الفقرُ في عُيُونِ الأدباءِ والمفكِّرينَ -4

ح‌- العصرُ الحديثُ:

ولنَتأمَّلِ العصرَ الحديثَ الّذي تدفُنُ فيه الإنسانيَّةُ رأسَها في التُّرابِ كالنَّعامِ حينَما يداهِمُه خطرٌ، وحينئذٍ يمكنُنا أنْ نُطلقَ على عصرِنا المثلَ القائلَ: (أغْبى من النَّعامةِ). وما أدراكَ ما الحديثُ؟!

إنَّه حديثٌ بكلِّ ما فيهِ!

إنّه حديثٌ في طريقةِ القتلِ والتَّدميرِ والإبادةِ الجماعيَّةِ في صمتٍ رهيبٍ! إنَّه حديثٌ في أساليبِ الهيمنةِ والاستعمارِ والاحتلالِ دونَ جنودٍ وأسلحةٍ! إنَّه حديثٌ في طرقِ التَّهجيرِ والتَّشريدِ والظُّلمِ والاستِعبادِ في هرجٍ ومرجٍ دونَ صخبٍ أوضجيجٍ!

إنَّه حديثٌ في نشرِ الدِّعايةِ والدَّعارةِ وامتهانِ الإنسانِ وترويجِ مخدِّراتِ العقولِ والأرواحِ وسحقِ القيمِ الإنسانيَّةِ النَّبيلةِ في هدوءِ النَّملةِ وطنينِ النَّحلةِ! إنّه حديثٌ في احتشاءِ بطونِ الأغنياءِ وتضخُّمِ أجسادِ المتسلِّطينَ والأغنياءِ الّتي تُخفي بشاعتَها عمليَّاتُ تجميلٍ طبِّيّةٌ أو عمليَّاتُ مسحٍ طبوغرافيَّةٌ في العقولِ!

إنّه حديثٌ ببلاهتِه وبشاعتِه ووقاحتِه وقلَّةِ أدبهِ في شتَّى ميادينِه وفي مختلفِ أشكالِه ومضامينِه! إنّه حديثٌ في صراعاتِه وتصارعِه.. في تكالبِ أغنيائِه وسلاطينِه على فقرائِه وسوادِه!!

إنّه حديثٌ في تغيُّرِ مناخاتِه، وتلوُّثِ مكوِّناتِه، وتبدُّلِ سكناتِه حركاتٍ، وسكونِ حركاتِه، ورفعِ مجروراتِه، وجرِّ مرفوعاتِه، وخفضِ منصوباتِه، وجزمِ أسمائِه الّتي لا تُجْزمُ! إنّه حديثٌ بكلِّ أحداثِه الّتي لم تَعرفِ البشريّةُ مثيلاً لها في كلِّ مآسِيها ونوائبِها ونوازلِها منذُ بدايةِ الخلقِ ونشوءِالكونِ!

إنّه حديثٌ بكلِّ حداثتِه في مظاهرِ النَّاسِ بداءةً من الرّأسِ الّذي لم يعُدْ يُشبهُ خلقةَ اللهِ.. ومروراً بمضائقَ وممرَّاتٍ وجبالٍ ووهادٍ ومحيطاتٍ وبحارٍ وأنهارٍ ووديانٍ.. مطرَّزةٍ على أستارِ الجسدِ، وانتهاءً بالقدمينِ والنَّعلينِ اللّذينِ يختزلانِ أسرارَ الكهوفِ والمغاورِ الّتي تبتلِعُها الطَّبيعةُ في أحشائِها!

إنّه حديثٌ في كلماتِه وأغنياتِه ورقصاتِه وموسيقاهُ وفنونِه وشِعرِه الّذي هربَتِ الأوزانُ الشِّعريّةُ منهُ، وتطايرَتْ صورُه الفنّيّةُ في الفضاءِ كما تتطايرُ الحميرُ والأبقارُ دونَ أجنحةٍ!

إنّه حديثٌ في تطاولِ المسافاتِ علوَّاً وانحداراً، طولاً وعرضاً، انتفاخاً وضموراً، تنفُّساً وسعالاً وشخيراً.. الأغنياءُ يُناطحون السَّحابَ ويُساهِرون النُّجومَ ويُداعبُون القمرَ.. والفقراءُ يُناطحون السَّرابَ ويُساهِرون الفئـرانَ والصَّراصيرَ في أكواخٍ من غصونِ الشَّجرِ ولا مِن مؤنسٍ سوى الصَّبرُ والإيمانُ بالقدرِ!

ويُمكنُني القولُ:

إنّه بدءُ حديثٍ، والبدايةُ صعبةٌ وحديثُنا لا يَنتَهي، والنِّهايةُ أصْعبُ

ومن شعراءِ العصرِ الحديثِ الّذين تناولُوا قضيَّةَ الفقرِ: الشَّاعرُ حافظُ إبراهيمَ الّذي نظرَ إلى تلكَ الظَّاهرةِ على أنَّها خطرٌ يُعيقُ تطوُّرَ المجتمعِ، فيدعُو إلى الإصلاحِ لتحسينِ أحوالِ النَّاسِ الّذينَ يتمنَّوْن الموتَ من شدَّةِ الغلاءِ: (21)

أَيُّهــا المُصْلِحُونَ ضــاقَ بِنا العَيْــــــــ شُ ولمْ تُحسِــــنُوا علـــــيــهِ القِيَــــــــــامَا

عـــــــزَّتِ السِّــــــلـــْعةُ الذَّلِيـــــــــــــــلةُ حتَّى باتَ مَسْحُ الحِذاءِ خَطْباً جســامَا

وغَدَا القُوتُ في يَـدِ النّاسِ كاليَا قُـوتِ حتّى نَوَى الفَقيرُ الصِّيـــــــامَا

يَقْطَعُ اليَـــــــــــومَ طـــــــــاوِياً وَلَدَيْــــــــــــــــــــــه دُونَ ريـــــــــحِ القُـــــــتَارِ ريــــــــــــحُ الخُزامَى

ويَخـــــالُ الرَّغيــــفَ منْ بَعْـــــــــــدِ كَـدٍّ صــاحَ: مَن لي بأنْ أُصِــيْبَ الإدامَــا

أيّهــــــــا المُصْلِحُــــــونَ أصْلَحْـــــتُمُ الأرْ ضَ وبِتُّمْ عـــــــــنِ النُّفـــــــــــوسِ نِيـــــــــــــــامَـا

أصْلِحُوا أنفُسَـــاً أضـرَّ بِهَـــا الفقْــ ـــــرُ وأحْيَــــــــــــــــــــا بمَــــــــــــــــــــوتِها الآثـــــــــــــــــــامَــــــــــــا

ليسَ في طَوقِها الرَّحيلُ ولا الجِـ ــــــدُّ ولا أنْ تُواصِـــــــــــــــــــلَ الإقْــــــــــــــــــــــــدَامَا

وأغِيثُــــــــوا منَ الغَـــــــــــــــــــلاءِ نُفُوســــاً قـــــــــدْ تمنَّتْ مــــعَ الغَـــــــــــــلاءِ الحِمَـــامَا

وكذلكَ الشَّاعرُ اليمنيُّ المعاصرُ عبدُ اللهِ البردونيّ يتناولُ مظاهرَ الفقرِ بأسلوبٍ ساخرٍ، فيصفُ لنا – في قصيدتِه (لصٌّ في منزلِ شاعرٍ ) بيتَه الفارغَ من كلِّ شيءٍ، حتّى إنّ اللّصَّ الّذي دخلَه ليسرقَ ما فيهِ – في خلسةٍ بارعةٍ – لم يجدْ فيهِ سِوى هرَّةٍ تشتَمُّ فارةً، وهو أشبهُ بمغارةٍ خاويةٍ، واللِّصُ سيعودُ خائباً دونَ ربحٍ، ولن يكرِّرَ الزّيارةَ، فقدْ وجدَ الشَّاعرُ كغيرِه من الشُّعراءِ في التَّهكُّمِ والسُّخريةِ الطَّريقَ الأمثلَ للتَّعبيرِ عن استيائِهم من واقعِهم المريرِ:(22)

شُكراً، دخلْـــــتَ بلا إثـــــــــــــارةٍ، وبلا طُفُـــــــــورٍ، أو غَــــــــــرارهْ

لمّـــــا أغــــــــــرْتَ خنقْتَ في رجلـــيكَ ضوضــــــــــــاءَ الإغَــــــــــــارهْ

لم تَسلُبِ الطِّينَ السّكونَ، ولم تَرُعْ نومَ الحِجارهْ

كالطَّيـــــفِ جئْــــــــتَ بلا خُطىً، وبلا صَدىً،وبلا إِشارهْ

أرأيْتَ هــــــــــــــذا البيْتَ قَــــــــــــــــزماً، لا يكلِّفُكَ المهـــــــــــــــــــــــــــارهْ؟

أتيْتَه، ترجُـــــــــــــو الغــــــنائمَ، وهــــــــو أعْرَى مـــــــــن معـــــــــــــــارهْ

ماذا وجــــــدْتَ سـِــوى الفـــــــــراغَ، وهـــــــــرّةً تَشْــــــــتَمُّ فــــــــارهْ

ولهاثَ صُعلوكِ الحروفِ، يَصوغُ من دمِـهِ العِبارهْ

يُطْفِي التَّوقُّـــــــــــــدَ باللَّظى، يَنْسى المـــــــــــــــــــرارةَ بالمــــــــــــــــرارهْ

لم يُبْقِ في كُــــــــــوبِ الأسَى شيئاً، حَسَاهُ إلى القَــــــــــرارهْ

ماذا؟ أَتلْقى عندَ صعلُـــــــــوكِ البيـــوتِ، غِنَى الإمَـــــارَهْ

يا لِصُّ عفْـــــــــواً، إن رجِعْـتَ بــــــــدونِ رِبْحٍ أو خَسَـــــــــــــــــارَهْ

لم تلْــــــــــــقَ إلاّ خيبةً، ونســـــــــــيْتَ صُنـــــــدوقَ السِّــــــــــــجارهْ

شُــــــــــكراً، أَتنْـــــــــــوي أنْ تُشرِّفَــــــــــنا، بتَكْــــــــــرارِ الزِّيـــــــــــــارهْ!؟

ويصفُ بيوتَ الفُقراءِ الجائعينَ الجاثِمةَ فوقَ الثَّرى كأنَّها قبورٌ لا لِلموْتى بلْ للأحياءِ من البشرِ الّذينَ يَحلمُون برغيفِ الخبزِ ولا يَجنُونَ إلّا الخيالَ في أحلامِهم.. وتبدُو تلكَ البيوتُ سجُوناً لأشباحٍ.. أو كهوفاً مظلمةً وراءَ الكونِ غارقةً في أحلامِ الظَّلامِ.. وحينَ يَسمعُها الظَّلامُ لا يَسمعُ منها سِوى أنينِ الجوعِ في الأحشاءِ.. فتأمَّلْ معي قصيدتَه (ليالي الجائِعين): (23)

هَـــــــــــذي البُيــــــــــــــــــوتُ الجَــــــــاثِمـــــــاتُ إزائِي ليلٌ مِــــــــــــــنَ الحِـــــــــــرمـــانِ و الإِدْجـــــــــــــاءِ

مَــــــــــــــنْ للبُيـــــــــوتِ الهــادِمـــــــــــــــاتِ كأنّهــــــــــــــــــــا فـــــــــــــــوقَ الحيـــــــــــــــاةِ مقابــــــــــــــــرُ الأحـــــــــياءِ

تغفُــــــــو على حلُـــــــــمِ الرَّغيـفِ ولم تَجِدْ إلاّ خيَــــــــــــــالاً منــــــــــــــــــــــــــهُ في الإغْفـــــــــــــــــــــــــــــاءِ

و تَضُــــــمُّ أشـــــــــــــــــباحَ الجِيـــــــــــــــــــــــــــاعِ كأنّهــــــا سِجنٌ يَضــــــــــــمُّ جوانــــــــــــــــــــحَ السُّــــجناءِ

هَذي البُيوتُ النَّائماتُ على الطَّوى نومَ العليــــــلِ على انتِفــــــــاضِ الــــــــدَّاءِ

نامَـــــــتْ و نامَ اللّيلُ فــــــــوقَ سُكُونِهـــــــــــــــا و تغلَّفَـــــــــــتْ بالصَّـــــــــــمتِ و الظَّلْمــــــــــــــاءِ

وغفَــــتْ بأحضانِ السُّــكونِ و فوقَها جُثــــــــثُ الدُّجـَـــــــــــــا منثــُـــــــورةُ الأشْــــــــــلاءِ

و تلَمْلَمـــــتْ تحـــــــــــــتَ الظـَّـــــــــلامِ كأنّهـــــــــــــــــــا شـــــــــــــيْخٌ ينُـــــــــــــــــــــوءُ بأثقـــــــــــــــــلِ الأعْبـــــــــــــــــاءِ

أصْغَى إلَيهـــــــــــا اللّيـــــــــــــلُ لم يَسْــــــــمعْ بِهـا إلّا أنيـــــــــــــنَ الجُــــــــــــــــــــــوعِ في الأحْشـــــــــــــــــــاءِ

ويصفُ أكواخَ هؤلاءِ الفقراءِ من جيرانِه القابِعةَ إلى جوارِ كوخِه الحقيرِ الّتي أصبحَتْ مرعىً للشَّقاءِ وفريسةً للمصائبِ والأرزاءِ، وليس لديْهِم من سلاحٍ سِوى الصَّبرُ الّذي يُشبِه صبرَ الرُّبا أمامَ الرّياحِ والأنواءِ.. وقدْ امتلأتْ أفئِدتُهم حقداً على قصورِ الأغنياءِ وبُخلِ الأثرياءِ.. ويتحسَّرُ الشَّاعرُ على هؤلاءِ البؤساءِ من الأيتامِ والضُّعفاءِ الّذين ملكُوا مشاعرَه وأحاسيسَه ودمَهُ وروحَهُ وأعصابَه.. حتّى باتُوا جراحاً تَحْتَسي دموعَه ودماءَه..

يا ليلُ، منْ جيرانِ كُوخي؟ مَنْ همُ؟ مَـــــــــــرعَى الشَّـــــــــــقَا و فريســــــــــــــــةُ الأرْزاءِ

الجائِعونَ الصَّــابِرون على الطـَّـوَى صبْرَ الرُّبــــــــــــــــا للــــــــــــــرّيــحِ و الأنْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواءِ

الآكِلُــــــــــــــــونَ قلوبَهــــــــــــــم حِقْـــــــــــــــــــــداً على ترفِ القُصـــــــــورِ و ثــــــروةِ البُخَــــــــــــــــــــــــلاءِ

الصَّامِتُــــــــونَ و في معــــــــــــــــانِي صمْتِهـــمْ دُنْيـــــــــا مِــنَ الضَّجّاتِ و الضَـــــــــــــــوضاءِ

وَ يْلي على جِيــــــــــــــــرانِ كـُــــــــــــــوخي إنَّهُــــــــــم أُلْعـــــــــــــــــوبةِ الإفــــــــــــــــــــلاسِ و الإعْيـــــــــــــــــــــــــــاءِ

وَيْلي لهُـــــــم مِن بـُؤسِ مَحْياهُـــــــــــم و يا وَ يْلي مِــــــــــــــنَ ـالإشــــــــــــفاقِ بالبُؤسَـــــــــــــــــــاءِ

أَنـُــــــــــــــوحُ للمُسْـــــــــــــــــتَضْعـــــفِينَ و إنَّنِـــــــــــــي أشْــــــــقَى مـــن الأيْتَــــــــــــــامِ و الضُّعـــــــــــــــفَاءِ

و أُحِسُّــــــــهُم في ســـــــــدِّ رُوحي في دمــِــــــــي في نبـــــضِ أعْصــــــــــابي وفي أعْضــــــــــــــائي

فكأنَّ جِيـــــــــــرانِي جِـــــــــــــــــــــراحٌ تَحْـتَســـــــــــي ريَّ الأسَـــــــــــــى مِن أدْمُـــــــــــعي و دِمَــــــــــــــــائي

نامُــــــوا على البلْـــــــوى و أُغْفيَ عنهمُو عطفُ القـــــــريبِ ورحمـــــــةُ الرُّحمـــــــاءِ

ما كانَ أشْـــــقاهُـم و أشْـــــــــقَـاني بهِــــــــــمْ و أَحَسَّني بشــــــــــــــقائِهـــــــــــمْ و شَـــــــــــــــــــــــــقَائي

أمّا الشَّاعرُ السُّوريُّ وَصْفي القُرُنْفُلي -وهوَ من شُعراءِ مدينةِ حِمْصَ الّذي وُلِدَ عامَ 1911م، وتلَقّى دراستَه الابتدائيَّةَ في المدارسِ الأرثُوذكْسِيَّةِ بِحمصَ ولم يتَمكّنْ من متابعةِ دراستِه، وأنهاهَا عندَ الصَّفِّ الحاديْ عشَرَ، والتَحقَ بالعملِ في دائرةِ المساحةِ في مدينتِه عامَ 1929- فلمْ ينهَجْ نهجَ الشُّعراءِ الّذي يَرتَضِي أسلوبَ الوصفِ والسُّخريةِ أو الدَّعوةَ إلى الإصلاحِ للتَّخلُّصِ من الفقرِ باستِجْداءِ الأغنياءِ، فقدْ وَعى قضيَّةَ شعبِه الّتي شكّلَ فيها الجُوعُ ذروةَ التَّحوُّلِ في حياتِه، فالتَحَمَ بالجماهيرِ، وعمِلَ على تَحريضِها ضدَّ المستَغِلِّ، فعكَسَ وعيَ تلكَ الجماهيرِ وطُموحاتِها إيماناً منهُ بحتميَّةِ التَّغييرِ والتَّحوُّلِ إلى مستقبلٍ زاهرٍ وعالمٍ أفضلَ: (24)

قُلْ للرِّفـــــاقِ التَّــــــائِهينْ

في الشَّرقِ تَمضغُهُ السّنُونْ

فُقراؤُنا قــدْ حَطّمُوا حُكْمَ القناعــــةِ واستَفاقُوا

الجوعُ ليسَ من السَّماءِ فمِنْ إذاً؟ وهُنا أفاقُوا

ومَضَوا فمِنْ مُتسَوّلينَ

على الرَّصيفِ، لثائِرينْ

يَتَناقشُــــــون ويَضغَطـُونَ

على الشِّفاهِ ويسْـــألُونْ:

الجوعُ؟ صُنعُ النَّاهِبينَ الشَّعبَ، صُنعُ الأغنِياءْ

أخذُوا المعامِلَ والحُقــــــولَ وطوَّقُـــونَا بالقَضـــــــــــاءْ

وهوَ يُبشِّرُ الجماهيرَ بالخلاصِ من جشَعِ المستَغِلّينَ، ويُبشِّرُهم بأنّ معالِمَ النَّصرِ تَلُوحُ في الأُفقِ.. إنَّهُ الفتحُ المُبينُ الّذي يَدوسُ ظلامَ السِّنينَ بهديرِ الكادحِينَ:

ومشَتْ جُمــوعُ المؤمِنينْ

تطَأُ الدُّجى تطأُ السِّـنينْ

اقــــــــرأْ: هـــــــوَ الفَتـحُ المُبينْ

اســــمعْ هـــــديرَ الكادِحـينْ

المـــــــــــوتُ للمُســــــــــــــتَعمِرينْ

النَّــــــــــــــــارُ للمُســـــــــــــــــــــتثْمِرينْ

ومنْ شعراءِ هذا العصرِ: الشَّاعرُ المصريُّ الكبيرُ أمَلُ دَنْقَل الّذى عاشَ حياةً مليئةً بالقهرِ والظُّلمِ والفقرِ دفعَتْهُ إلى التَّجوُّلِ في طرقاتِ القاهرةِ بحثاً عن صديقٍ يَدفعُ لهُ ثمنَ الغِذاءِ، وعُرفَ أملُ دنْقَل بالتزامِه وحبِّهِ الشَّديدِ للوطنِ، وقصائدُه السِّياسيَّةُ الرَّافِضةُ هى تأكيدٌ لهُويَّتِه القوميَّةِ العربيَّةِ، وعرفَهُ المواطنُ العربيُّ من خلالِ ديوانِه الأوَّلِ، “البُكاءُ بينَ يديِّ زرقاءِ اليَمامةِ” الّذي جسَّدَ فيهِ إحساسَ الإنسانِ العربيِّ بألمِ هزيمةِ 1967.

وها هُو في شعرِهِ يُمجِّدُ الفقراءَ ويذمُّ الأغنِياءَ: (25)

هذهِ الأرضُ حسْناءُ، زينتُها الفُقراءُ لهُم تَتطيَّبُ

يُعطُــــــونَها الحُــــــــبَّ، تُعطِيهمُ النَّســــــــــلَ والكِبْريــــــــــــاءْ

قلتُ: لا يَسكُنُ الأغنِياءُ بها. الأغنِياءُ الّذينَ

يَصوغُونَ من عــــــــــــــــرقِ الأُجَــــــــــــــــراءْ..

نُقودَ زِنا.. ولآلئَ تاجٍ. وأقراطَ عاجٍ.. ومِسْبحةً للرِّياءْ.

إنَّني أوَّلُ الفقراءِ الّذينَ يعيشُونَ مُغتَربِين..

يموتُــــونَ مُحتَسبِينَ لـــدَى العَــــــزاءْ

ولا نَنْسى شاعرَ البؤسِ وبائسَ الشُّعراءِ عبدَ الحميدِ الدِّيب الّذي كانتْ حياتُه سجلّاً حافلاً بالنَّكباتِ والمحنِ والمصائبِ والآلامِ لم يتعرَّض لمثلِها شاعرٌ!

وُلدَ عبدُ الحميدِ الدّيبِ عامَ 1898م في قريةِ (كَمْشيش) في محافظةِ المنوفيَّةِ لأسرةٍ فقيرةٍ بائسةٍ تُعاني من ويلاتِ البؤسِ والفاقةِ والحِرمانِ، وكانَ دائماً يشعرُ بمرارةٍ في أعماقِه وهو يَرى أقرانَه يمرحُون ويَلْهون في ثيابٍ نظيفةٍ، وأحذيةٍ لامعةٍ، بينَما هو رثُّ الثِّيابِ، حافي القدمَينِ.. وهكَذا شَبَّ الدِّيبُ حزيناً باكياً ناقِماً على الجميعِ، وقد قَطنَ في حُجرةٍ متواضعةٍ في (قصرِ الشَّوقِ) في أحدِ أحياءِ القاهرةِ الفقيرةِ، وعاشَ حياةً بائسةً في تلكَ الحقبةِ من حياتِه، وكانَ هو كلَّ أساسِ هذهِ الحجرةِ، وقد سجَّلَ ذلكَ في قصيدةٍ قالَ فيها: (26)

أَفي حُجْرتي يا ربُّ،أمْ أنا في لَحْدي؟ ألَا شــــــدَّ ما ألقَى مِـــن الزَّمنِ الوغْــدِ

وهــــــــــلْ أنا حَــيٌّ أمْ قضَــــــــيْتُ وهــــــــــــــذهِ إهَابةُ إسْــــــرافِيـلَ تبْعثُني وحْـــــــــــدِي؟!

لكَمْ كنْتُ أرجُــــــــو حُجْـــــــــــــرةً فأصَبْتُهـا بناءً قـديمَ العهدِ أضْيَقَ مـــِـن جَـــدِّي

تَـــــــراني بهــــــــــــا كلَّ الأثـــاثِ، فمِعْـــــطَفي فِـــــــــــراشٌ لنـَـــومِي أو وَقاءٌ مــن البَــــــــــــــردِ

وأمَّــــــــــا وِسَــــــــــــاداتي بهــــــــــــــــا فجــــــــــرائِــــــــــــدٌ تُجــــــــدَّدُ إذ تَبْـــــــــــلَى على حجَـــــــــــرٍ صلْــــــــــدِ

فأهْــــــــــــــدأُ أنْفـــــــاسي يَكادُ يَهـــــــــــــــــــدُّهَــــــــــــــا وأيْسَــــــــــــرُ لمسٍ فـي بنـايتِــــــــــها يُـــــــــــــــــــــــــــرْدي

تُســـــــاكِنُني فيـــــــهَا الأفـَـــــــــاعي جَـــــــــريئةً وفي جَـــوِّها الأمراضُ تفتُكُ أو تُعْدي

وكانَ يَعجزُ عن سدادِ أقساطِ أُجرةِ غرفتِه البسيطةِ على الرَّغمِ من ضآلتِها، حتَّى أصبحَ صاحبُ البيتِ عدوّاً لهُ، وكان الشَّاعرُ يلقَى صنوفاً من الإذلالِ والمهانةِ بسببِ مماطلَتِه في تسديدِ الثَّمانينَ قرشاً أَجرَ الغرفةِ الّتي يسكنُها، وصوَّرَ ذلكَ في قصيدةٍ يقولُ فيها: (27)

ثمانُـــــــــــونَ قِرشــــــــاً أهلكَتْني، كأنَّهــــــــا ثمانُــــونَ ذنْباً في سِجلِّ عَـــــــــــذابِي

طَويْتُ لهَا الدُّنْيا سُــــــــــــؤالاً وكُدْيـةً فمَـــا ظَفِرَتْ نفْسي بِرَدِّ جَــــــــــوابِ

لعنْتُ كِراءَ البيتِ، كمْ ذَا أهَنْتِني وأذْلَلْتِ كِبْــري بين كلِّ رِحــــــــــــــــابِ

ألا سَــــــكنٌ مُلْـــــــــكـِي ولــــــــــــــوْ بجهَـــــــــــــنَّمٍ وأُكْفى من الأيَّامِ شـــــرَّ حِسَابي!!

وإذا تَمكَّنَ من دفعِ الإيجارِ شهراً واحداً، فإنَّهُ يعجَزُ عن سَدادِه شهوراً عديدةً، وتجُودُ عليهِ السّنونُ، فيتمكَّنُ من الحُصولِ على لِحافٍ يتَدثَّرُ بهِ في ليالي الشِّتاءِ الباردةِ أهْداهُ إليهِ أحدُ أصدقائِه؛ لكنَّ حظَّهُ العاثِرَ يَدفعُ أحدَ اللُّصوصِ إلى سرقتِهِ، ويشْعرُ الدِّيبُ بأحزانٍ لا تَنْتهي، ومضَى يَرثي لِحافَهُ المسْروقَ: (28)

لِحَـــــــافي! وهـــــــلْ غيرُ الهَـــــــــــبـَـاءِ لِحَــــــــــــافي؟ بـقِـــــــــــيَّــــةُ نَسْــــــــــــــــــــجٍ دارسٍ ونِـــــــــــــــــــــــدَافِ

أطـــــــــــــافَ بــــــــــــــهِ لصٌّ فقــــــــيــرٌ كعِيشَــــــــتي فيَا بُؤسَــــــها مــــــــنْ هِجْـــــــــرةٍ ومَطـــافِ

ولمْ أخشَ مِن ذَا الرِّزْءِ إلّا فَضِيحَتي بأنّي قــــــــــــــــدْ مُلَّكـتُ شــــــــــــــرَّ لِحَـــــــــــــــــــــافِ

فـلــــيتَكَ يـا لِصِّي الجَــــــــــــريءَ وجَــــــدْتَني غنِيَّاً وسَــــــعْدِي في الحـــــــياةِ مُـــــــــوَافي

لقدْ ضـاعَ منِّي ذا الغِطَاءُ، فهلْ تُرى أَدَّثـَّرُ شِــــــــعـراً ضافِــــياً وقَــــــــــــــــــــوَافـي؟!

وبسببِ هذهِ الحياةِ البائِسةِ لجأَ الشَّاعرُ إلى الخَمرةِ يَنْشُدُ فيها السَّلْوى والنِّسْيانَ، بعدَ أن قُوبِلَ بالجُحودِ والإنْكارِ، وكانَ يعيشُ ساعاتٍ بفِعلِ الشَّرابِ (في مثلِ أطيافِ الجنَّةِ) على حدِّ قولِه، وتَبلغُ بهِ الجُرأةُ والفلسفةُ الماجِنةُ مبلَغاً يَدفعُهُ إلى القولِ: (29)

دعِ الشَّكْوى وهاتِ الكأسَ نسْكَرْ ودعْكَ مــــــــــــنَ الزَّمــــــــــــانِ إذا تَنـَـكَّرْ

وهـــــــامَ بيَ الأسَـــــــى والبُـــــــــؤسُ حــــــــتَّى كأنّي عَبْــــــــــلةُ والبُــــــــــــــــــؤسُ عَنْــــــــــــــــتَرْ

كمَا دفعَهُ هذا الواقِعُ المريرُ إلى تَعاطِي الكُوكائِين بإسرافٍ، وتعرَّضَ للسَّجنِ كثيراً بتُهمٍ مختلِفةٍ، منها التَّشرُّدُ والصَّعلَكةُ والسُّكرُ البيِّنُ، وشَمُّ الكُوكائِين، وبالرّغمِ من ذلكَ، كان يَرى فى السِّجنِ لذَّةً بعيداً عن سُخريةِ المجتمعِ وقسْوتِه عليهِ.. ويقعُ فريسةَ الشَّرابِ الّذي يدفعُهُ لتَحطِيمِ رأسِه ويفقِدُ عقلَه، ويُنقَلُ إلى مسْتَشفَى الأمراضِ العقليَّةِ.. وهناكَ يَرى أشياءً غريبةً التقَطَها بحسِّهِ المُرهَفِ ونسَجَها شِعراً رقيقاً طريفاً: (30)

رعــــــــاكِ اللهُ (مـارستان) مِصْـرٍ فإِنـَّكِ دارُ عقْــــــــــــــــلٍ لا جُنـــــــــــــــــونْ

حَوَيْتِ الصَّــابرينَ على البَلايا ومَــنْ نَزَلـُوا على حُكْمِ السِّنينْ

وكمْ في مصــــــرَ مــــــــــنْ غِــــــــــــرٍّ غَبِيٍّ تمـــــتَّـــعَ بالجمـــــــــــــــيــلِ وبالثَّمــــــــــــينْ

وهكَذَا مضَتْ حياةُ الشَّاعرِ كلُّها بؤسٌ وشقاءٌ، وقدْ صوَّرَ صديقُهُ الدُّكتورُ عبدُ الرَّحمنِ عُثْمان حياتَه بأنَّها كقَولِ اللهِ تَعَالى: (موْجٌ، من فوقِهِ موجٌ، مِنْ فوقِهِ سحَابٌ، ظلُمَاتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ).

ولكنَّ الدِّيبَ في أواخرِ حياتِهِ وقدْ اقتربَ من الحاديةِ والأربعينَ من عمرِه، قد تابَ وآمنَ بقضاءِ اللهِ، فقالَ: (31)

أأَكفُرُ مِـــــــنْ بُـــؤسِي بأحْكامِ خالِقِي كَفَى بي رزقاً أنَّني الدَّهَـــرَ مُسْلمُ

وفي قِسْمةِ الأرْزاقِ عَـــــــــــدْلٌ، وإنَّما هُنالِكَ سِـــــرٌّ في السَّـــماءِ وطَلْسَمُ

فيا رُبُّ مَحْرومٍ مـِــنَ الــرِّزقِ محْلُهُ لكلِّ عِبـــــــــــــــادِ اللهِ خيـــــــــــــرٌ وأنْعُـــــــــــــــمُ

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

الفقرُ في عُيُونِ الأدباءِ والمفكِّرينَ -2

مواقفُ الأدباءِ والمفكِّرينَ (دراسةٌ وصفيَّةٌ تحليليَّة) تناولَ الأدباءُ والمفكِّرون الفقرَ، ووصفُوا مظاهرَه وأسبابَه وآثارَه، تناوُلاً يتراوحُ بينَ الوصفِ والسُّخريةِ، أو النَّظرِ إليهِ برؤيةٍ إصلاحيَّةٍ غيرِ…

تعليقات