مقدّمة المجموعة 2 فوانيس

الحياةُ مفعمةٌ بالمسرَّاتِ والأحزانِ، والآمالِ والطُّموحاتِ والأهدافِ الّتي يَسعى إليها الإنسانُ، بعضُها يرى النُّورَ وبعضُها يتساقطُ كأوراقِ الخريفِ في دفاترِ النِّسيانِ، كمَا أنَّ المسرَّاتِ سرعانَ ما تَمْضي مثلَما تَعبرُ سحبُ الصَّيفِ في كبدِ السَّماءِ، ولكنَّ الهمومَ والأحزانَ تُثقلُ كواهلَنا كلَّما كشَّرتِ الحياةُ عن أنيابِها.

في هذهِ المجموعةِ من أعمالي (فَوانيس) لوحاتٌ حقيقيَّةٌ من الحياةِ رسمَتها كلِماتي، تتجلَّى فيها خيوطٌ من أنوارِ السَّعادةِ والمسرَّةِ متشابكةً مع خيوطِ البؤسِ والشَّقاءِ والتَّعاسةِ، وتتخلَّلُها خيوطُ الأملِ والتَّفاؤلِ الّتي تُومئُ إلى غدٍ مشرقٍ جميلٍ بعد رحيلِ دياجيرِ القهرِ والفقرِ والاستبدادِ، فقد مرّتِ البشريَّةُ بعصورِ الاستِعبادِ وتجارةِ الرّقيقِ وحروبِ التَّوسُّعِ والاحتلالاتِ، وها هيَ اليومَ تحرَّرتْ من تلكَ الكوابيسِ، إلّا أنَّها وقعَت في كوابيسَ أُخرى منَ الاستِعبادِ والسَّيطرةِ، لكنَّها مرحلةٌ بشريَّةٌ عابرةٌ، لا بدَّ أنْ يَعقبَها فجرٌ منَ النَّقاءِ والإنسانيَّةِ الصَّافيةِ.

وقد استطاعَ الإنسانُ خلالَ مسيرةِ حياةِ البشريَّةِ قهرَ قِوى الطَّبيعةِ بعدَ أنْ قهرَتْه أزماناً، وتمكَّنَ مِنها بعدَ أنْ كانَ عبداً يُصلّي لها خوفاً وتزلُّفاً، وهَا هوَ اليومَ تستعبِدُه المادّةُ والشَّهوةُ والأنانيَّةُ، حتّى غدَا الإنسانُ عبدَ نفسِه بعدَ أنْ حرَّرتْه الشَّرائعُ السَّماويَّةُ والأرضيَّةُ منَ الاستعبادِ بكلِّ أشكالِه وأصنافِه.

وتأتيْ أعمَالي ضمنَ هذهِ المجموعةِ لتُضيءَ جوانبَ الحياةِ بكلِّ ما فيها من صراعٍ وتناقضٍ وتناحرٍ، لكنَّها تظلُّ حاملةً مشاعلَ النُّورِ والأملِ والتَّفاؤلِ بالمستقبلِ مهْما امتدَّتْ دياجيرُ الحياةِ الرَّاهنةِ.

وقدْ تمَحوَرتْ هذهِ المجموعةُ ضمنَ محاورَ عديدةٍ، هيَ: مقالاتُ المناسباتِ، ومقالاتُ الفوانيسِ الّتي تُنيرُ دياجيرَ الحياةِ وما خفِيَ خلفَ سدُولِها من خبَايا وأسرارٍ في مختلفِ جوانبِ الحياةِ البشريَّةِ، ومنها المقالاتُ الّتي تزيَّتْ بزِيِّ الحواراتِ اللُّغويّةِ الّتي ترسمُ من خلالِ مفرداتِها وأساليبِها اللُّغويَّةِ والبلاغيَّةِ أنماطاً من الصِّراعِ والتَّناقضِ بينَ الحقيقةِ والضَّلالِ وبينَ الواقعِ والخيالِ.

ولعلَّ أجملَ ما تُوحي به هذهِ المقالاتُ هو مناجاةُ قِوى الطَّبيعةِ وعناصرِها حتّى تُخلِّصَ الإنسانَ من جهالتِه وعُنجُهيَّتِه وغطرستِه واستعلائِه واستعبادِ البشرِ منْ جنسِ البشريَّةِ، كمَا نجدُ ذلكَ في مناجاةِ الرَّعدِ والقمرِ والبحرِ والحبِّ والقدَرِ واللَّيلِ والنُّورِ، ومثلَما نجدُ في رسمِ جزئيَّاتٍ متناقضةٍ من الحياةِ، تبيِّنُ الهُوَّةِ الواسعةَ بينَ الجوهرِ والمظهرِ وبينَ هيمنةِ الجهلِ وتحرُّرِ الفكرِ والعقلِ.

وإنّي إذْ تَرى أعمَالي النُّورَ أرجُو اللهَ أن يجعلَ كلِماتي نبراساً لإعلاءِ كلمةِ الحقِّ والسُّموِّ بالإنسانِ من ربقةِ الخوفِ والجهلِ والتَّوحُّشِ إلى عالمِ المثُلِ الّتي تحقِّقُ للإنسانِ أمنَه وسعادتَه وحرّيَّةَ القولِ والعملِ والإيمانِ، دونَ أن تستعبِدَه مُعمِّياتُ الجهلِ والطُّغيانِ والضَّلالِ.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

جبران خليل جبران

غابةُ الإنسانيّة (الأديبُ والفيلسوفُ العالميُّ في ذكْرى رحيلِه 10 إبريل عام 1931م) الذِّكرياتُ مُرّةٌ مرارةَ العلْقمِ، والمآسيْ تَعصِرُني بِلا ألمٍ، والحياةُ مسرحيَّةٌ هزليَّةٌ تُضحِكُني وتُبكِيني…

جبران خليل جبران

صورةٌ وفلسفةٌ كلَّما تأمَّلتُ صورتَك على غلافِ كتابِك، تذكَّرتُ تاريخَ ميلادِكَ وصفَحاتٍ من حياتِكَ، ونسِيتُ أوراقَ أبْحَاثي مُبعْثرةً جانِباً؛ وغفِلْتُ عنْ مصادِري ومراجِعي وكتاباتِي مُتَناثِرةً…

الأمَلُ واليأسُ

مهْما ادلهمَّتِ الحياةُ وقسَت على البشرِ بأيدي وحوشِ البشريَّةِ، لا بدَّ من أملٍ نسْعى إليهِ ونجدُ فيه لذّةَ السَّعادةِ وتجدُّدِ الحياةِ، ومهْما احلولكَتِ اللّيالي يجبُ…

تعليقات