الفقرُ في عُيُونِ الأدباءِ والمفكِّرينَ -3

ج‌- في المِهْجر:

وتبلُغُ ظاهرةُ البؤسِ والفقرِ والتَّشرُّدِ ذُروتَها في الأدبِ المهجريِّ، فقد عانَى أدباءُ المهجرِ وقاسَوا الأمرَّينِ في سبيلِ الرِّزقِ والعيشِ، حتّى عمِلَ بعضُهم بائعاً متجوِّلاً أو مارسَ أعمالاً مُزْريةً لا تتناسبُ ومُستواهُمُ الفكريُّ والأدبيُّ..

فها هو ذَا الشّاعرُ المهجريُّ إلياسُ فرْحات، يصوِّرُ لنا شقاءَ غربتِه سعياً وراءَ الرِّزقِ، فلا يُحالِفُه الحظُّ، فإذا قصدَهُ غرباً راحَ يُشرّقُ، وإنْ يمَّمَ نحوَه شرقاً راحَ يُغرِّبُ، وقدْ عمِلَ الشَّاعرُ في البرازيلِ بائعاً متجوّلاً وزاولَ أعمالاً عديدةً. فقالَ يصِفُ حالَه حينَ مكابدةِ الشَّقاءِ وقلَّةِ الحظِّ: (12)

طَوَى الدَّهرُ من عُمري ثلاثينَ حِجَّةً طـوَيـْتُ بها الأصْقاعَ أسْعَـى وأَدْأَبُ

أُغـرِّبُ خـلْـــــفَ الـــــــــرّزقِ وهـــــــــــــوَ مُشَرِّقٌ وأُقــسِــــــــمُ لـو شَــــــــــرَّقْــتُ راحَ يـُغــــــــــــــرِّبُ

ويصِفُ مرْكبةَ النَّقلِ الّتي يَجرُّها حصانانِ، محمَّلةً بالبضائعِ، تَجُوبُ به الآفاقَ بحثاً عن لقمةِ العيشِ، واصِلةً ليلَها بنهارِها، مُتخلِّلةً الرّوابيَ والغاباتِ؛ فتَبدُو كالسَّفينةِ بين عُبابِ اليمِّ، تَعلُو وتهبطُ:

ومـركـبـةٍ للنـَّقْــــــــــــــلِ راحَــــــــــــــــــــتْ يـجُــــــــــــــرُّهَا حِصَــــــــــانـانِ مُحْمــرٌّ هَـزيـْــــــــــــــــــلٌ وأشْـــــــــــــــهَبُ

جـلـسْــــــــــــتُ إلـى حُــــــــــــــــــــوذيِّهــــــــا ووراءَنــَـــــــــــــا صنـادِيـــــــــــــــــــقُ فـيهـا مـــــــــــــــا يـَسُــــــــــــــرُّ ويُعْــجِبُ

تَبِيْـــــــــنُ وتَخْــــــــــــــفَى في الــــــــــــــرُّبا وخَيــــــــالُهــا فيَحْسَـــــــــــبُها الـرَّاؤُونَ تَطْفُــــــــــــــو وتَرْسُـــــبُ

وتَدْخلُ قلبَ الغابِ والصُّبحُ مُسْفِرٌ فتَحـسـبُ أنَّ اللَّــــــــيلَ للَّـــــــــــــــيــلِ مُـعْـقِـــــــــــــــبُ

تمُـــــــــــرُّ عـلى صُــــــــــــمِّ الـصـَّفَا عجَلاتُهــــــــــــــــــا فتَسمَعُ قلْبَ الصَّخرِ يشْكُو ويَصْخَبُ

وتتَبدَّى مظاهرُ الشَّقاءِ والفقرِ والغربةِ في أسْوأ صُورِها في تلكَ الأكواخِ الخاليةِ من البشرِ إلّا من البُومِ النَّاعبِ فوقَها، وهي مفكَّكةُ الجدرانِ والسُّقوفِ الّتي يَرى الشَّاعرُ من خلالِها النُّجومَ تبدُو ثمَّ تختَفي، ولا تَعرفُ أجفانُه طعْماً للكَرى.. والماءُ العكِرُ مورِدُهم ومنهلُهم المشترَكُ مع الخيلِ، وربَّما الخيلُ تَعافُ ما يشربُونَ منهُ:

نَبيْــــــتُ بأكْــــــواخ ٍ خـلـَتْ مــــــــن أُناسـِــــها وقـــــــــامَ علَـيها الـبُـــــــــــــومُ يـَبْـــــــــكي ويَنعَــــــــبُ

مُفـــــــكَّـــــــــكَـةٌ جُــــــــــــــــدْرانُهـــــــا وسُـــــــــقـُوفُـــــــــها يُطـِلُّ عـلَـــــيْنا الـنَّـــــــجْـمُ مِنـْها ويَغــــــــــــــــــــرُبُ

فنُمْسِي وفي أجفانِنا الشَّوقُ للكَرى ونُضْحِي وجَمْرُ السُّــــــهدِ فيهنَّ يَلهَــــــــــــبُ

ونشْـــــــرَبُ ممَّا تشْـــــربُ الخيْــــــــــلُ تــــــارةً وطَوراً تَعافُ الخيْلُ ما نحْنُ نشــرَبُ

وهذا شاعِرُنا المهجريُّ إيلْيا أبُو ماضِي قدْ نشأَ فقيراً، لكنَّهُ كانَ توَّاقاً للعلمِ منذُ طفولتِه ولمْ يجدْ إلى ذلكَ سبيلاً، فاضطُرَّ للذَّهابِ -مشياً على الأقدامِ – إلى مدرسةٍ تبعدُ عن منزلِه نحوَ مِيلَينِ، وكان يُديرُها العلّامةُ الشَّيخُ إبراهيمُ المُنذرِ، فيقِفُ أمامَ نافذتِها سرّاً؛ كي يُصغيَ إلى شرحِ المعلِّمِ.. وحينَما رآهُ الشَّيخُ إبراهيمُ وعلِمَ سرَّ حالِه، أدخلَهُ المدرسةَ مجّاناً.. وقدْ علَّقَ الشَّيخُ على هذهِ الواقِعةِ بقولِه: (لماذا نُشْفِقُ على البطونِ الجائعةِ فنُطعِمُها، ولا نُشفِقُ على العقولِ الجائعةِ فنُغذِّيها؟ أليسَ العقلُ أسْمى من البطنِ؟). وهذهِ المقُولةُ تفتحُ أمامَ بصائرِنا أبواباً واسعةً للبحثِ في ضياعِ الكثيرِ من المواهبِ والعبقريَّاتِ والطَّاقاتِ البشريَّةِ الّتي وأَدَتْها صفحاتُ التَّاريخِ وأحداثُه بسببِ البؤسِ والفقرِ والشَّقاءِ.

ولعلَّ قصيدتَه (الفقير) أبرعُ لوحةٍ فنّيّةٍ تعبِّرُ عن حالِ الفقيرِ ومُعاناتِه وحِرمانِه وشعورِه بالبؤسِ واليأسِ والحزنِ والهمِّ والغمِّ: (13)

هَـــــــــــــــمٌّ ألَــمَّ بـــــــــــــــــــهِ مـــــــــــــــعَ الظَّلْـــــــــــــماءِ فنَأَى بمُقْلَــــــتِه عـــــنِ الإغْفَــــــــــــــــــاءِ

نفْسٌ أقامَ الحُــــــزنُ بينَ ضلُوعِــهِ والحُـــــــــــــزنُ نـارٌ غيرُ ذاتِ ضِــــــــــــياءِ

يَرعى نُجومَ اللَّيلِ ليسَ به هــــوىً ويَخـــــــــــــالُه كلِفاً بهـــــــــــــــنَّ الــــــــــــــــرَّائي

في قلــــــــبِهِ نــــــــــــــارُ (الخَليلِ) وإنَّمـــــــــــــا في وجنَتـــــيْهِ أدمُـــــــــــعُ (الخَنْساءِ)

قدْ عضَّهُ اليأسُ الشَّديـدُ بنــَـابِه في نفسِــهِ والجُــــــــوعُ في الأحشاءِ

يَبْـــــــــكي بكاءَ الطِّـــــــــفلِ فــــــــــارقَ أمـَّـــهُ مــــــــــــا حِيلةُ المحْـــــــــزونِ غيرُ بكاءِ!

وقدْ خلتْ دارُه من كلِّ مظاهرِ الحياةِ، فلا طعامَ ولا شرابَ، ولا مِن زائرٍ.. وباتَ في حَيرةٍ من أمرِه: إمّا تشاؤمٌ يدفعُ به إلى الانتحارِ.. وإمّا صبرٌ على الأيّامِ وشكْوى ومناجاةٌ للّيالي والزّمانِ:

فأقَــــــــــــــامَ حَلْــــــــــسَ الــــــــــــدَّارِ وهــو كأنَّــــــــــــهُ – لخُــــــلْوِ تلكَ الـــــــــــــــــــــــــــــدَّارِ- في بيْــــــــــــــــــــــــــــداءِ

حَيْــــــــــــرانَ لا يَــــــــــــدريْ أَيقـــــتُلُ نفسَـــــــــــــــهُ عَمْـــــــــداً فيَخلُصُ مِــــــــن أذى الدُّنيــاءِ

أمْ يستمِرُّ على الغضَاضةِ والقَـذَى والعيشُ لا يَحْــــــــلُو مـــــــــــــــــــــعَ الضَّــــــــــــــــــرَّاءِ

طـــــــــــردَ الكــَرى وأقـــــــــــامَ يشْــــــــــــكُو ليلَهُ يا ليــــــلُ طُلْــــــــــتَ وطــــــــــــالَ فيكَ عَنــــائي

يا ليلُ قـــــــدْ أغـــريْتَ جِسْــمي بالضَّنَا حتَّى ليُــــــــــــــؤلِمُ فقْـــــــــــــــــــــــــــــــدُه أعْضَـــــــــــــائي

ورميْــــــتَني يا ليـــــــــــــــــلُ بالهَــــــــــــــمِّ الّــــــــــــــذي يَفْــــــــــــــري الحشَــــــــــا، والهـــــــمُّ أعسرُ داءِ

يا ليــــــــــــلُ مالكَ لا تَـــــــــــــــــــــرِقُّ لحـــــــــــــــــــــالَتي أتُـــــــــــــراكَ والأيــَّـــــــــــــــــــامُ مِــــــن أعْـــــــــــــــــدَائي؟

يا ليلُ حَسْبي ما لقِيتُ مِـــــن الشـَّقا رُحْمــــــــــــــاكَ لسْــــــــــــــــتُ بصخْـــــــــــرةٍ صمَّاءِ

بِنْ يا ظلامُ عـــــــــــــــــنِ العُيــــــــــــــونِ فربَّمـــا طلــــــــــعَ الصَّـــباحُ وكانَ فيـــــــــــهِ عَـــــــــــزائي

وارحْمـــــــــــــــتَا للبَـــــــــــــــــــــائسِـــــــــــــينَ فإنَّهــــــــــــــــــم مــــــــــــــوْتَى وتَحســــــــــــــــــــبُهم مــــــن الأحيــــــــــــــــاءِ

إنّي وجــــــــــدْتُ حظُوظَهم مُسْــــــــــــــــــــوَّدةً فكأنَّمـــــــــــا قُـــــــــــــــــــدَّتْ مـــــــــــــــــنَ الظَّلمــــــــــــــــــــاءِ

بلْ إنَّ الزَّمانَ مصدرُ سرورٍ للخلقِ، ولكنْ هيهاتَ أن يكونَ للفقراءِ حظٌّ من ذاكَ السُّرورِ، وهمْ لا يملكُون سِوى أضغاثَ أحلامٍ بالنِّعمةِ سرعانَ ما تتبدَّدُ كالسَّرابِ.. حتّى باتَ السُّرورُ عندَهم خرافةً أو مستحيلاً كطائرِ العنقاءِ.. بل إنّهم صارُوا هدفاً للخطوبِ والأرْزاءِ: (14)

أبــــــداً يُسَــــــرُّ بنُو الزَّمــــانِ ومَــــا لهُـــمْ حــــــــــــظٌّ كغيرِهم مِــــــــــــــــنَ السَّــــــــــــــــــــــــــــــــرَّاءِ

مَا في أكفِّهِم مِن الدُّنيـــــــــا سِـــــــــــــــــوى أن يُكــــــــــثِروا الأحـــــــــــــــــــلامَ بالنَّعمــــــــــــاءِ

تدنـــُـــــــــــــــو بهِم آمالُهُــــــــــــــــــم نحــــــوَ الهَنــا هيهاتَ يَدنــُـــــــــــو بالخَيَـــــــــــــالِ النــَّـــــــــــــائي

أبْطرَ الأنامُ من السُّــرورِ وعندَهم أنّ السُّـــــــــــــــرورَ مُـــــــــــــــرادِفُ العنْقـــــــــــــاءِ

إنّي لأَحــــــــــزنُ أنْ تكــــــــــــونَ نفوسُـهم غرضَ الخُطوبِ وعُرضـــــــــةَ الأرزاءِ

وتنطلِقُ سجِيَّةُ الشَّاعرِ وتثُورُ مشاعرُه ساخِراً من الأغنياءِ الّذينَ أسْرفُوا على أنفسِهم في التَّكبُّرِ والاستِعلاءِ، ويُذكِّرُهم بطبيعةِ خلْقِهم، فهُم والفقراءُ مِن طينٍ وماءٍ.. ويُخاطبُهم بأسلوبٍ ساخرٍ ساخطٍ من الحياةِ الّتي لم تُنصِفِ الفقراءَ من الأغنياءِ.. فلِمَ يلبسُون الحريرَ والفقراءُ بغيرِ كِساءٍ؟ّ! ولمَ يَضنُّون بالدِّينارِ على الفقيرِ.. ويُسرفُون في أموالِهم على شهواتِهم وملذَّاتِهم؟: (15)

قُـــــــــــــلْ للغَــــــــــــــــنيِّ المسْـــــــــــــــتَعِزِّ بمَـــــــــــــــالِهِ مهْلاً لقدْ أسْـــــــــرفْتَ في الخُيَــــــــــــــــلَاءِ

جُبِلَ الفقيرُ أخُوكَ من طينٍ ومنْ مــــــــــــــاءٍ، ومنْ طــــــــــينٍ جُبِلْـــــــــتَ ومـــاءِ

فمِــنَ القسَـــــــــاوةِ أنْ تكُــــونَ منَعَّمـاً ويكــُـــــــــــونَ رهْـــــــــــــــــنَ مصـــــائبٍ وبَــــلاءِ

وتَظلُّ تَرفُــــــــــــــلُ بالحــــــــــــــــــــريرِ أمامَـــــــــهُ في حينِ قَـــــــــــــــدْ أمْسى بغيرِ كِسَـــــــــــــاءِ

أَتَضُــــــــــــنُّ بالدِّينـــــــــــــــــــارِ في إسْـــــــــــعافِــهِ وتَجُــــــــــــودُ بالآلافِ في الفحْشـــــــــــــــــاءِ

ويدعُوهُم لنُصْرةِ الفقراءِ ومساعدَتِهم بما يَكْفيهِم مِنَّةَ البُخلاءِ، وإنّه لمَنَ الكُفرِ والضَّلالِ عدمُ الإنفاقِ والسَّخاءِ على الفقراءِ.. وكلُّ نفسٍ بشريَّةٍ إلى فَناءٍ؟:

اُنصُرْ أخـــــــاكَ فــــــــإنْ فعلْــتَ كفَيْتـَهُ ذلَّ السُّـــــــــــــــؤالِ ومِنـَّـــــةَ البُخَـــــــــــــــــــــــــلاءِ

أَذوِي اليَسَـــــارِ وما اليسَـــــــارُ بنــــــــافعٍ إنْ لمْ يكُـــــــــنْ أهلُـــــــــــوهُ أهـــــلَ سَخـاءِ

كمْ ذا الجُحُودُ ومالُكُم رهنُ البَلا وبـِــــــــــمَ الغُـــــــــــــــرورُ وكلُّـــــــكُم لفَنــــــــــــــــــــاءِ؟

إنَّ الضَّعيفَ بحاجـــــــةٍ لنُضَـــــارِكُم لا تَقْعُدوا عــن نُصْــــــــــرةِ الضُّعَفـــاءِ

وفي قصيدتِه (الطّين) تتجلَّى فلسفةُ السُّخريةِ من الأغنياءِ الموْسَرينَ المتجبِّرينَ المتكبِّرينَ المتَعالينَ على النَّاسِ في أبْهى معانِيها، مُذكِّراً إيَّاهُم بماضِيهم وطبيعتِهم البشريَّةِ الّتي يتَساوُون فيها مع الفقراءِ رغمَ أنوفِهم: فالأصلُ واحدٌ من طينٍ حقيرٍ.. وألمُ السّقمِ واحدٌ لا يُميّزُ بينَ غنيٍّ وفقيرٍ.. والقمرُ المُطِلُّ واحدٌ لا يُفرّقُ بينَ قصرٍ شاهقٍ وكوخٍ حقيرٍ.. وكلُّ ما في الطَّبيعةِ من ضُرٍّ ونفعٍ واقعٌ على الجميعِ إنْ خيراً فخيرٌ ، وإنْ شرَّاً فشرٌّ:(16)

نسِيَ الطِّـــــــينُ ســــــــــاعةً أنَّــــــــــه طِيــــ ــنٌ حقِيـــــــــرٌ فصَــــــــــالَ تِيهـــــــــاً وعَـرْبــــــــــدْ

و كسَـــــــــــا الخِزُّ جسْـــــــــــمَه فتَبــاهَى وحَــــــــوَى المـــــــــالَ كـيسُـــــــــــــهُ فتَمَــــــــــــــرّدْ

يا أخِي لا تُمِـــــــــــــلْ بوجهِـــــــــكَ عــــنّـي مـــــــا أنــا فَـحْمـــــــــةٌ ولا أنــــــتَ فَـرْقَــــــــــــــدْ

أنتَ في البُـــــرْدةِ الموَشّــــــــــــــــاةِ مِثلِي في كِسَائي الرَّدِيـــمِ تَشْقَى وتسْـعَدْ

أَأمَــــــــــــــانـــيَّ كلُّهـــــــــــــــــــــــا مـــــــــنْ تُـــــــــــــــــــرابٍ وأمانيْـــــــــــكَ كلُّــــــــــها مـــــــــنْ عَسْــــــجـدْ؟

أأمــــــــــــــانــــيَّ كلُّهـــــــــــــــــــــــا للتَّــــــــــــــــــــــــــــلاشِـــي وأمــــانِيــــــــــــكَ للخُــلـــــــــــــــــــودِ المؤَكَّـــــــــــــدْ؟

لا؛ فهَــــــــــذِي وتلكَ تأْتِي وتَمْــضِي كــذَويهَــــــــــــا وأيُّ شـــــــــــــــــيءٍ يؤَبَّــــــــــــــــــــــــــدْ؟

أيُّهــــــا المزْدَهي إذا مسـَّـــــكَ السُّــقْــ مُ ألا تَشْـــــــــــــــتَكـي؟ ألَا تتــنَــــــــهَّــــــــــــــــــــــــــــدْ؟

قمَـــــــــــــرٌ واحِـــــــــــــدٌ يُطِــــــــــــــلُّ عليْــــــــــــــــــــنَــا وعلــى الكُــــــــــــوخِ و البِنــــــــــــاءِ الموطّـَـدْ

إنْ يكُـــــــــنْ مُشْــــــــرِقاً لعينـَـــيْكَ إنّي لا أراهُ مــن كُــــــــوَّةِ الكُـــــوخِ أسْـــــــــــــوَدْ

ثمّ يُقارِنُ حالَ الغنيِّ بحالِ مخلوقاتِ الطَّبيعةِ، فيُذكِّرُه بأنّه مهْما ملَكَ فلنْ يكونَ أسعدَ منْ فراشةِ الحقلِ.. ولا أجْملَ ولا أجْودَ من الورودِ العابقةِ بشَذاهَا، فهي تُعطي دونَ أن تنتظرَ مَن يُكافِئُها على عطائِها.. وليسَ الغنيُّ عزيزاً ليُدافعَ عن نفسِه حينَما تَمتَصُّ دمَه بعوضةٌ حقيرةٌ.. ولا يَملكُ القُدرةَ على النَّومِ قريرَ العينِ إذا ما هَجرَ النَّومُ مُقلتَيهِ.. ويُذكِّرُه بمنبتِه من الطِّينِ الّذي يَدوسُه بقدمَيهِ، فلِمَ التِّيهُ والتَّعالي على الآخَرينَ؟!.. ويَدعُوهُ إلى نبذِ الكُرهِ والبَغْضاءِ من فؤادِه.. أمّا قلبُ الشَّاعرِ، فقدْ أصبحَ مَعْبداً للحبِّ والتَّسامحِ: (17)

لو ملَكْتَ الحُقولَ في الأرضِ طُرّاً لـمْ تكُنْ مِـن فراشَةِ الحَقْلِ أَسْعَـد

أَجمِيلٌ؟ مَـــــا أنتَ أبْهى مِـــــــــنَ الـوَرْ دةِ ذاتِ الشَّـــــــذَا و لا أنـــــــــتَ أَجْــــــــــــودْ

أمْ عـــــزيزٌ؟ وللبعُوضـةِ مِــــنْ خَـــــــــــدَّ يكَ قُـــــــــوتٌ وفــي يدَيـْـــــــــــكَ المُهنّـَــــــــــــــــــــــــــدْ

أمْ قـــــــويٌّ؟ إذنْ مُــــــرِ النَّــــــــومَ إذ يَغْــ ــــشَــــــاكَ واللَّيــــــــــلَ عن جفُـونِكَ يَرتَـدّ

أنتَ مِثـــــلِـي مِـــــــــــنَ الثَّـــــــــــــرى وإليــــــــــــــهِ فلمَاذا يا صاحِبي التِّيهُ والصَّـــــــدّ؟

أيُّها الطِّـــــــينُ لسْـــــــتَ أنْقَــــى وأسْمَى مـِـــــــنْ تُـــــــــــرابٍ تَـــــــــــــــــدُوسُ أو تتَـــــــــــوسَّـــدْ

لا يَكُـــــــنْ للخِصــــــامِ قلبُكَ مـــــــــــــأْوىً إنَّ قلْبيَ للحُـــــــــــبِّ أصبـــــــــــــحَ مَعْبــــــــــــــــــدْ

وتبلُغُ السُّخْريةُ من الأغنِياءِ ذُؤابةَ مَقاصدِهَا ومَرامِيها في قصيدتِه (كُلُوا واشربُوا) مُوجِّهاً دعوتَه إليهِم بمزيدٍ من التَّرفِ والإسرافِ في المأكَلِ والمشْرَبِ والملبَسِ والمسْكَنِ وإهانةِ الفقراءِ وسَجْنِهم وتَعذيبِهم وقتلِهم: (18)

كلُــــــوا واشْــــــــربُوا أيُّهــــــــــــــا الأغنــــياءُ و إنْ مـــــــــلأَ السِّـــــــككَ الجــائِعُــــــــون

ولا تلْبَسُــــــــوا الخــــــــزَّ إلاّ جــــــــــــديداً وإنْ لبِسَ الخِــــــــــرَقَ البــــائِسُـــــــــــــــون

وحوِّطُـــــــــوا قصورَكُم بالرِّجـــالِ، وحوِّطـُــــــــــوا رجــالَكم بالحُصـــــــون

فــــــــــــــلَا ضحَــــــــــــــــايـــــا الطّـَـــــــــــــــــــــوَى ولا يُبصِـــــــــــــــــرُون الّـــــــــــــــذي تَصنـَـــــــــــعُون

وإنْ ســــــــــــــــــــــــــــاءَكم في الــــــــــوُجـــــــــــــــودِ وأزعَجَــــــــــــــــكُم أنَّهـــــــــــــــــــــــــــم يُولُّــــــــــــــــــــــــون

مُرُّوا فتَصــــولُ الجنـــــــودُ عليـهِم تُعـــــــــــــلِّمـهُم فتْـــــــــــــــــــــــــــــــــكَ المَنُـــــــــــــــــــــــــون

فهُم مُعْتـدُونَ، وهـــــــــمْ مُجْرِمون وهـــــــــــمْ مُقلِـقُون، و هــــــــــــــمْ ثائـِـرون

إذا الجُندُ لم يَحرسُـــوكُم وأنتمْ سُـــراةُ البــــــــــــلادِ فمَنْ يَحرِسُــــــون؟

و إنْ هُــــــــم لـم يَقتُـلـــــوا الأشــــقِياءَ فيـا ليْتَ شــِــعري مَـــــــــــنْ يَقتلُــون؟

ولا يُحْــــــــــــــــــــــــــزِننَّـــــــــــــكُم مـــــــــــــــــــــــوتُــهــــــــــــم فإنّـــــهـــــــــــــــــــــــم للـــــــــــــــــــــــــــرَّدى يُــولَـــــــــــــــدُون

وقــولُـــــــــــوا كــذا قــــــــــــدْ أرادَ الإلـــــــــــهُ وإنْ قـــــــــــــــــــــــدَّرَ اللهُ شــــــيئاً يَكُـــــــــــــــــــون

ثمَّ يدعُو الفقراءَ إلى القناعةِ والرِّضا، وعدمِ الشَّكوى من تردّي حالِهم، وتركِ الأغنياءِ في غناهُم وترفِهم ينعمُون في جحيمِ شهواتِهم وملذَّاتِهم؛ لأنَّهم زائلُون بكلِّ نعمِهم الباليةِ.. وقدْ توعَّدَهم ربُّ البريّةِ بسَقَرٍ يَصْلَونها ذاتَ لهبٍ مع أبي لهبٍ الّذي لم يُغنِ عنه مالُه وما كسَبَ.. ووعدَ الفقراءَ والمساكينَ بجنّاتِ النَّعيمِ، يتَّكئِون فيها على الأرائكِ وحولَهمُ الحُورُ العِينُ، ويَثملُون بخمرِ النَّعيمِ الّذي لا يَغتابُ العقولَ: (19)

و يا فُقـــــــــــــــــــراءُ لمــــــــــــــــــــاذا التَّشَــكّي؟ ألَا تَســــــــتـَــحُونَ؟ ألا تَخجـــلُــــــــونْ؟

دعُـــــــــــــــــوا الأغنـــــــيــــاءَ ولــــــــــــذَّاتِهـــــــــــم فهمْ مثْــــــــــــــــــــلَ لذَّاتِهـــــــــــــــم زائِلُــــــــــــــــــونْ

سيُمْسُـون في “سقَرٍ ” خـالِدينَ وتُمْسُـــــــــــــونَ في جنّــــــــــــــــةٍ تَنْعمُــــــــــونْ

فـــلَا تَعطشُــــــــونَ، ولا تَسْــغَبُون، ولا يَرتَـــــــــــــــــــوُونَ، و لا يَشْـــــــــــــــــــبـعُون

لكمْ وحـــــــدَكُم ملكُوتُ السَّــماءِ فمَـــــــا بالُكمْ لسْـــــــــــــــــتُم تَقنَــــــــعُونْ؟

فـــلَا تَحْـــــــــــــــزنُوا أنّكمْ ســـــــــاهِرُون فســــوفَ تنامُــــــــونَ ملءَ الجُفونْ

ستَتَّكـئِـــــــونَ مــــــــــــــــــــــــعَ الأنبِيـــــــــــــــــــــــــاءِ تُظلِّلُــــــــــــكمْ وارفـــــــــــــاتُ الغُصــــــــــــــونْ

يَضـــــــــــــــــوعُ السَّـــــــــــــــــــــــــنَا بالشَّــــــــــذَى وتَجْـــــــــري الطَّلا أنهُــــــــــــــراً و عُيـــــــــــونْ

وتَسقِيكُمُ الخَمرَ حُــورٌ حِسَانٌ كما يَشْــــــــتـَـهينَ، كمـــا تَشـــــــــــــتَــــهُونْ

كذَا وعَــــــــــــدَ اللهُ أهـــــــــــــلَ التُّـــــــــــــقَى وأنتـــــــــــــمُ هُـــــــــــــــــم، أيُّهــــا، المُتْعـــــــــبـُونْ

ألَا تُؤمِنُـــــــــــونَ بقــــــــولِ الكِتــَابِ؟ فــــــــــوَيلٌ لكــــــــــــــــــمْ إنَّكـــــمْ كافِـــــــــــــرُونْ!

ولكنّ النَّظرةَ الفلسفيَّةَ المتفائِلةَ في الحياةِ المنْبثِقةِ من رؤيتِه الجماليَّةِ للكونِ في قصيدتِه (كم تشْتَكي؟) تُلْغي كلَّ حدودِ الفقرِ والحِرمانِ وتدعُو الجميعَ للتَّفاؤلِ، فلمَاذا الشَّكْوى من الفقرِ ما دامَ بمقدورِالمرءِ التَّنقُّلُ في كلِّ بقاعِ الأرضِ وتأمُّلِ السَّماءِ بنجومِها وكواكبِها؟! ولماذا التَّشكِّي والإنسانُ يستطيعُ التَّنقُّلَ في الحقولِ منتشياً بأريجِ الأزهارِ وتغريدِ البلابلِ والنَّسيمِ العليلِ والماءِ الزُّلالِ المترقْرِقِ كالفضَّةِ وأشعَّةِ الشَّمسِ الذَّهبيَّةِ الدَّافئةِ والنُّورِ المنبلِجِ بينَ الفِجاجِ وعلى السُّفوحِ راسِماً أجملَ البيوتِ الموشَّاةِ بكلِّ أطيافِ الألوانِ؟! (20)

كــمْ تَشْــــــتَكي وتَقُــــــــولُ إنَّكَ مُعْــــــــــدَمٌ والأرضُ مُلْكُكَ والسَّــــــــمَا والأنْجُــــــــمُ

ولكَ الحقُـــــــولُ وزهْــــــــرُها وأَريجُـــــها ونسِــــــــــــيمُـهــا والبُلبــــــــــــــلُ المتَـــــــــــــــــــــــــــــرنِّمُ

والمـــــــــــــــــــاءُ حولَكَ فِضَّــــــــــةٌ رقْراقَــــــــــــــــــةٌ والشَّمْسُ فوقَـكَ عسْـــجدٌ يتَضرَّمُ

والنُّورُ يَبْني في السُّـــفوحِ وفي الذُّرا دُوْراً مُزخْــــــــــــــرفةً وحيْـــــــــــناً يَهْـــــــــــــــــــــــــــدِمُ

هشَّتْ لكَ الدُّنيا فمَا لكَ واجِماً؟ وتبسَّـــــــــمَتْ فعَــــــــــــــــلامَ لا تتَبسَّــــــــــــــمُ؟

قالَ المـواسِــــــمُ قدْ بدتْ أعـــــــــــــــلامُها وتعرَّضَـــــتْ لي في الملابِسِ والــــــدُّمـى

وعليَّ للأحْبـــــــــــــــــــــــابِ فـــــــــــــــــــــــــــــــرْضٌ لازِمٌ لكـــــــــنَّ كفِّي ليسَ تمْـــــــلِكُ دِرهَـــــــــــــــــــمَــا

قلتُ ابتسِـــمْ يَكفِيكَ أنَّكَ لم تَـــــــزلْ حيَّـاً ولسْـــــــتَ مــنَ الأحـــــــــــــبَّةِ مُعْـدَمـا

قـــــــــــالَ الَّليــــــــــــــــالي جَـــــرَّعَتْني عَلْقَـــــــــماً قلتُ ابتسِمْ ولئِنْ جَرعْتَ العَلْقَما

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات