت الدّار.. أهلاً…أهلاً يا ولدي (وتحتضنُ ابنَها بفرحٍ وسرور). أين شهادتُك يا خالد؟

o خالدٌ: هاهي يا أمّاه! (ويرفعُها إلى الأعلى بيمينه)! وهذه شهادةُ تقديرٍ لتفوّقي على جميع الطلّاب في صفّي، وفي جميع الموادِّ الدّراسيّة.

o الأمّ: مباركٌ نجاحُك وتفوّقُك يا ولدي (وتقبّلُه بحرارة). لقد رفعتَ رأسَنا عالياً! إنّك رجلُ البيت في المستقبلِ إن شاء اللهُ (وتتذكّر تقصيرَ ابنيها الآخرينِ وعدمَ اهتمامِهما).

آه.. ليت إخوتَك مثلُك يا خالد! (وتبكي وتذرف الدّموعَ فرحاً بتفوّق خالد، وحزناً على تقصير ولديها محمود وأحمد).

وفجأةً يدخل محمودٌ وأحمدُ مطرقينِ خجلاً.. وعيناهما على الأرض!

o الأبُ: ما هذا الّذي أراه يا أبنائي؟ أين شهاداتُكم؟ أين شهادةُ التّقدير التي حصلتُما عليها؟!

o محمود وأحمد: لم يُعطونا شهادةَ تقديرٍ في المدرسة يا أبي!

o الأمُّ (ساخرةً): ولماذا يا أعزّائي لم تنالا شهادةَ تقديرٍ مثلَ خالد؟!

o محمود (مختلقاً الأعذارَ): لا أدري يا أمّي! لقد كرّمُوا الطلّابَ الذين يحبُّهم المعلّمون.

o أحمد (مؤيّداً رأيَ محمود): نعم صحيحٌ ما قاله أخي.. فلماذا لم يكرّمونا إذن؟!

o الأبُ (رافعاً صوتَه): طبعاً يا ولديَّ! لأنّ المعلّمين لا يحبُّون إلا المجدّين الذين ينالون احترامَ معلّميهم بالمثابرةِ والاجتهاد والتّفوق.. أمّا المقصّرون، فـلا نصيبَ لهم من هذا الاحترام!

وينظر الأبُ إلى شهادتَي محمودٍ وأحمدَ هازّاً رأسَه؛ لأنَّ النّتائجَ لم تكن لتُرضيَه، فدرجاتُ كلٍّ منهما لا تسرُّ القلبَ، ولا تُريحُ البالَ.

وينظرُ الأخوانِ المقصِّران إلى بعضِهما البعضِ، وعيونُ كلٍّ منهما تتحدّثُ عمّا في داخله: (لماذا لم ندرسْ مثلَ خالدٍ؟! لماذا لم نتفوّقْ مثلَه؟!

يا لكَ من طالبٍ ذكيٍّ ونشيط! ليتنا لم نهدرِ الوقتَ في اللّعب! ليتنا سمعْنا نصائحَ والدينا وكذلك نصائحَ خالد! ليت الأرضَ تبتلعُنا! إنّنا نستحقُّ هذا التّأنيبَ من أبوينا.).

وتمضي الأيّامُ، وتمرُّ السّنون.. وخالدٌ ما زال يحمل تلك العزيمةَ الّتي لا تعرفُ الهزيمة.. وينتقلُ من صفٍّ إلى صفٍّ حاملاً رايةَ التّفوُّق على جميع أقرانِه. وها هو يجمعُ أوراقَ دراستِه وكتبَه وشهاداتِه ومكافآتِه، ويوضِّبُها في خزانتِه الخشبيّة القديمةِ، ويهيّئُ نفسَه للشّهادة الثّانويّة العامّة، لكنَّ القدرَ كان أقوى من خالدٍ ومن جميعِ البشر، إذ سرعانَ ما يداهمُه مرضٌ شديدٌ يفتِكُ بجسدِه ويُضعفُ قِواه، وتسوءُ أحوالُه كما ساءتْ أحوالُ أسرتِه الماديّةُ والمعنويّةُ.

لازمَ خالدٌ الفراشَ وأصبح حبيسَ المرضِ والألم.. وذهب إلى عياداتِ الأطبّاء مرّات ومرّات، لكنّ المرضَ كان شيطاناً خبيثاً، عرف كيف يتغلغلُ إلى حنايا جسدِه، ولم يستطعِ الأطبّاءُ اكتشافَ علّتِه، فعجزُوا عن مداواتِه وشفائِه! بعضُهم قال: إنّه مصابٌ بالحمّى المالطيّة، وذهب بعضُهم إلى أنّه مصابٌ بجرثومةِ البحرِ الأبيضِ المتوسّط، وبعضهم رأى أنه مصاب بفيروس المحيط المتجمد الشمالي، وذهب بعضُهم إلى إصابتِه بجائحةِ كوكبِ الزّهرة.. وتعدّدتِ الآراءُ وكثُرت التّخميناتُ دون نتيجةٍ تُذكر.

أمّا أبواهُ فقد لجأَا إلى القرآنِ الكريم لمداواتِه بقراءةِ بعضِ سورِه، وذهبَا به إلى شيوخِ الطّرقِ الصّوفيّة الّتي تدّعي اتّصالَها بعالمِ الملكوتِ، ولم يتردَّدا في اللّجوء إلى كتّاب السّحرِ والشّعوذة والتّمائمِ، دون أن يَصِلا إلى نتيجةٍ.. وظلّ خالدٌ طريحَ الفراش.

o خالدٌ (في نفسِه): يا ربّي يا إلهي! إنّني عبدُك الفقيرُ أتوسّلُ إليكَ وبصاحبِ الوسيلةِ والشّفاعة عليه الصّلاةُ والسّلام بأن ترفعَ عنّي هذا البلاءَ.. يا ربُّ إنّك أعلمُ بحالي ولا تَخفَى عليك حالُ عبدٍ من عبادِك.. ساعدْني بعفوِك ورحمتِك يا اللهُ!

o ويُنادي أمَّه: أين كُتبي التي كانتْ بجانبي؟ أين دفاتري وأقلامِي؟ أرجوكِ يا أمّي أَحضريها لي.

o الأمُّ (وهي تبكي وتستجيرُ باللهِ داعيةً): اللهمَّ ارفع مقتَك وغضبَك عنّا يا أرحـمَ الرّاحمين.. اللهمّ اشفِ مريضَنا ومرضى النّاس أجمعين!

o وتنظرُ إلى خالدٍ: كتبُكَ في الخزانةِ يا ولدي! لقد نصحَنا الطَّبيبُ بإبعادِها عنك؛ حتّى تستريحَ وتعودَ إليك عافيتُك؛ لأنّ جسدَك لا يتحمّلُ أعباءَ الدّراسةِ يا ولدي، وفكرُك ليس سليماً، فأرحْ نفسَك.. حفظَكَ اللهُ!

o خالدٌ (بثقةٍ وأمل وإيمان): لا تخافي يا أمّاه! فإنّ اللهَ الّذي خلقَني لن يتخلّى عنّي، وإن عجِزَ الأطبّاءُ عن مُداواتي؛ فإنّ اللهَ الّذي ابتَلاني بهذا المرضِ هو الّذي يَشْفيني! أمَا سمعتِ يا أمّي عـن كثيرٍ من المرضى الذين شفاهمُ اللهُ بعد فشلِ كلِّ محاولاتِ الأطبّاء؟! فسبحانَ اللهِ! ولا إلهَ إلا اللهُ.

ويعودُ الأبُ من حراثةِ الأرض، ومعه ولداه محمودٌ وأحمدُ يحملان بعضَ أدواتِ الحراثة:

o السّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه. كيف حالُك يا خالدُ؟

o بخيرٍ والحمدُ لله!

o الأبُ (منكبّاً على خالدٍ، مقبّلاً إيّاه): سلامتُك يا ولدي.. شفاكَ اللهُ.

o محمودٌ وأحمدُ: لا تقلقْ يا خالدُ، لا تيأسْ من رحمةِ الله.. كنْ عظيماً كما عرفناكَ. لقد علَّمتَنا الإصرارَ، علّمتَنا كيف نواجهُ الحياةَ، علّمتنا كيف الكفاحُ والنّجاحُ!

o خالدٌ: لا تخافُوا عليَّ يا أهليَ الكرامُ، فأنا بخيرٍ (لكنّ المرضَ لم يكن ليُخفيَ عن قسماتِ وجهِه مرارةَ الألمِ والأسى).

o الأمُّ (بعد أن أعدّتِ الطّعامَ): الغداءُ جاهزٌ يا أبا خالدٍ، تفضّلُوا لتناولِ الطّعام. تفضّلْ يا أبا خالدٍ، تفضّلُوا يا أبنائي. لقد تعبتُم من العمل، قوّاكمُ الله.

o الأبُ: زادكِ اللهُ صحّةً وعافيةً يا أمَّ خالدٍ، لكنْ أين طعامُ خالدٍ؟

o الأمُّ: سأطعمُه بيديَّ من طعامِه الخاصِّ الذي أعددتُه له (وكان حساءً من العدسِ وبطاطا مسلوقةً).

ويَمضي ذلك العامُ، وخالدٌ مُثقلٌ بالمرض.. يذهب يوماً في الأسبوعِ إلى المدرسةِ على حمارٍ بصحبةِ أبيه (لم تكن في القريةِ سيّاراتٌ)؛ ليعرفَ أين وصل زملاؤُه في منهاجِ الدّراسة، ويعودُ إلى البيت ليحضِّرَ دروسَه بنفسِه، ويحلُّ الواجباتِ دون مساعدةٍ في معظمِ الأحيان.

ويزورُه بين الحينِ والآخر زملاءُ الدّراسةِ الّذين رأى بعضُهم في مرضِه فرصةً للتّفوّقِ عليه. أمّا أصدقاؤُه المخلصون فقد قدَّمُوا له كلَّ يدِ العونِ وتأثّروا لحالتِه. ويَمضي العامُ الدّراسيُّ، ويأتي الامتحانُ، وخالدٌ لم يستسلمْ للمرضِ، ولم يسمعْ نصيحةَ أحدٍ في عدمِ تقـديمِ الامتحانِ لهذا العامِ، لكنّه أصرَّ على خوضِ معركةِ الامتحان.

وكانت وسيلتُه للوصولِ إلى مركزِ امتحانِ الشّهادةِ الثّانويّةِ ذلك الحمارُ المسكينُ الذي نسيَ فضلَه كثيرٌ من النّاس، لكنَّ خالداً لم ينسَ فضلَه وكذلك والدُه.. وانتهى الامتحانُ، وتصدرُ النّتائجُ بعد حينٍ.. ويأتي المديرُ وبعضُ المدرّسين إلى بيتِ أبي خالدٍ حاملين باقاتٍ من الزّهورِ وعلبَ الشّوكولا والحلْوى.

o مباركٌ.. مباركٌ نجاحُك بتفوُّقٍ يا خالدُ. ما شاءَ اللهُ! ما هذه الدّرجاتُ؟؟ إنّها تؤهِّلُك للدّخول في كلّيّةِ الطّبِّ والهندسةِ وشتّى ميادينِ الدّراسة.

o خالدٌ: الحمدُ لله.. الحمدُ لله. باركَ اللهُ فيكم أيّها المديرُ المحترمُ، وشكراً لاهتمامِكم وجزاكمُ اللهُ خيراً أيّها المعلّمونَ الأفاضلُ.

o الأمُّ (مسرعةً): ماذا حدثَ أيُّها الضُّيوف.. أخبروني أرجوكُم (ظانّةً أنَّ ابنَها حصل له مكروهٌ).

o المديرُ: لقد نجح خالدٌ بتفوّقٍ يا أمَّ خالدٍ.. هلّلي وزغردِي، هاتي الحلْوى.

o الأمُّ مزغردةً (ول… ل… ل… ليش): الحمدُ للهِ.. نشكرُك يا ربّي. وتُنادي: محمود.. أحمد.. أين أبوكُم؟

o عند الجيرانِ يا أمّاه.. عند الجيرانِ.

o الأمُّ: اذهبُوا بسرعةٍ وأخبروه.. لقد نجحَ خالدٌ.. نجح خالدٌ.

(وتبكي والدُّموعُ تنهمرُ على خدَّيها كحبّاتِ المطر): الحمدُ للهِ.. اللهُ يشفيكَ يا خالدُ.

شكراً لكم أيّها المعلّمون، كثّر اللهُ خيرَكم، وكثّر من أمثالِكم، واللهُ يحفظْ أولادَكم، وإن شاء اللهُ نفرحْ لهم عمّا قريبٍ.

o ويدخل أبو خالدٍ، وخطواتُه لا تتّسعُ لفرحِه، وصوتُه يملأُ الطّريقَ والدّارَ: الله يرضى عليكَ يا بُنيّ.. الحمدُ لك يا ربّ! ما ضاعت فيك التّربيةُ يا ولدي، ما ضاعت فيك دموعُ الحزنِ والألم، ما ضاع جهدُك أبداً. (ويسلّمُ على الحاضرين ويقبّلُهم): تفضّلُوا.. تفضّلُوا، البيتُ بيتُكم، وولدي ولدُكم، أهلاً.. أهلاً، شرّفتُم الدّارَ، ونوّرتُم البيتَ، وحلّت علينا البركةُ.

o هاتُوا القهوةَ.. هاتوا الحلْوى.. يا محمودُ.. يا أحمدُ.

o هلّلي وزغردِي يا أمَّ خالد.. غنُّوا وارقصُوا يا أبنائي. (وحتّى يزيدَ أبو خالدٍ الفرحةَ بهجةً، ينظرُ إلى الحمارِ المربوطِ على أرض الدّار الواسعةِ).

o أستأذنُكم أيُّها الضّيوفُ الكرامُ (وينهضُ بهمّةٍ عالية، وهو يضحكُ): لقد حانَ وقتُ الاعترافِ بالجميل!

o المديرُ والمعلّمون: وأيُّ جميلٍ يا أبا خالدٍ.. هذا واجبُنا.

o أبو خالدٍ: جزاكم اللهُ كلَّ خيرٍ.. ما قصّرتُم أبداً! ولكنْ هناك مخلوقٌ يجبُ أن نعترفَ بجميلِه أيضاً؛ إنّه مظلومٌ دائماً (ويذهب إلى الحمارِ ويقبّلُه): لا أدري لماذا يعيِّرون الحمْقى والأغبياءَ والقادةَ العسكريّين بكَ أيُّها المسكينُ؟! (ويضحكُ مقهقِها؛ حتّى يُضحِكَ الحاضرين.).

o المديرُ والمعلّمون بمزاحٍ: لماذا لم ترسلْه إلى المدرسةِ يا أبا خالدٍ؟!

o أبو خالد: معكم حقٌّ! لأنّه لم يُسجَّلْ في قيدِ النُّفوس.. ولم يُمنحْ هويّةً وطنيّةً.. ها.. ها.

وهكذا فرحَ الجميعُ، وأكلُوا حلوى الفرحِ، وهكذا كانت نتيجةُ العزيمةِ والإصرارِ والتّصميمِ، لم ينهزمْ خالدٌ أمام المرضِ، لم يقهرْه بعدُه وفراقُه عن مدرستِه وزملائِه ومعلّميه، لم تكنْ آلامُ المرضِ لتقلّلَ من همّتِه وإرادتِه، ثمَّ ما لبث بعد أسابيعَ قليلةٍ أن شُفي خالدٌ من مرضِه دون طبيبٍ.. فكان فوق كلِّ ذي علمٍ عليمٌ، وفوق كلِّ ذي طبٍّ طبيبٌ! ورفض خالدٌ أن يدرسَ في كلّيّةِ الطّبِّ، لما عاناه من قسوةِ الأطبّاءِ وجهلِ بعضِهم، فقرّر أن يدرسَ الهندسةَ المدنيّةَ، وتخرّج منها بتفوُّقٍ، وتابع الدّراساتِ العليا (الدّكتوراه) باجتهادٍ، حتّى غـدا أستاذاً جامعيّاً في كلّيّةِ الهندسة.

الشارقة في 12/12/2011

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات