الذَّوق والرُّقيُّ والحضارةُ

الذَّوقُ والرُّقيُّ والحضارةُ ثلاثةُ أقانيمَ جماليَّةٍ تَرتَقي بالبشريَّةِ، وتَسْمٌو بالإنسانيَّةِ إلى عالمِ الملائكةِ، ومِن هُنا كان لا بدَّ لي مِن إطلاقِ صَياصِي كلِماتي كي تَنْسجَ منْ خيوطِ الخيالِ وخاماتِ الواقعِ أجملَ لوحاتِ التَّعبيرِ في مِحْرابِ الجُمهوريَّةِ المثاليَّةِ للكونِ والعالَمِ.

الذَّوقُ

قالُوا:

 حبُّ الجَمالِ ذوقٌ، وخَلْقُ الجَمالِ فنٌّ. إيمَرسُون

 الذَّوقُ ضميرُ الرُّوحِ. جُوبّير

 لكلِّ إنسانٍ ذوقٌ يُرافِقُه إلى كلِّ مكانٍ. هِنري آدمْز

وأقولُ:

o الذّوقُ شمْعةٌ مُتلألِئةٌ تُنيرُ عَتْمةَ كوخٍ صغيرٍ، وتُضيءُ حَنايا بيتٍ تُرابيٍّ قديمٍ، لا أكْداسٌ منْ مصابيحِ الكهرَباءِ تُعْمي الأبصارَ، وتُشوِّشُ الأفكارَ.

o الذَّوقُ سِراجٌ تترجْرجُ أضواؤُه في صمْتِ ليالي الشِّتاءِ، وليسَ حِبالاً منَ الأنوارِ، تتشابكُ تشابُكَ خيُوطِ بيتِ العنكبُوتِ.

o الذّوقُ لمسةٌ فنّيَّةٌ ساحِرةٌ تنبُضُ بالحياةِ في أتْفهِ موجُوداتِ الكونِ، وليس الذَّوقُ مُجوهراتٍ موشَّاةً برنينِ المنفعةِ المادّيّةِ، مُزخرفةً بروحِ التَّنافسِ التِّجاريِّ، تتَباهَى بها الغانِياتُ، وهنَّ من الفِكرِ والمشاعِرِ خاوياتٌ، وبها تَسْحَرُ رُتَيْلاءُ الملذَّاتِ بهائِمَ الشَّهواتِ منَ الفاتِناتِ.

o الذَّوقُ روحٌ تَهِيمُ بالجمالِ، فتُحِيلُه سِحْراً منَ الخَيالِ والمُحالِ، وليسَ الذَّوقُ جسَداً تُكفِّنُه الزَّخارفُ والألوانُ والأشكالُ.

o الذَّوقٌ لمسةٌ إلهيَّةٌ، تَبصُمُها أناملُ الملائكةِ النُّورانيَّةِ على بعضِ الكائناتِ، فتُحِيلُ ظلامَ النُّفوسِ إلى نهارٍ، وشتاءَها الوَحِلَ إلى ربيعٍ نضِيرٍ، وليسَ الذَّوقُ تَقْويماً لملامِحِ الأقْدارِ، وتاريخاً يُغيِّرُ خارطةَ الأعْمارِ.

o الذَّوقُ حقيقةٌ تسْمُو على كلِّ عقِيدةٍ، وليسَ الذَّوقُ إعلاناتٍ على أبوابِ الخليفةِ، وشعاراتٍ على أفواهِ ساسةِ المَكْرِ والخديعةِ.

o الذَّوقُ صوتُ بلبلٍ يُغرِّدُ على حافَّةِ ساقيةٍ، وغناءُ عُصفورٍ يَصْفِرُ على مداخِنِ مِدفأةٍ شتويّةٍ، وليسَ الذَّوقُ نهِيقاً أو خُواراً أو نقِيقاً أو نعِيباً تُكفِّنُ بشاعتَه الآلاتُ الموسيقيَّةُ، ويَدْفنُ معايِبَه قَرعُ الطُّبولِ والدِّربكّاتِ.

o الذّوقُ سِروالٌ يرتَديهِ رجالُ بابِ الحارةِ، على اختِلافِ أعمارِهم، فيُلَوِّحُ طرفُهُ الخَلفيُّ بالرُّجولةِ، كمَا يُلوِّحُ الكَبْشُ بالفُحُولةِ، حينَما يَترنَّمُ بطَرفِه الخلفيِّ أمامَ شِياهِه، وليسَ الذَّوقُ بِنْطالاً يَعصِرُ مُرتدِيهِ من الأعْلى، ويَتهدَّلُ من الأسفلِ كعصِيرِ الطَّماطِمِ تحتَ المِزرابِ، وليسَ الذَّوقُ قميصاً ضيِّقاً كالجَواربِ على القدمينِ، وليسَ الذّوقُ نُتْفةً منَ الشَّعرِ، يَبصِقُها إبليسُ تحتَ الشَّفةِ السُّفْلى خجَلاً من بَصقِها تحتَ خياشِيمِه في أمْسِه المُنصَرِمِ.

o الذَّوقُ طبيعةٌ إلهيَّةُ الصُّنعِ، إذا تدخَّلتْ فيها يدُ الإنسانِ شوَّهَتْها، وحَرمَتْها من سِحْرِ جمالِها وعظمةِ رونَقِها وبديعِ جَوْدتِها.

o الذّوقُ لمْسةٌ فنّيّةٌ، تُبدِعُها مواهبُ الموهُوبينَ وأنامِلُ المُبْدعينَ، فقدْ تَنْظرُ في لوحةِ الموناليزا الّتي أبدعَتْها ريشةُ الفنَّانِ الإيطاليِّ ليُوناردو دافِنْشي، فتَراهَا صورةً عاديَّةً، ولكنَّكَ حينَما تتأمَّلُ ملامحَها بِذوقٍ مُفْعمٍ بالأحاسيسِ، فإنَّكَ تقعُ على سِحْرٍ ملائكيٍّ في عينَيْيها، وتَستَشِفُّ لُغزاً يُحيِّرُ أفهامَ الجهابِذةِ وعمالِقةِ الفنِّ.

o لكلٍّ منَّا لمسةٌ، بلْ لمسَاتٌ فنّيّةٌ في الحياةِ، تَنمُّ عن ذوقٍ رفيعٍ:

 فالمرأةُ السَّاحِرةُ في بيتِها تمتلِكُ زوجَها، وتأسُر مشاعِرَهُ، وتسلُبُ فِكرَه، وتُذِيبُ روحَه في حنايَاهَا بحركةٍ بسيطةٍ أو بإيماءةٍ ذكيَّةٍ، أو بكلمةٍ لطيفةٍ تَنبُعُ من حنايَا قلبِها، أو بنظْرةِ إعجابٍ وتقديرٍ، تَفيضُ من بحرِ مشاعِرِها، ولو كانتْ تعيشُ على حصِيرٍ، وليستْ تلكَ اللَّمسةُ كلماتٍ حراريَّةً محتَبَسةً لا تَشِعُّ إلّا من بريقِ المجَوهَراتِ الّتي تتكدَّسُ على جسدِها، ولا يَسمعُ بعلُها كلمةً طيِّبةً إلّا من رنينِ ذهبِها أو ألماسِها.

 ولكلِّ رجلٍ لمسَاتٌ فنّيّةٌ تتَجلّى في أبْهى صُورِها في علاقتِه بأسرتِه وبالمحيطِ الّذي يَعيشُ فيهِ.. في بناءِ بيتِه، في حديقتِه، في كلِّ ركنٍ يجلِسُ فيهِ، في أصْغرِ جزئيَّاتِه.

 البَنّاؤُون لهم لمسَاتُهم الفنّيّةُ الّتي تُعبِّرُ عن روعةِ ذوقِهم ورُقيِّ مهاراتِهم، فهيَ تُحِيلُ كلَّ حَجرٍ أصَمَّ إلى روحٍ تَفِيضُ بالحياةِ وتَنْطِقُ بأسْمى معانِيها الجميلةِ. والمهندسُون لهُم لمسَاتُهم الفنّيّةُ الّتي تَحكِي قِصصَ إبداعاتِهم، وتتَجلّى في موقعِ البناءِ واتِّجاهِه وحركةِ أبوابِه ونوافِذِه، في أعمِدتِه وأسْقُفِه، في تداخُلِ أقسامِه وتَخارُجِها، في كلِّ زاويةٍ وركنٍ ينطِقُ عن الهَوى.

 وراعيْ الأغنامِ له براعةٌ فنّيّةٌ تتَجلّى في حُسنِ قيادةِ قطيعِ الأغنامِ خلْفَه، وهوَ يَمتَطي حمارَهُ القائدَ الفَذَّ الّذي يَسِيرُ في صمْتٍ، ودونَ تبجُّحٍ أو تسلُّطٍ أو غُرورٍ، ودونَ أوسِمةٍ وهميَّةٍ، في تناغُمٍ حركيٍّ وموسيقيٍّ، يتْبَعُه قائدٌ منْ جِنسِ الأغنامِ (الكبْشُ المِرياعُ) الّذي تمَّ انتِخابُه من قِبلِ الرَّاعي، وصوَّتتْ على حسنِ قيادتِه جميعُ الأغنامِ دونَ تهميشِ أحدٍ، فتَرى الجميعَ جيْشاً جرَّاراً مُنظَّماً، يَمْشي بخُطاً وئيدةٍ ومُتناغِمةٍ نحوَ المراعِي والغُدرانِ، والأغنامُ تمْلأُ الواديَ ثُغاءً معَ انبلاجِ الصُّبحِ بكلِّ ما يحمِلُه من جمالٍ وروعةٍ وبهاءٍ وحيويَّةٍ ونشاطٍ، وخيرُ مَن رسمَ هذهِ اللَّوحةَ شاعرُنا العربيُّ أبو القاسِمِ الشّابيّ في قصيدتِه (مِن أغاني الرُّعاةِ) ( ):

أقْبـــــــــــــــلَ الصُّبحُ جميـــــــــــــــلاً يَمْـــــــلأُ الأُفْــــــــــــقَ بَهَــــــــــــاهْ

فتَمَـطَّى الزَّهـْــــــــــــــــرُ والطَّـــــــــــــــيرُ وأمــــــــــــــواجُ المِيـــَــــــــــــــــاهْ

قـــدْ أفَــــــــــــــــاقَ العـــــــــــــالمُ الحَــيُّ وغــــــــــــــنَّى للحَيــَـــــــــــــــــاهْ

فأفِيــــــــــــــــــقِي يا خِــــــــــــــــــــرافي وهَلُــــــــــــــمِّـي يا شِــــــــــــــــياهْ

واتْبَعِيني يا شِــــــــــــــــيَاهِي بينَ أســــــــــــــــــــرابِ الطُّيـُــــــــــــــورْ

واملَئِي الــــــــــــــوَادِي ثُغَــــــــــــــاءً ومَـــــراحَــــــــــــاً وحُبــُــــــــــــــــــورْ

واسمَعِي همْسَ السَّــــــــواقي وانْشُقِي عِطْــــرَ الزُّهــُـــــــــــورْ

وانْظُـــــــــــــــــري الــــــوَادي يُغَشِّــــــــيهِ الضَّبـــــــــابُ المسْــــــتَنِيرْ

لكِ في الغَـــــــــاباتِ مَرْعــَــــــــــــاكِ ومَسْــــــــــــعاكِ الجَمِـــــــــيلْ

وليَ الإنْشَـــــــــــــــــادُ والعَـــــــــــــزْفُ إلى وقـــــــــــــتِ الأَصِــــــــــــيلْ

o الذّوقُ مِنْحةٌ إلهيَّةٌ، عليْنا ألّا نبْخَلَ بها على الآخَرينَ، ويجِبُ أنْ نَغْرسَ بذورَها فيمَنْ يبِسَتْ أرضُ نفسِهِ من نَعْمائِها، ويجِبُ أن نرويَ أرواحَ البشرِ بزَمْزَمِها حتّى تثمَلَ وتخْضَرَّ وتُورقَ، وتُعطِيَ ثمارَها رُقِيَّاً وحضارةً وإنسانيَّةً طاهِرةً نقيَّةً من كلِّ دنَسٍ ورِجْسٍ وإثمٍ وقُبحٍ وانحدارٍ.

الرّقيُّ

قالُوا:

 حينَ يَطرُقُ الرُّقيُّ بابَ أمَّةٍ منَ الأممِ يَسألُ: أَهُنا فِكرٌ حرٌّ ؟ فإنْ وجدَ، دخلَ وإلَّا مَضَى. توماس بين

 الرقيُّ هوَ عندَما يكونُ لديكَ الكثيرُ لتقُولَهُ، ولكنَّكَ تَخْتارُ أنْ تَبْقى صامِتاً أمامَ الحَمْقى! جيسون ستاثم

 رقيُّ الأخلاقِ سرُّ جاذبيَّةِ الإنسانِ الّتي غفِلَ عنها نيُوتن! أحدُهم

وأقولُ:

o الرُّقيُّ حضَارةٌ تصنَعُها الشُّعوبُ بفِكرِها وسلُوكِها وأخلاقِها، وليسَ الرُّقيُّ بِضاعةً يستَوردُها التُّجَّارُ، فيَطرحُونَها في الأسْواقِ؛ ليتداولَها خاصَّةُ النَّاسِ وعامَّتُهم، وليسَ الرُّقيُّ كذلكَ زخارفَ يتزيَّنُ بها النَّاسُ؛ ليَظْهَرُوا بأحسَنِ المظاهِرِ، وأبْهى الحُللِ، وأحْلى المناظِرِ، وأجملِ المطالعِ.

o الرُّقيُّ ذوقٌ وفنٌّ وحضارةٌ وسلوكٌ وقِيمٌ ومبادئُ تتجلَّى في حُسنِ التَّصرُّفِ واللَّباقةِ في التَّعاملِ بينَ الكائناتِ الإنسانيَّةِ والمحيطِ الّذي تعيشُ فيهِ، وتتفاعلُ معهُ.

o ليسَ الرُّقيُّ أبراجاً تُناطِحُ السَّحابَ، ولا حدائقَ تترامَى في الصَّحراءِ، ولا أعلاماً أو يافِطاتٍ أو لوحاتٍ دعائيَّةً تتربَّعُ زوايَا المدينةِ، ولا سيَّاراتٍ ولا قطاراتٍ ولا طائراتٍ تَهِيمُ في الفضاءِ، ولا شوارعَ واسعةً تُعرِّشُ فوقَ أرصفتِها الأضواءُ الملوَّنةُ، ولا أسْواقاً ولا مِهرجَاناتٍ تُنظِّمُها أيـديْ التُّجَّارِ لتَرويجِ تِجارتِهم، وجمعِ الأموالِ بأساليبَ يَستنْكِرُها شياطينُ الجِنِّ لو نظَرُوا، وليسَ قصوراً تلبَسُ طرابيشَ القِرْميدِ، وتَرتَدي حُللاً من الزُّجاجِ والمعادنِ البرَّاقةِ.

o ليسَ الرُّقيُّ في تَصفيفِ الشَّعرِ، أو إطلاقِ الشَّاربينِ كقِرنَي ثورٍ، ولا في تقصِيرِ الثّوبِ بإرخاءِ العنانِ لمفاتنِ الجسدِ تستَحِثُّ الخيالَ، وتُوقِدُ نيرانَ مراجلِ الغرائزِ البهيميَّةِ، وليسَ في تنغِيمِ الصَّوتِ وتنعِيمِه بما يَخلطُ بينَ الأجناسِ الآدميّةِ، وليسَ بالتَّشدُّقِ بكلماتٍ أعجميَّةٍ من مثلِ ( أوكّي، مِيرسي، بايْ، مايْ لَف.. ) بِما يُهدِّدُ بدكِّ أسوارِ حصُونِ اللُّغةِ الأمِّ، وليسَ مُوضةً أو صرَعاتٍ في الهِندامِ والأرديةِ بما يُلوِّثُ الأزياءَ الشَّعبيَّةَ والتُّراثيَّةَ المتغلغِلةَ في عُمقِ الحضارةِ الإنسانيَّةِ كمَجْرى الدَّمِ في الأوردةِ والشَّرايينِ، وفي هذا قالَ الإمامُ عليُّ بنِ أبي طالب ( ):

ليسَ البـــــــــــــليّةُ في أيّامِــــــــنا عجَـــــــــباً         بلِ السَّلامــــــــــةُ فيها أعْجَبُ العَجَبِ

ليسَ الجمــــــالُ بأثـــــــــوابٍ تُزيِّنُــــنــــــا          إنَّ الجمـــــــــالَ جمــالُ العلمِ والأدبِ

ليسَ اليتِيمُ الّذي قدْ مــــــاتَ والِدُهُ          إِنَّ اليَتــــــــيمَ يَتِــــــيمُ العِلْـــــمِ والأَدَبِ

o وليسَ الرُّقيُّ في حَمْلِ هرَّةٍ، أو اصطِحابِ كلْبٍ، أو احتِضانِ قِردٍ، أو وضعِ دُمىً في السَّيَّاراتِ أو المنازلِ، أو التَّحدُّثِ في هاتفٍ نقَّالٍ بكلامٍ رخيصٍ ساعاتٍ منَ الزَّمنِ أمامَ نواظِرِ الخلْقِ، أو باستِخدامِ سمَّاعةٍ لاسلكيَّةٍ والكلامِ كالمجانينِ والضَّحِكِ مثلَ البُلَهاءِ والجَعْجعةِ مثلَ نقيقِ الضَّفادعِ بما يُشكِّكُ النَّاظرينَ في سويَّةِ العقلِ والفِكرِ والخَلْقِ.

o الرُّقيُّ لغةٌ مفرداتُها: الذَّوقُ الرَّفيعُ، والطَّبعُ السَّليمُ، وحُسْنُ المعاملةِ والمعاشَرةِ، ولباقةٌ في التَّصرُّفِ، وحِنْكةٌ في تدبُّرِ الأحوالِ، وزينةٌ تُحَلّي الأفعالَ، وصِدقٌ يُزيِّنُ الأقوالَ.

o وليسَ الرُّقيُّ مُعْجماً مُخفَّفَ الألفاظِ، مُرقَّقَ الحُروفِ، مُصرَّفَ الأوزانِ، مُعرَّبَ الكلماتِ والمصْطَلحاتِ، مُستَورَدَ المعَاني والقِيمِ والدِّلالاتِ، مُعجَّمَ الحُروفِ بالنُّقاطِ، مُزخرفَها بالحَرَكاتِ والسَّكَناتِ.

الحَضَارةُ

قالُوا:

 إنَّ التَّقدُّمَ والحضارةَ هُما نتيجةُ جهودِ العبقريَّةِ، لا نتيجةُ ثرثَرةِ الأكثريَّةِ. أدولف هِتْلر

 إنَّ الحضارةَ لا يُمَثِّلُها الغربُ أو الشَّرقُ بل يُمثِّلُها الإنسانُ القادرُ على تذوُّقِ الجمالِ أينَما يراهُ. الصَّادق النَّيهوم

 الخائِفونَ منَ الإبداعِ قدْ يَبْنونَ مُدناً، ولكنَّهم لا يستَطيعُون أنْ يَبْنوا حضارةً. ياسِر حارِب

وأقولُ:

o أمّا الحضارةُ، فهيَ نِتاجُ الإنسانِ الفِكريُّ والرُّوحيُّ والمادّيُّ، في مختلفِ ميادينِ الحياةِ، وكلُّ ما أبدعَتْهُ قريحةُ الإنسـانِ من وسائلَ لخدمةِ البشريَّةِ ورفاهيَّتِها وأمْنِها وسلامِها وصلاحِها واستِقامتِها ونُبْلِها وسُموِّها ورُقيِّها وتطوُّرِها.

o فالعِلمُ بما حقَّقَهُ من تقدُّمٍ فكريٍّ وتِقنيٍّ وتِكنُولوجيٍّ في سبيلِ سعادةِ الإنسانيَّةِ ورفاهيَّتِها، ابتِداءً من إبرةِ خِياطةِ الملابسِ، ووصُولاً إلى شَقِّ أعماقِ البحارِ والمحيطاتِ، وسبْرِ أغْوارِ الكرةِ الأرضيَّةِ، واستِنْضاحِ ثرواتِها، وغزوِ الفضاءِ، واختراعِ الأقمارِ الصِّناعيَّةِ.. حضارةٌ بكلِّ ما تحملُه كلمةُ حضارةٍ من معانٍ.

o والآدابُ بمُختلفِ فروعِها، بما أنجزَتْه من فِكرٍ، يُعبِّرُ عن سموٍّ عقليٍّ وروحيٍّ، وامتزاجٍ معَ الطَّبيعةِ والكونِ والإلهِ، وتعزيزٍ للقيمِ والمثُلِ والأخلاقِ، وتحريرٍ للإنسانِ من العبُوديَّةِ والجهلِ والتَّخلُّفِ.. حضارةٌ وأيَّةُ حضارةٍ إنسانيَّةٍ راقيةٍ.

o وكلُّ جُهدٍ بشريٍّ تفَانَى في سعادةِ الخلْقِ ورفاهيَّتِهم، ابتداءً من غرْسِ شُجَيرةٍ، ووُصولاً إلى تَرويضِ الأنهارِ والبِحارِ، ومُناطحَةِ السَّحابِ بالأبراجِ، وتحويلِ الصَّحاري إلى جِنانٍ خضراءَ، حضارةٌ لا تعلُوها حضارةٌ، إذا امتزجَتْ بسمُوٍّ فكريٍّ وروحيٍّ.

o وكلُّ هِمَّةٍ أحيَتْ أمَّةً، فأحالَتْ ليلَها إلى نهارٍ، وظُلماتِها إلى ضياءٍ، وضَعفَها إلى قوَّةٍ، وسُباتَها إلى حركةٍ، ويأْسَها إلى أملٍ، وذُلَّها إلى عِزَّةٍ وكِبْرياءَ وشُموخٍ، وخضُوعَها واستكانَتَها إلى تمرُّدٍ وثورةٍ.. حضارةٌ وغايةُ الحضارةِ السَّاميةِ.

o وكلُّ فنٍّ من الفنُونِ أيقظَ مشاعِرَ البشرِ، وأجَّجَ فيهِم ضمائِرَهم، وحَثَّهُم على المُضيِّ قُدُماً إلى الرُّقيِّ والتَّقدُّمِ والازدِهارِ، وحفَّزَ بصِيرتَهم للتَّأمُّلِ، وإدراكِ الحقائقِ، وتمْييزِ الغَثِّ مـنَ الثَّمينِ، والباطلِ مـنَ الحقِّ، والجوهرِ منَ الشَّكلِ، والزّيْفِ والبُهْتانِ منَ الأصالةِ والحقيقةِ.. حضارةُ مَجْدٍ وسُؤْددٍ وإبداعٍ بِمنْبعِها ومسيرِها ومُسْتقبلِها.

o وكلُّ عقيدةٍ دينيَّةٍ أو فكريَّةٍ أو سياسيَّةٍ، حرَّرَتِ الإنسانَ منَ الخوفِ والجهلِ والتَّبعيَّةِ، وغرسَتْ فيهِ الإيمانَ بحرّيّةِ الفكرِ والعقيدةِ، وسمَتْ بهِ روحاً وفكْراً وسلُوكاً، وحرَّرَتْهُ من رَبْقةِ التَّبعيَّةِ والعُبوديَّةِ وانعدامِ الذَّاتِ، إلى فردٍ لهُ كينُونتُه ووجودُه وفعلُه وتأثيرُه في الحياةِ.. حضارةٌ يُبارِكُها الإلهُ، ويفخرُ بها التَّاريخُ، وتعتزُّ بها الأممُ.

o وكلُّ قائدٍ وضِيعٍ يَصنعُ أمجادَه الشَّخصيَّةَ على أجسادِ وأرواحِ شعبِه، حَقارةٌ ووضَاعةٌ وأنانيَّةٌ، ستَنهارُ عندَما تزدادُ آلامُ الجِياعِ منَ الفُقراءِ، وعندَما تَئِنُّ أرواحُ الأحْرارِ المكبَّلينَ بالأصفادِ والأغْلالِ، وعندَما تَخْتنِقُ الكلماتُ في الحَناجرِ، وتَحْتبِس الدُّموعُ في المحاجِرِ.

o وكلُّ قائدٍ عظيمٍ وهبَ حياتَه وفكرَه لحرّيّةِ شعبِه وسعادتِه وتقدُّمِه وازدِهارِه، ينامُ نومَ الخليفةِ عُمرَ بنِ الخطّابِ قريرَ العينِ هانيْها بلا جُندٍ وحرَّاسٍ، هوَ الحضارةُ في أسْمى وأبْهى معانِيها وصُورِها، وليستِ الحضارةُ قصوراً مُسوَّرةً بالصَّواريخِ والدَّبَّاباتِ والطَّائراتِ، فتأمَّلْ حضارةَ عُمرَ، وانظُرْ حقارةَ كلِّ كِسْرى في قصيدةِ شاعرِ النِّيلِ حافظِ إِبْراهيم ( ):

وَراعَ صاحِــــبَ كِسْــــــــــــرى أَن رَأى عُمَراً        بَينَ الــــــرَّعِيَّةِ عُطـْــــــــــــــلاً وَهـــــــــوَ راعِــــــيْها

وَعَهـــــــــدُهُ بِمُلـــــوكِ الفُـــــرسِ أَنَّ لَهــــــــا         ســـــــوراً مِنَ الجُندِ وَالأَحـــــــراسِ يَحْميها

رَآهُ مُســــــــــــتَغرِقاً في نَومِــــــــــهِ فَــــــــــــرَأى         فيهِ الجَــــــلالَةَ في أَسْــــــــــــمى مَعَــــــــــــانيها

فَوقَ الثَرى تَحتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشتَمِلاً          بِبُردَةٍ كادَ طـــــــــــــــــولُ العَهــــــــــــدِ يُبْلِيهــــــا

فَهـــــــانَ في عَيـــــنِهِ مـــــــــــــــا كانَ يُكْــــــبِرُهُ         مِنَ الأَكاسِــــــــــــــــرِ وَالدُّنْيَـــــــــــا بِأَيْــــــــــــــدِيها

وَقالَ قَــــــولَةَ حَـــــــقٍّ أَصبَــحَت مَثَــــــــلاً          وَأَصبَحَ الجيلُ بَعـــــــدَ الجيلِ يَروِيهـــــــــــــا

أَمِنـْــــــتَ لَمّا أَقَمْــــــتَ العَـــــــدلَ بَينــــَهُمُ         فَنِمْــــــتَ نَـــــــومَ قَريـــــــرِ العَــــــينِ هَــــــانيها

o إنَّ كلَّ ما يُحقِّقُ سعادةَ البشريَّةِ ورفاهيَّتَها وعزَّتَها ومجدَها، ويَصُونُ كرامتَها وحرّيَّتَها.. حضارةٌ، ونِعمَ الحضارةُ! وأَكْرِمْ بها منْ حضارةٍ!

o وكلُّ قوّةٍ في العالمِ لا تُحقِّقُ سعادةَ البشرِ ورفاهيَّتَهم وأمنَهم وعزَّتَهم، مهْما بلغَتْ منَ التَّطوُّرِ والإبداعِ والاختِراعِ، ليستْ بحضارةٍ، بل هيَ حقارةٌ ووضَاعةٌ وتشويهٌ وتزْييفٌ وكذِبٌ وخداعٌ واستِعلاءٌ وهيْمنةٌ وسيْطرةٌ وطمعٌ وجشعٌ واستِبدادٌ، وإرهابٌ لأمـمِ الأرضِ، وإخضاعُ رقابِها لنزواتٍ عمياءَ، لا تــَرى في البشرِ إلّا رُعاعاً وقِطعانَ ماشيةٍ، ولا تُبصِرُ من الدُّنيا إلّا غابةً، تسُودُها الوحوشُ الكاسِرةُ الّتي تستَبِدُّ بالغابةِ وسكَّانِها بشريعةِ القوَّةِ والقدرةِ على السَّيطرةِ.

o فليسَتِ الجيوشُ المجيَّشةُ الّتي تقتلُ الأبرياءَ، وتحتلُّ أوطانَهم، وتنتهِكُ أعراضَهم، وتسلُبُ ثرواتِهم، وتُصادِرُ مُعتَقداتِهم وحرّيَّاتِهم، وتَسْبي أفكارَهم وأحلامَهم.. حضارةً، وإنّما هي همجِيَّةٌ، وطُغيانٌ وفسادٌ ودمارٌ للقضاءِ على كلِّ حضارةٍ.

o وليسَتِ الدَّبَّاباتُ والطَّائراتُ والمدافعُ والصَّواريخُ الّتي تُحرِقُ العالمَ، وتَقتُلُ الإنسانَ، وتُدمِّرُ كلَّ ما شيَّدتْهُ عبقريَّتُه منْ حضارةٍ وازدهارٍ ورخاءٍ.. حضارةً، وإنَّما هيَ عُدوانٌ على كلِّ مظاهرِ الحضارةِ وأركانِها.

o وليستِ القنابلُ الذَّرّيّةُ الّتي دمَّرَت مُدُناً، وقتلَتْ شعوباً، وأحرقَتْ كلَّ عناصرِ الحياةِ فيها.. حضارةً؛ لأنَّ الحضارةَ بناءٌ ومحبَّةٌ وسلامٌ وأمنٌ، لا هَدْمٌ، لا بُغضٌ، لا حِقدٌ، لا حربٌ، لا دمارٌ.

o وليستِ الصَّواريخُ العابِرةُ للقارَّاتِ الّتي تُهدِّدُ أمنَ العالمِ وسلامتَه، وتُؤرِّقُ طُمأنينَتَه، وتَحْرِمُه منَ الأحلامِ… حضارةً؛ لأنَّ الحضارةَ أمنٌ وسلامٌ وطُمأنيْنةٌ وأحلامٌ.

o وليسَتْ رؤوسُ الأموالِ الّتي تَحتكِرُها بعضُ الدُّولِ، وتَشتري بها كرامةَ الإنسانِ، وتسلُبُ مُقدَّراتِه، وتُتاجِرُ بحرّيَّةِ النَّاسِ، وتَسْعى للهيْمنةِ على العالمِ… حضارةً، وإنَّما هيَ فسادٌ وطُغيانٌ وجبروتٌ وعَجْرفةٌ، تُحطِّمُ كلَّ آثارِ الحضارةِ، وتُعِيدُ التَّاريخَ إلى عصورِ ما قبلَ الحضارةِ.

عجمان في 2011-02-09

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات