الفقرُ في عُيُونِ الأدباءِ والمفكِّرينَ -5

ثانيًا- الفقرُ في الأدبِ العالميِّ:

ومنْ أعلامِ الأدبِ العالميِّ الأديبُ بِرنارْد شُو (1856- 1950م) (32) الّذي عُرفَ بمرحِه وحبِّهِ للحياةِ، ولكنَّ حياتَه انقلبَتْ رأساً على عقِبِ عندَ انفصالِ والديهِ وبقائِه مع والدِه، وهذا ما اضطُرَّه – وهو في سنِّ الثَّالثةَ عشْرَ ةَ من عُمرِه – للعملِ ككاتبٍ في إحْدى مؤسَّساتِ تجارةِ الأراضِي، وبعدَ ذلكَ أفلسَ والدُه في إحْدى صفقَاتِه التِّجاريَّةِ، فسافرَ شُو إلى لندنَ وانكبَّ على الكِتابةِ، لكنَّه لم يحظَ بالشُّهرةِ؛ لأنَّ الصُّحفَ لم تكُنْ متحمِّسَةً لكتاباتِه، وظلَّ مغموراً لمدَّةِ تسعِ سنواتٍ، عاشَ خلالَها أشدَّ أيّامِه منَ الفقرِ والحاجةِ، واضطُرَّ إلى الاكتفاءِ بارتداءِ بزَّةٍ كالِحةٍ وحذاءٍ ممزَّقٍ..

وهو كاتبٌ مسرحيٌّ وأحدُ مفكِّري ومؤَسِّسِي الاشتراكيَّةِ الفابيَّةِ، كانتْ تشغلُهُ نظريَّةُ التَّطوُّرِ، وكانَ منَ المُلْحِدينَ المتَسامِحينَ مع الأديانِ، يُعَدُّ أحدَ أشهرِ الكتَّابِ المسرحِيّينَ في العالمِ، وهوَ الوحيدُ الّذي حازَ على جائزةِ نوبل في الآدابِ للعامِ 1925م، وجائزةِ الأوسكارِ لأحسنِ سِيناريُو عن سِيناريُو “بيْجمَالْيون” في عامِ 1938م.

عاشَ برناردْ شُو – كمَا أسلَفْتُ – حياةً فقيرةً وبائِسةً في فترةِ شبابِه، وعندَما أصبحَ غنيَّاً لم يكُنْ بحاجةٍ لتلكَ الجائزةِ الّتي تُمنَحُ أحياناً لمنْ لا يستحِقُّها، ولأنَّ حياتَه كانتْ في بدايتِها نِضالاً ضدَّ الفقرِ، فقدْ جعلَ من مكافحةِ الفقرِ هدفاً رئيساً لكلِّ ما يَكتُبُ، وكانَ يَرى أنَّ الفقرَ مصدرٌ لكلِّ الآثامِ والشُّرورِ كالسَّرقةِ والإدمانِ والانحرافِ، وأنَّ الفقـرَ معناهُ الضَّعفُ والجهلُ والمـرضُ والقَمعُ والنِّفاقُ، وقـدْ ظهرَ ذلكَ جليَّاً في مسرحيَّتِه “الميجُور باربَارا” الّتي يتناولُ فيها موضوعَ الفقرِ والرَّأسماليَّةِ ونفاقَ الجمعيَّاتِ الخيريَّةِ.

والأديبُ تشارلزْ ديكِنز (1813- 1870م) (33) الّذي ضحَّى بأوَّلِ حبٍّ فى حياتِه، حينَما رفضَ الاشتِغالَ بغيرِ الأدبِ، وقالتْ حبيبتُه “ماريّا بيرنِل” مقولتَها الشَّهيرةَ: إنَّ ديكنز شابٌّ لطيفٌ لكنَّهُ أديبٌ، فهلْ يستطيعُ أنْ يُعِيلَني بقلمِه.

وُلدَ تشارلزْ ديكنزْ في (لاندْبُورت بورتْسي) في جنوبِ إنجِلْترا عام 1812م لأبوينِ هُما: جُون وإليزابيثْ ديكِنز، وكانَ ثانيَ أخوتِه الثَّمانيةِ، وعاشَ طفولةً بائِسةً؛ لأنَّ أباهُ كان يعملُ في وظيفةٍ مُتواضِعةٍ، ويُعِيلُ أسرتَه كبيرةَ العددِ. لهذا اضطُرَّ إلى الاقتِراضِ والدَّينِ، ولم يستطِعِ السَّدادَ فدخلَ السِّجنَ، ممَّا اضطُرَّه لتركِ المدرسةِ، وهو صغيرٌ، وألحقَه أهلُهُ بعملٍ شاقٍّ بأجرٍ قليلٍ، حتّى يُشاركَ في نفقةِ الأسرةِ، وكانتْ تجاربُ هذهِ الطُّفولةِ التَّعِسةِ ذاتَ تأثيرٍ في نفسِه، فتركتْ انطباعاتٍ إنسانيَّةً عميقةً في حسِّهِ قد ظهرَتْ انعكاساتُها في أعمالِه فيمَا بعدُ.

وقدْ كتبَ تشارلزْ عن هذهِ الانطباعاتِ والتَّجاربِ المريرةِ الّتي مرَّ بها أثناءَ طفولتِه في العديدِ من قصصِه ورواياتِه الّتي ألَّفَها عن أبطالٍ من الأطفالِ الصِّغارِ الّذينَ عانُوا كثيراً، وذاقُوا العذابَ ألواناً، وعاشُوا في ضياعٍ تامٍّ، بسببِ الظُّروفِ الاجتماعيَّةِ الصَّعبةِ الّتي كانتْ سائدةً في (إنجلترا) في عصرِه، وبالرَّغمِ من المشقَّةِ الّتي كان يُعاني منهَا في طفولتِه، إلّا أنَّه كانَ يستغِلُّ أوقاتَ فراغِه من العملِ الشَّاقِّ، فينكَبُّ على القراءةِ والاطّلاعِ على الكتبِ، كمَا كانَ يحرِصُ على التَّجوُّلِ وحيداً في الأحياءِ الفقيرةِ في مدينةِ الضَّبابِ الاصطِناعيِّ (لندن)، حيثُ يعيشُ النَّاسُ حياةً بائِسةً مُريعةً وخارِجةً عن القانونِ في بعضِ الأحيانِ.

وكان قدْ تأثَّرَ بالقوانينِ اللِّيبراليَّةِ في عصرِه، فوصفَ بيوتَ العملِ الّتي نشأتْ وفقَ قانونِ الفقراءِ الإنكليزيِّ لسنةِ 1834 في روايتِهِ الشَّهيرةِ (أوليفر تُوسْت)، وفي العديدِ من القِصصِ والرِّواياتِ الّتي كانتْ من إبداعاتِه.

فقدْ وصفَ ديكِنز هذهِ الأحياءَ الفقيرةَ بكلِّ تفاصيلِها وبكلِّ المآسي الّتي تدورُ فيها، وعندَما وصلَ إلى سنِّ العشرينَ، تمكَّنتِ الأسرةُ أخيراً من إلحاقِه بإحْدى المدارسِ ليُكمِلَ تعليمَه، وفي الوقتِ نفسِه كانَ يعملُ مراسِلاً لإحْدى الجرائدِ المحلِّيّةِ الصَّغيرةِ، لقاءَ أجرٍ زهيدٍ، ولكنَّه لمْ يهتمَّ بهذا الأجرِ، فتَفانَى في عملِه الصَّحفيِّ الّذي أتاحَ لهُ أن يتأمَّلَ أحوالَ النّاسِ على مختلِفِ مستوياتِهم الاجتماعيَّةِ والأخلاقيَّةِ، فخرجَ بالعديدِ منَ التَّجاربِ الإنسانيَّةِ والأخلاقيَّةِ الّتي وسَّعتْ آفاقَه ومدارِكَه الأدبيَّةَ والحياتيَّةَ.

نظْرةٌ مقارنةٌ:

(بينَ الماضِي والحاضرِ والمستقبلِ)

لو قارَنَّا حالةَ الفقرِ والغِنَى في تاريخِنا العربيِّ بين جاهليَّةِ الماضِي وجاهليَّةِ الحاضرِ، لبكَيْنا حالَنا واسترْحَمْنا على قريشٍ وقوافلِها التِّجاريَّةِ إلى الشَّامِ واليمنِ الّتي كانتْ تَضمُّ ما يُقاربُ ألفاً من البَعيرِ أو يَزيدُ، ولا تتجاوزُ حُمولتُها في رحلاتٍ عديدةٍ حُمولةَ حاويةٍ واحدةٍ من حاوياتِ النَّقلِ الحديثةِ برّاً أو بحراً أو جوَّاً.

كانَ في الجاهليَّةِ قريشٌ واحدةٌ في الثَّراءِ والهيْمنةِ والسَّطوةِ، أمَّا اليومَ – في الجاهليَّةِ الحديثةِ – ففي كلِّ دولةٍ مئاتُ القبائلِ من قريشٍ، وفي كلِّ مدينةٍ عشراتُ القبائلِ من قريشٍ، وفي كلِّ قريةٍ قبيلةٌ من قريشٍ، وفي كلِّ حيٍّ فخِذٌ من أفخاذِ قريشٍ، وفي كلِّ نفسٍ نزعةٌ من نوازعِ قريشٍ.

في الجاهليَّةِ قافِلةٌ برّيّةٌ من البَعيرِ تَحملُ الزَّبيبَ والجلُودَ والحبوبَ، تملكُها قبيلةٌ من أغْنى القبائلِ العربيَّةِ وأسْطاهَا وأنفذَها تُدْعى قريشاً!

وفي جاهليَّتِنا اليومَ ألفُ قريشٍ وقريشٍ، يَمتلكُ كلُّ زعيمٍ قرشيٍّ بمفردِه أضعافَ أضعافَ ما امتلكَتْ قريشٌ برمَّتِها منذُ نشأتِها إلى فتحِ مكَّةَ!

لا يَملكُ الفردُ القُرشيُّ اليومَ قوافلَ من بعيرٍ تحملُ الزَّبيبَ والجلودَ، بل تتراقصُ أصابعُه على حروفِ حاسبٍ آليٍّ تُتابعُ قوافلَه التِّجاريَّةَ الّتي تمخُرُ عبابَ اليمِّ آيِبةً من كلِّ أصقاعِ المعمُورةِ، حاملةً كلَّ أصنافِ المنْتجاتِ من زراعيَّةٍ وصناعيَّةٍ وتجاريَّةٍ.. لو رأتْها نواظِرُ قريشٍ لآمنَتْ بالإسلامِ من أوَّلِ قافِلةٍ!

فمَا بالُكَ بالقوافلِ البرّيّةِ الّتي تشُقُّ عبابَ السَّرابِ عبرَ الدُّولِ والقارَّاتِ.. تستطيعُ عدَّةُ مقطوراتٍ منْها أنْ تحملَ قوافلَ قريشٍ ببعْرانِها وحمائِلِها وقوَّادِها!

وما بالُكَ بالقوافلِ الجوّيّةِ الّتي تخترقُ أجوافَ السَّماواتِ ليلاً ونهاراً غيرَ مباليةٍ بالسَّحابِ ولا الضَّبابِ ولا غيثِ الشِّتاءِ ولا اللُّصوصِ وقطَّاعِ الطُّرقِ في العَراءِ!

كلُّ أميرٍ قُريشٌ وألفُ قريشٍ.. وكلُّ زعيمٍ مُصطَنِعٍ شبهُ جزيرةٍ عربيّةٍ تلُفُّ تحتَ عباءتِها قبائلَ العربِ الجاهليَّةَ قاطبةً في شبهِ جزيرتِهم.. وكلُّ تاجرٍ فاجرٍ ألفُ ألفُ زعيمٍ من زعماءِ قريشٍ!

أمّا الفقراءُ في الجاهليَّة فكانُوا في رحمةٍ إنسانيَّةٍ تتجلَّى في تضامُنِ القبائلِ بعضِها ببعضٍ في المحنِ والمصائبِ.. وفي تعاضُدِ أفـرادِ القبيلةِ الواحدةِ الّذينَ تربطُهم رابِطةُ النَّسبِ والانتماءِ تحتَ إمرةِ شيخٍ لديهِ من الحِكمةِ والرَّأفةِ ورجاحةِ العقلِ ما يجعلُه بمثابةِ الأبِ الرُّوحيِّ للقبيلةِ.

ولكنَّ فقراءَنا اليومَ باتُوا تحتَ رحمةٍ سماويَّةٍ تَعِدُهم بالجنَّةِ فيعيشُون من أجلِها.. وليسَ لهم من قبيلةٍ ترعاهُم ولا مِن أفرادٍ يَحنُونَ عليهِم ولو رضِعُوا من لبانِ ثديٍ واحدٍ.. وباتُوا تحتَ وطأةِ ثريٍّ يستعبِدْهم باسمِ قضَايا الوطنِ وهمُومِ الأمَّةِ!

وأمّا العالمُ الأبلهُ برمَّتِه – اليومَ – ففيهِ أساطينُ لا تُشكِّلُ قريشٌ – بما امتلكَتْ – قطرةً واحدةً في بحارِ ثَرائِها وترفِها وملكُوتِها!

العالمُ اليومَ تجارةٌ ودعارةٌ.. صناعةٌ وبغاءٌ وحقارةٌ.. هيمنةٌ واستغلالٌ واستعمارٌ وقذارةٌ.

العالمُ اليومَ حروبُ قنابلَ ذرّيَّةٍ وكيميائيَّةٍ.. حروبُ صناعاتٍ تخنقُ الكونَ بسحُبِ دخانِها السَّامّةِ الّتي كادتْ تُوْدي بحياةِ كوكبِنا الأرضيِّ!

ويجتمعُ الزُّعماءُ الكِبارُ الّذينَ همْ أسبابُ لوثةِ كوكبِنا وفضائِه، لبحثِ قضيَّةِ الاحتباسِ الحراريِّ ومشكلةِ التَّلوُّثِ البيئيِّ وظاهرةِ الجوعِ والفقرِ!

إنّه لفيلْمٌ سينمائيٌّ من أفلامِ هوليُود.. وفيلمٌ كرتونيٌّ ثلاثيُّ الأبعادِ من أفلامِ قِممِ الجامعةِ العربيَّةِ!

أمّا المستقْبلُ.. فإنّهُ نتاجُ عصرِنا الحديثِ بكلِّ ما فيهِ من تلوُّثٍ في القيمِ والمبادئِ والمثُلِ والأخلاقِ والحضارةِ الإنسانيَّةِ، وبكلِّ ما فيهِ من تدميرٍ وتخريبٍ للبيئةِ الأرضيَّةِ والكونيَّةِ في أنهارِها وبحارِها ومُحيطاتِها.. في هوائِها ومائِها وغذائِها.. وسمائِها وفضائِها بغيومِها وغيثِها وشمسِها وصحْوِها ونجومِها ومجرَّاتِها.. ورحمةِ السَّماءِ الّتي صارتْ نقمةً على جميعِ الكائناتِ والمخلوقاتِ!

الخاتِمةُ:

مهمَا طالَ الحديثُ وامتدَّتْ مجاهِرُ الفكرِ إلى أعماقِ مأساةِ الفقرِ والفقراءِ في الحياةِ عامَّةً، وفي حياةِ المفكِّرينَ والمبدِعينَ خاصَّةً، فإنَّ قلَمي مهْما سطَّرَ من كلماتٍ، وقريحَتي مهْما فاضَتْ ينابيعُ إبداعِها.. فلنْ يُمطِرا إلّا غيضاً من فيضٍ يَعجَزُ عن الإحاطةِ بهذهِ الظَّاهرةِ العالميَّةِ الموجِعةِ الّتي أرَّقَتِ العيونَ، ومزَّقتِ الجوارحَ، وأحالتِ الحياةَ إلى أتُونٍ من الجحيمِ..

وحَسْبي ما قدَّمتُ من أفكارٍ وأقوالٍ ووصفٍ وتحليلٍ.. وإنّي إذْ بذلْتُ ما ملكْتُ منْ جهدٍ؛ أرجُو اللهَ أن يُسدِّدَ خُطايَ ويُبعدَ عنّي الشَّطَطَ والزَّللَ.. ويظلُّ بحْثي عملاً إنسانيَّاً قدْ يُصيبُ الحقيقةَ في مكْمنِها، وقدْ يُجانِبُ الحقَّ في صراطِهِ المستَقيمِ.. وما تَوفِيقي إلّا باللهِ.. هو حَسْبي ونعمَ الوكيلُ!

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات