الفقرُ في عُيُونِ الأدباءِ والمفكِّرينَ -2

مواقفُ الأدباءِ والمفكِّرينَ

(دراسةٌ وصفيَّةٌ تحليليَّة)

تناولَ الأدباءُ والمفكِّرون الفقرَ، ووصفُوا مظاهرَه وأسبابَه وآثارَه، تناوُلاً يتراوحُ بينَ الوصفِ والسُّخريةِ، أو النَّظرِ إليهِ برؤيةٍ إصلاحيَّةٍ غيرِ واقعيَّةٍ، أو قناعةٍ إيمانيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ وفلسفيَّةٍ ترى الفقرَ غنىً وعفَّةً وقدَراً مقدَّراً، أو الدعوةِ الثَّوريَّةِ الشَّاملةِ للجماهيرِ ضدَّ المستبدِّينَ والمستغِلّينَ؛ من أجلِ تغييرِ واقعِهم، واستردادِ حقوقِهم المغتصَبةِ.

أولاً- الفقرُ في الأدبِ العربيّ:

أ‌- في العصرِ الجاهليّ:

انتشرَتْ ظاهرةُ الشُّعراءِ الصَّعاليكِ الّذين عبَّرُوا عن رفضِهم لواقعِهم المريرِ في أشعارِهم.

وقد حدَّدَ الدُّكتورُ شَوقي ضَيف في كتابِه (العصر الجاهليّ) (2) معْنى الصُّعلوكِ لغةً: بأنّه الفقيرُ الّذي لا يملكُ المالَ الّذي يساعدُه على العيشِ وتحمُّلِ أعباءِ الحياةِ، مؤكِّداً أنَّ هذهِ اللَّفظةَ تجاوزَتْ دِلالاتِها اللُّغويَّةَ، وأخذَتْ معانيَ أخْرى كقُطّاعِ الطُّرقِ الّذين يقومُون بعمليَّاتِ السَّلبِ والنَّهبِ. ويُمكِنُ تقسيمُ الصَّعاليكِ إلى فئاتٍ ثلاثٍ:‏

1- فئةُ الخُلَعاءِ الشُّذَّاذِ، وهمُ الّذين خلعتْهم قبائلُهم بسببِ أعمالِهم الّتي لا تتوافقُ مع أعرافِ القبائلِ الّتي ينتمُون إليها مثلَ: حاجزٍ الأزْديِّ، وقيسِ الحدَّاديّةِ.‏

2- وفئةُ أبناءِ الحَبشيَّاتِ السُّودِ ممَّن نبذَهُم آباؤُهم، ولم يُلحِقُوهم بأنسابِهم، مثلَ: السَّلِيكِ بنِ السّلَكةِ، وتأبَّطَ شرّاً، والشَّنفَرى.‏

3- و فئةٌ احترفَتِ الصَّعلَكةَ احتِرافاً وحوَّلتْها إلى ما يَفُوقُ الفروسيَّةَ من خلالِ الأعمالِ الإيجابيَّةِ الّتي كانُوا يقومُون بها، من مثلِ: عُروةَ بنِ الوردِ سيِّدِ الصَّعاليكِ وقبيلَتَي هذيلٍ وفَهْمٍ.‏

وما يَلفتُ النَّظرَ في أشعارِ هؤلاءِ الصَّعاليكِ ترديدُ صيحاتِ الفقرِ والجوعِ والحِرمانِ.. كما كانُوا ناقمِينَ وثائرينَ على الأغنياءِ و الأشِحَّاءِ، وامتازُوا بالشَّجاعةِ و الصَّبرِ و قوَّةِ البأسِ و المضاءِ، و سرعةِ العدْوِ، و قد ضُربَ بهم المثلُ في شدَّةِ العدْوِ حتَّى قيلَ: ( أعْدَى من السَّليكِ وأعْدَى من الشَّنْفرى).‏

فهذا أميرُ الصَّعاليكِ عروةُ بنُ الوردِ قد أدركَ أنّهُ لا مكانةَ للفقيرِ في مجتمعٍ يُميِّزُ بينَ طبقاتِ المجتمعِ، فينالُ الغنيُّ مكانةً مرموقةً، أمّا الفقيرُ فيُصنَّفُ مع الأشرارِ؛ لذلكَ أَبى أنْ يكونَ فقيراً، فهو يَسْعى إلى تغييرِ حالِه؛ كي ينالَ حُظوةً في مجتمعِه: (3)

ذَرينيْ للغِــــــــــــنَى أسْـــــــــعَى فإنّي رأيْتُ النَّاسَ شــــرُّهمُ الفقيرُ

ويُقْصِيـهِ النَّـــــــــــــــدِيُّ وتَزدَريــهِ حليلَـــــــتُـه، ويَنهــــــــــرُه الصَّـغيرُ

وهو الّذي لا يستطيعُ القُعودَ عن الغزواتِ؛ لأنَّ عليهِ حُقوقاً وواجباتٍ يجبُ أن يؤَدّيَها إلى المحتاجينَ من قبيلتِه، ونسائِها المُعْوزاتِ؛ لهذَا فهوَ يكرهُ الصُّعلوكَ الخامِلَ، بل يُحبُّ الصُّعلوكَ المُشرِقَ الوجهِ، و فيه يقولُ :‏ (4)

وللهِ صُعلـــــــوكٌ صَحِــيفةُ وجْـــهِهِ كضَوءِ شِــهابِ القَـابِسِ المُتنـَـــــــــــوِّرِ‏

مُطِلَّاً على أعـــــــدائــِه يَزجـــــــرُونَه بســـــاحتِهِم زجْـــــــــرَ المُنِيـــــحِ المُشْـــــهرِ

وإنْ بَعـُـــــــدُوا لا يَأمنُــــــونَ اقتـرابَه تشَوُّفَ أهـــــــــــلِ الغـــــــــائِبِ المُتنَظِّرِ

فـــــذلكَ إنْ يلْــــــــــــقَ المنِـــــــــــــيَّةَ يلْقَــها حَمِيداً وإنْ يَستغْنِ يوماً فأجْدِرِ

وهكَذا نجدُ أنَّ عروةَ بنَ الوردِ كان صُعلوكاً شَريفاً وشُجاعاً ومِقْداماً، وقد استطاعَ أنْ يَسموَ بالصَّعلكةِ إلى درجةِ المروءةِ والسِّيادةِ؛ لأنَّ الغرضَ منها كان نداءً يدعُو للتَّضامنِ و التَّكافلِ الاجتماعيِّ الّذي يَضمنُ الخيرَ للجميعِ، ولا سيَما النَّاسُ المعْوزِينَ من الأهلِ والأقاربِ، بل هيَ تأكيدٌ بأنَّ للفقراءِ حقَّاً في أموالِ الأغنِياءِ‏.

ب‌- في العصرِ الأُمَويّ:

وفي هذا العصرِ كغيرِه من العُصورِ، لم يخْلُ مجتمعُه من مرضِ الفقرِ بسببِ التَّفاوتِ الطَّبقيِّ واحتكارِ السُّلطةِ والمالِ لدَى المتَنفِّذينَ، لكنَّنا نقْرأُ موقِفاً مثاليَّاً لا يَرى في الفقرِ عيْباً؛ لأنَّ الفقرَ قدَرٌ من السَّماءِ.. وعُيوبُ الأغنياءِ كثيرةٌ منها البُخلُ ولؤمُ السَّعيِ وسوءُ البلاءِ.. فلْنقرأْ قصيدةَ ابنِ الرُّوميِّ فيما قالَه في الفقرِ: (5)

وما الفقــــــــرُ عيْـــــباً مَــــا تَجمَّـلَ أهـلُــــــهُ ولم يَســــألُوا إلا مُــــداواةَ دائِــــــــهِ

ولا عيْبَ إلا عيْبُ مَن يَملِكُ الغِنَى ويَمنعُ أهـــــــــــلَ الفقرِ فضلَ ثرائــِــهِ

عجِبتُ لعيْــــبِ العَـائِبينَ فقــــــــيرَهَـم بأمْـــرٍ قَضاهُ ربُّــــــــهُ مـِــن ســــمائــِـه

وتــَـــــــركِـــهِمُ عيْــــــــــبَ الغَــــنيِّ ببـُـخـــــــــلِهِ ولُـــؤْمِ مَســــاعيهِ وسُـــوءِ بلائِـــــهِ

وأعْجَبُ منهُ المادِحُونَ أخَا الغِنَى وليسَ غِنـــــــــــاهُ فيْــــــــهمُ بغَنَـــــــــــــائِـــهِ

أُولئِـــــــكَ أتْبــــــــاعُ المطامِـــــــعِ والمُــــنَــى جَزاهُـم مَلِيكُ النَّـاسِ شرَّ جــــزائِهِ

ت‌- في العصرِ العبَّاسيّ:

وعلى الرَّغمِ من تطوُّرِ الحياةِ المادِّيّةِ وانتشارِ البزَخِ والتَّرفِ والجَواري والقِيانِ والنُّهوضِ الفِكريِّ والأدبيِّ، لم نَعدَمْ وجودَ طبقةٍ فقيرةٍ عانتْ من الانقِسامِ الطَّبقيِّ الَّذي وصلَ بالأثرياءِ والمُوسرينَ إلى مرحلةِ البَطرِ بالنِّعمةِ والكُفرِ بها، كمَا وصفَهم اللهُ عزَّ من قائلٍ في كتابِه العزيزِ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ (القصص آية 58)، وأوْغلَ بالطَّبقةِ الفقيرةِ إلى مرحلةِ القاعِ والحضيضِ والجُوعِ والحِرمانِ.

فها هُو ذا الشَّاعرُ العبَّاسيُّ أبو الشَّمقْمَقِ يصِفُ لنا حالةَ الفقرِ الّتي عاشَها بعضُ النَّاسِ في عصرِه بأسلوبٍ ساخرٍ، راصِداً مظاهرَه من خلالِ صورٍ فنِّيّةٍ تعكسُ حالةَ الانحدارِ والتّردّي المعيشيِّ والاقتصاديِّ المُهِينِ.

فالسِّنَّورُ الّذي تعوَّدَ أنْ يصطادَ الجُرذانَ من بيتِ الشَّاعرِ فقدَ الأملَ في اصطِيادِ شيءٍ يسدُّ به رمقَ جوعِه، والذُّبابُ قد هجرَ بيتَ الشَّاعرِ إلى أماكنِ النِّفاياتِ والزِّبالةِ، حيثُ يجدُ ضالَّتَه.. وبهذهِ الصُّورةِ السَّاخرةِ يرسمُ لنا الشَّاعرُ واقعَه بشكلٍ كاريكاتوريٍّ مُؤلمٍ، فيصِفُ خلُوَّ بيتِه من أيِّ صِنفٍ من أصنافِ الطَّعامِ.. ممَّا أفْقدَ الجرذانَ والذُّبابَ أملَ البقاءِ والعيشِ فيه: (6)

في بُيـَيْتٍ مِـــن الغَضَــــــــارةِ قَفْـــــــــــــــــرٍ ليسَ فيـهِ إلّا النُّـــــــوَى والنِّخَالَهْ

عطَّلَتْهُ الجُرذانُ من قِلَّة الخَيــ ــــــــــــــرِ وطارَ الذُّبـــــابُ نحــــــــــــوَ زِبالَـــــه

ويَنفَدُ صبْرُ السِّنَّورِ بعدَ اليأسِ واستِحالةِ العيشِ دونَ طعامٍ في بيتٍ خالٍ من كلِّ مظاهرِ الحياةِ حتّى غدَا صحراءَ خاليةً:

قالَ: لاصبْرَ لي وكيفَ مُقَامِي في قِفـــــــــــــــــارٍ كمِثلِ بِيـــــــــــدٍ تُبـــــــــالَه

وها هُو الشَّاعرُ أبو فِرعونَ السَّاسيّ – من شعراءِ العصرِ العبَّاسيّ أيضاً – يُعبّرُ عن فقرهِ وسوءِ حالِه بأسلوبٍ ساخرٍ، فهوَ يُوصدُ بابَ بيتِه، خشيةَ أنْ يَرى حالَه المارُّون، وليسَ مخافةَ سرقةِ اللُّصوصِ لهُ؛ لأنَّ بيتَه خالٍ من أيِّ شيءٍ يُمكنُ أن يُسرقَ، وإنَّما السَّارقُ نفسُه يُمكنُ أنْ يكونَ هدفاً للسَّرقةِ، ولم يكنْ وصفُه لبيتِه مبالغةً أو فِرْيةً؛ لأنّ مَن يراهُ بعينِ أمِّه، يُدركُ الحقيقةَ المرّةَ دونَ زيفٍ: (7)

ليسَ إغْــــــــــلاقي لِبــــــــــــــابِي أنّ لي فيهِ مــَا أخْشَى عليهِ السَّـــــــــــــرِقَا

إنَّمــــــــــا أُغلِــــقُهُ كي لا يَــــــــــــــــــــــــــرَى سُوءَ حَالي مَـن يَجُـوبُ الطُّرقَا

مَنزلٌ أوْطنـَــــــــهُ الفقْــــــرُ فلَـــــــو دخــــــلَ السَّـــــــارقُ فيـــــــهِ سُــــــــــرِقَا

لا تـَـــــــراني كاذِبــــــــاً في وصـــــــــفِه لو تَــــــــراهُ قلْتَ لي: قــــــــدْ صـــدقَا

والأديبُ الكبيرُ الجاحظُ: وُلِدَ في مدينةِ البصرةِ ونشأَ فقيراً، وكانَ دمِيماً قبيحاً، جاحِظَ العينَينِ، عُرفَ عنهُ خِفَّةُ الرُّوحِ وميلِه إلى الهَزْلِ والفُكاهةِ، ومِن ثمَّ كانتْ كتاباتُه على اختلافِ مواضيعِها لا تَخلُو من الهزْلِ والتَّهكُّمِ. طلبَ العلمَ في سنٍّ مبكِّرةٍ، فقرأَ القرآنَ ومبادئَ اللُّغةِ على شُيوخِ بلدِه، ولكنَّ اليُتْمَ والفقرَ حالَا دونَ تفرُّغِه لطلبِ العلمِ، فصارَ يَبيعُ السَّمكَ والخُبزَ في النَّهارِ، ويَكتَري دكاكينَ الورَّاقينَ في اللَّيلِ، فكانَ يقرأُ منها ما يستطيعُ قراءتَه.

كانتْ ولادةُ الجاحظِ في خلافةِ المهديّ ثالثِ الخلفاءِ العبَّاسيّينَ (سنةَ 150هـ وقيلَ 159 هـ وقيلَ 163 هـ)، وتُوفّيَ في خلافةِ المهْتَدي باللهِ (سنةَ 255 هجريّة)، فعاصرَ بذلكَ 12 خليفةً عبّاسيّاً هم: المهْدي والهادِي والرَّشيدُ والأمينُ والمأمونُ والمعتصِمُ والواثقُ والمتوكّلُ والمنتصِرُ والمستَعينُ والمعتزُّ والمهْتدي باللهِ، وعاشَ القرنَ الّذي كانتْ فيهِ الثَّقافةُ العربيَّةُ في ذروةِ ازدِهارَها.

أخذَ علمَ اللُّغةِ العربيَّةِ وآدابَها على أبي عُبَيدةَ مؤلّفِ كتابِ نقائضِ جريرٍ والفرزْدقِ، والأصمعيِّ الرَّاويةِ المشْهورِ صاحبِ الأصمعيَّاتِ وأبي زيدٍ الأنصاريِّ، ودرسَ النَّحوَ على الأخفشِ، وعلمَ الكلامِ على يدِ إبراهيمَ بنِ سيارِ بنِ هانئٍ النّظّامِ البِصْريّ.

كانَ متَّصِلاً – بالإضافةِ لاتِّصالِه بالثَّقافةِ العربيَّةِ – بالثَّقافاتِ غيرِ العربيَّةِ: كالفارسيَّةِ واليونانيَّةِ والهنديَّةِ، عـن طريقِ قراءةِ أعمالٍ مُترجمةٍ أو مناقشةِ المتَرجِمينَ أنفسِهم، كحُنين بنِ إسحقَ وسلْمَويهِ، وربَّما كانَ يُجيدُ اللُّغةَ الفارسيَّةَ؛ لأنَّه دوَّنَ في كتابِه (المحاسِن والأضْداد) بعضَ النُّصوصِ باللُّغةِ الفارسيَّةِ. توجَّهَ إلى بغدادَ، وفيها تميَّزَ وبرزَ، وتصدَّرَ للتَّدريسِ، وتولَّى ديوانَ الرَّسائلِ للخليفةِ المأمُونِ. (8)

أمَّا أبو حيَّانٍ التَّوحيديّ: فقدْ نشأَ في عائلةٍ من عائلاتِ بغدادَ الفقيرةِ يتيماً، يُعاني شَظفَ العيشِ ومرارةَ الحِرمانِ؛ لا سيَما بعدَ رحيلِ والدِه، وانتقالِه إلى كفالةِ عمِّه الّذي لم يجدْ في كنفِه الرّعايةَ المأمولةَ، فقدْ كانَ يكرهُ هذا الطِّفلَ البائسَ ويقسُو عليهِ كثيراً.

وحينَ شبَّ أبو حيّان عن الطَّوقِ، امتهنَ حِرفةَ الوِراقةِ، ورغمَ أنّها أتاحتْ لهذا الورّاقِ الشَّابِ التَّزوُّدَ بكمٍّ هائلٍ من المعرفةِ جعلَ منهُ مثقَّفاً موسوعيَّاً، إلّا أنّها لم تُرضِ طموحَه، ولم تُلبِّ حاجاتِه؛ فانصرفَ عنها إلى الاتّصالِ بكبارِ متنفِّذي عصرِه من أمثالِ ابنِ العميدِ والصَّاحبِ بنِ عبّادٍ والوزيرِ المهلَّبي، غيرَ أنّه كانَ يعودُ في كلِّ مرّةٍ صِفرَ اليدينِ، خائبَ الآمالِ، ناقماً على عصرِه ومجتمعِه. هذهِ الإحباطاتُ الدَّائمةُ، والإخفاقاتُ المتواصِلةِ؛ انتهتْ بهذا الأديبِ إلى غايةِ اليأسِ فأحرقَ كتبَه بعدَ أن تجاوزَ التِّسعينَ من العُمرِ، وقبلَ ذلكَ فَرَّ من مواجهةِ ظروفِه الصَّعبةِ إلى أحضانِ التَّصوُّفِ عساهُ يجدُ هنالكَ بعضَ العزاءِ فيَنعمُ بالسَّكينةِ والهُدوءِ.

ولعلَّ سرَّ ما لاقاهُ أبو حيّان في حياتِه من عناءٍ وإهمالٍ وفشلٍ يعودُ إلى طباعِه وسِماتِه؛ حيثُ كانَ مع ذكائِه وعلْمِه وفصاحتِه واسعَ الطُّموحِ، شديدَ الاعتِدادِ بالنَّفسِ، سَوداويَّ المزاجِ.. إلى غيرِ ذلكَ من صفاتٍ شخصيَّةٍ وَضَعتْ في طريقِه المتاعِبَ وحالتْ دونَ وصولِه إلى ما يُريدُ.. (9)

ث‌- في العصرِ المملوكيّ:

لم يكنِ الشُّعراءُ أحسنَ حالاً من شعراءِ العصرِ العبَّاسيِّ الّذي عُرفَ بازدهارِه الفكريِّ والأدبيِّ والمادّيِّ، مقارنةً بالعصرِ المملُوكيِّ الّذي شهِدَ انحِطاطاً في شتّى مَناحي الحياةِ المادّيّةِ والفكريَّةِ، حتّى أطلقَ عليهِ بعضُ المؤرّخينَ تسميةَ (عصرِ الانحطاطِ).

فهذا أحدُ شعراءِ العصرِ المملوكيِّ أبو الحسينِ الجزّار قد لخّصَ حالَه من الفقرِ بأسلوبِه السَّاخرِ، معتمِداً على المبالغةِ في تصويرِ واقعِه الأليمِ، فثيابُه الّتي تَحميهِ من بردِ الشِّتاءِ ليستْ مِعطفاً من الصُّوفِ، وإنَّما هي الشَّمسُ الّتي تقيهِ بردَ الشِّتاءِ، وبيتُه الأرضُ كلُّها، وسورُ ذلكَ البيتِ هو الفضاءُ الرّحبُ، أمّا سقفُ بيتِه فهو السَّماءُ: (10)

لي مِن الشَّمسِ خلْعةٌ صَفــراءُ لا أُبـــــــالي إذا أتــــــانِي الشِّـــتاءُ

بيتيَ الأرضُ والفضاءُ به سُــــوْ رٌ مُدارٌ وسقْفُ بيتيَ السَّـــماءُ

و تتمَلَّكُه الحسْرةُ على عُمرِه الّذي أمضاهُ في السَّعيِ وراءَ الرِّزقِ، دونَ أن يصِلَ إلى غايتِه المرجُوّة، وحتّى لا يكونَ متشائِماً، كان يأمُلُ بيومٍ جديدٍ يرى فيه نوراً لحلِّ مشاكلِه، لكنَّ الحظَّ لم يُحالِفْه أبداً:

آهِ واحسْرتي لقدْ ذهبَ العُمْــ  ــــرُ ، وحَظّي تأسُّفٌ وعنــاءُ

كلَّما قلْتُ في غدٍ أُدركُ السُّــؤ ــــ لَ، أَتاني غدٌ بِما لا أَشـــــاءُ

أمّا الشّاعرُ نصرُ الدّينِ الحمَّامي – من شعراءِ العصرِ المملوكيِّ أيضاً – فيسخَرُ من دارِه الّتي يُقيمُ فيها؛ لأنّ جُدرانَها المنهارةَ آيِلةٌ إلى السُّقوطِ فوق رأسِه: (11)

ودارِ خَرابٍ بها قـــــــــد نزلْــــــــتُ ولكـــنْ نزلْـــــــتُ إلى السَّـــــــابِعَه

وأخْشَى بها أنْ أُقيمَ الصَّلاةَ فتَسْــجُدُ حِيطانُهـــــــا الرّاكِعَـــــــــه

يتبع..

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات