الإيثارُ والاستِئْثارُ

نوّهتُ فيما سبقَ إلى أنّني سأتناولُ مجموعةَ مقالاتٍ في فلسفةِ صراعِ الأضداد، منها: (القوَّةُ والضَّعفُ – الحبُّ والكرهُ – الإيثارُ والاستئثارُ – الشَّرفُ والوضاعةُ – اليقينُ والشَّكُّ، وغيرُها)؛ لأخلُصَ منها إلى رؤىً واقعيَّةٍ تعبِّرُ عن همومِ الإنسانِ في الحياةِ وما تنتابُه من حالاتِ التَّضادِ والتَّناقضِ في مشاعرِه ورؤاهُ تبعاً للظُّروفِ الّتي تعصِفُ بالمرءِ بين الحينِ والآخرِ، وقد تناولتُ منها: القوّةَ والضّعف، والحبَّ والكراهية، وها أنا أتابعُ هذه السّلسلةَ من المقالات تباعاً؛ وفي هذه المقالةِ أتناولُ صراع ثنائيّةِ الإيثار والاستئثار.

معناهُما لغةً

الإيثَارُ مصدرُ آثر يُـؤْثِر إيثَاراً، بمعنى التَّقديمِ والاختيار والاختِصاص، فآثرَه إيثاراً، اختارَه وفضَّلهُ، ويُقال: آثرَه على نفسِه، والشَّيءَ بالشَّيءِ، خصَّهُ به. مصدر آثرَ، الإيثارُ: تفضيلُ المرء غيرَه على نفسِه. الإيثارُ: (علوم النَّفس) مذهبٌ يرمي إلى تفضيلِ خيرِ الآخرين على الخير الشَّخصيّ، وعكسُه الأَثَرةُ.

أمّا الاستئثارُ، فمصدر اِسْتَأْثَرَ، الاِسْتِئْثَارُ بِالخَيْرَاتِ: الاسْتِحْوَاذُ عَلَى الخَيْرَاتِ. آثرَ: (فعل) آثرْتُ، أُؤْثِرُ، مصدر إِيثَارٌ، آثر الشَّيءَ: فَضَّلهُ واختاره، اِسْتَأْثَرَ بِكُلِّ الحَلَوِيَّاتِ: خَصَّ بِهَا نَفْسَهُ، اسْتَأْثَرَ به: خَصَّ به نفسَه، استأثرَ بالانتباه: استرعاهُ، استأثر بالسُّلطةِ: استبدَّ بها، استأثر بحصّة الأسد: أعطى لنفسِه النّصيبَ الأكبر، استأثره بالشّيء: أعطاه إيَّاه دون غيرِه من النّاس.

معناهُما اصطلاحاً

الإيثَارُ أن يقدِّم غيرَه على نفسِه في النَّفعِ له، والدَّفعِ عنه، وهو النِّهايةُ في الأخوَّةِ، وقال ابنُ مِسْكويه: (الإيثارُ: هو فضيلةٌ للنَّفْس بها يكفُّ الإنسانُ عن بعضِ حاجاتِه الّتي تخصُّه حتّى يبذلَه لمن يستحِقُّه).

أمّا الاستئثارُ، فهو الاستحواذُ على الشّيء، والاختصاصُ به دون الآخرين. قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “سترون بعدي أثَرةً، فاصبرُوا حتى تلقَوني.” البخاري: 2376

ولكي أوضّحَ مفهومَ الإيثارِ في الفكر والفلسفةِ، سأعرضُ لمجموعةٍ من تلك الأقوالِ بغيةَ إلقاء الضّوء على حقيقة الصّراع بين هذه الثّنائيةِ الّتي تتصارع في ذات البشريّة، فتنعكسُ على سلوكيّاتِ الفردِ والمجتمع.

ومن هذه الأقوالِ الخالدة مقولةٌ للمفكّر مارتن لوثر كينج الابن، إذ يضعُ النّاسَ أمام خيارين، إمّا أن يختارُوا الإيثارَ الّذي يصفُه بأنّه بنّاءٌ وخلّاق يرتقي بالنّفس البشريّة ويسمُو بها نحو الإنسانيّةِ الصّافية العظيمةِ الّتي تتمَاهى مع قيمةِ الإيثار النّبيلة الّتي حثَّ عليها الدّينُ الإسلاميّ الحنيف في قولِه تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). الآية 8-9 من سورة الحشر. وهؤلاءِ على نقيضِ المنافقين الّذين يخادعُون إخوانَهم ويخذلُونهم بسبب أنانيَّتهم، فالإيثارُ بنّاء، والأنانيّةُ مدمّرة، كما قال كينغ: “يجب على كلِّ إنسان أن يقرّرَ ما إذا كان سوف يسيرُ في ضوء الإيثارِ الخلّاق أو في ظلام الأنانيّةِ المدمّرة”.

ولذلك فإنّ كلَّ عملِ خير يتجلّى فيه الإيثارُ يجبُ أن يكون نابعاً من القلب لا يعلمُ به إلّا اللهُ وفاعلُ الخير، وليس من أجلِ تحقيق منفعةٍ شخصيّة أو مراءاةِ أحدٍ، وإلّا فلا فائدةَ فيه ولا يُؤتي ثمارَه من الخير بقدْرِ ما يأتي ببذورِه من المصالحِ الّتي تنتجُ عنها الأثرةُ والمنفعةُ الذّاتيّة، ويترتّبُ عليها الفسادُ والإفساد، من ذلكَ الصّدقةُ، فهي إنْ لم تكنْ عفويّةً، فلا تحملُ خصّيصةً من خصائصِ الإيثار، وإن كانت في دائرةِ الدّعاية والشّهرة فهي إهانةٌ واحتقار للمحتاجين لها، وما أكثرَ الأمثلةَ عليها في حياتِنا المعاصرة، وقد عبّر عن ذلكَ المفكّر إدوارد آبي: “يجبُ أن تكونَ الصّدقاتُ عفويّة. الإيثارُ المحسوبُ هو إهانة”.

وأروعُ وأنبلُ أنواعِ الإيثار هو ذلكَ الشُّعورُ العظيمُ النّابع من البصيرةِ الّتي ترى وتشعرُ بالشّخصِ الآخر وكأنّه هو ذاتُنا نشعرُ بشعورِه ونُحسُّ بإحساسِه، وذلك غايةُ الرّحمةِ والمحبّة والإنسانيّة، وليس من الرّحمةِ ذلك الإيثارُ الّذي لا يقترنُ بالمشاعرِ والأحاسيس، فما فائدةُ صدقةٍ لا تقترنُ بمشاعر العطفِ والرّحمة والشّعورِ بآلامِ المعذَّبين والمحرومينَ من الفقراء والبائسين، وما فائدةُ عطاءٍ إذا لم يقترنْ بتلك المشاعرِ بآلام الآخرينَ الحسّيّةِ والمعنويّة؟! وهذا ما عبّر عنه المفكّرُ الأمريكيّ هيوستن سمِيث: “نُصبح رحيمينَ ليس من الإيثارِ الّذي يُنكرُ الذّاتَ من أجلِ الآخر، ولكنْ من البصيرةِ الّتي ترى وتشعرُ أنّ أحدَنا هو الآخرُ”.

والإيثارُ الحقيقيُّ هو ما نقدّمُه للآخرينَ، ويظلُّ خالداً على لسانِ الدّهر وسجلّاً ناصعاً في جبينِ الحياة، وكلُّ عملٍ نقدّمُه لأنفسِنا دون منفعةِ الآخرينَ يموتُ ويَفنى معنا، فلا يظلُّ له ذكرٌ، ولا يفوحُ له عطرٌ، وهذا ما عبّر عنه الكاتبُ والمحامي الأمريكيّ ألبرت بايك: “ما فعلناهُ لأنفسنا بمفردِنا يموتُ معنا، وما فعلْناه للآخرينَ يبقى في العالمِ خالداً”. وخير ما يعبّرُ عن هذا المعنى في السّيرةِ النّبويّة الشّريفةِ ما رواهُ التّرمذيُّ عن عائشةَ رضي الله عنها (أنّهم ذبحُوا شاةً، فقال النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: ما بقيَ منها؟ قالت عائشةُ رضي الله عنها: ما بقيَ منها إلّا كتِفُها -أي: أنّهم ذبحُوا الشّاةَ ووزّعُوها للمحتاجينَ، ولم يبقَ منها إلّا الكتفُ- قال: بقيَ كلُّها غيرُ كتفِها) أيْ: الّذي تصدّقَ به للفقراءِ مدَّخرٌ عند اللهِ سبحانه وتعالى، فهذا الّذي بقيَ عندَ الله تعالى.

وإنّ أعظمَ أنواع الإيثار هو الشّجاعةُ في التّضحية بالرّوح والنّفس في سبيل عزّةِ الدّين والمثلِ والقيم والمبادئ والوطنِ والشّرف والحرّيّة والكرامةِ الإنسانيّة، من ذلك قولُ المفكّر والسّياسيّ الإيرلنديّ جيري آدامز: “لقد أدّى تصميمُك ونكرانُك للذّاتِ، وشجاعتُكَ إلى تحقيقِ النّضالِ من أجلِ الحرّيّة”. ولذلك نجدُ أجلَّ وأنبلَ تكريمٍ حباهُ الإسلامُ ذلكَ الشّهيدَ الّذي ضحّى بروحِه ودمِه في سبيل الله وإعلاءِ كلمتِه من خلالِ منحِه وسامَ الخلودِ عند الله في النّعيم دونَما حسابٍ، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:169-170] الآيات. ومنهُ قول الشّاعر السّوريّ الكبير عمر أبو ريشة في بيانِ قيمة الوطن إذا ما كان وطناً حقيقيّاً، لا مزرعةً لتدجينِ الثّيران بعصا الرّاعي المكلّفِ بالمهمّة، وطناً يتساوى فيه الجميعُ في الحقوقِ والواجبات، ويخضعُ فيه الكبيرُ قبل الصّغير للقانونِ، فلا سادةَ ولا عبيدَ، لا آلهةَ ولا مؤلِّهين بالبِسطار العسكريّ، فالوطنُ الّذي يستحقُّ أن تُبذل فيه النُّفوسُ دفاعاً عن شرفِه وكرامتِه هو ذلكَ الوطنُ الّذي يشعرُ فيه مواطنُوه بالعزّة والكرامة، بالعدلِ والحريّة، لا تلك المزرعةُ الّتي تديرُها ثلّةٌ من الرُّعاة الأوباش:

فــي ســبــيــلِ المــجــدِ والأوطــانِ نَــحـيـا ونَبيـدْ

كلّــــــــنا ذو هِمّةٍ شـمّاءَ جبّـــــــــــــــــــارٌ عَنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدْ

لا تـطـيـقُ السَّـادةُ الأحرارُ أطواقَ الحديدْ

إنَّ عـيـشَ الذلِّ والإرهــــــــــــــاقِ أولى بـالعبيدْ

لا نَـــهــــــــــــــابُ الزمــــــــــــــــــنْ إن سَــقــانــا المــحـــــــــــــــــنْ

فــي سَــبــيــلِ الوطـــــــــــــــــنْ كــمْ قــتــيـلٍ شـــــــــهـيـدْ

فمَن يُستَشهدُ في سبيل حرّيّتِه وكرامتِه وعزّةِ وطنِه يتوسّمُ وسامَ الشّهادة، أمّا المجرمُون والمأجورون الّذين سُحقُوا تحت أقدامِ الأحرارِ وهم يدافعونَ عن عرشٍ فرعونيّ متهالكٍ غرستْه حكومةُ الظّلّ الّتي تقودُ العالم، فهؤلاءِ ليسوا إلّا كلاباً قُدِّموا بلا ثمنٍ على مذبحِ الاستئثارِ بالعرشِ الأبديّ الموهُوم.

وكما حثّتِ الشّريعةُ الإسلاميّة على القيمِ والمثل العُليا، كذلك نجدُ أنّ الشّريعةَ المسيحيّة حثّت على تلك القيمِ، وهي إنْ حكمَت العلاقاتِ الاجتماعيَّةَ بين البشر، فإنّها البرهانُ السّاطعُ على إقامةِ ملكوتِ الله في الأرض، ومن تلكَ المثل: الثّقةُ والمحبّة والرّحمة والإيثارُ، على نحوِ ما عبّر عنه مارتن لوثر كينج الابن: “عندما نرى العلاقاتِ الاجتماعيّةَ تتحكَّمُ فيها في كلِّ مكانٍ المبادئُ الّتي أوضحَها يسوعُ في الحياة -الثّقة والمحبّة والرّحمة والإيثار- عندَها سنعرفُ أنَّ ملكوتَ الله موجودٌ هنا”.

ويبلغُ الإيثارُ أبهى صورِه وأنقَى معانيهِ عندَ الأبوين، فهل ثمّة من يجهلُ تضحيةَ الأمّ بجسِدها وصحَّتها وسعادتِها من أجلِ أن يحيا طفلُها في أمنٍ وسلام وسعادةٍ ووئام، فكم من الأمّهاتِ -رضيَ الله عنهنَّ- ضحَّينَ بحياتهنَّ في سبيل إنقاذِ مولودهنّ وما زال في رحمِهنّ ينتظرُ نور الحياة! وكم من الآباءِ العظماءِ الّذين يضحُّون بوقتِهم وجهدِهم وسعادتِهم في سبيلِ أن يحيا أبناؤُهم في سعادةٍ وكرامة! وكم من الآباء الّذين وقعُوا بين أيدي مُجرمي الطُّغاةِ الّذين وجدُوا فيهم فريسةً للانتقام، فخيّروهم بأسلوبٍ إجراميّ حقير باختيارِ ولدٍ لينجوَ من بين إخوتِه من الرّصاصِ المصوّبِ إلى صدورِهم، فآثر الأبُ أن يُقتلَ إيثاراً لأبنائِه، لكنّ الإيثارَ ليس في قاموسِ تلكَ الثّلّةِ الإجراميّة القذرة الّتي قذفَها التّاريخُ من قمامتِه إلى الحياةِ؛ ليتحكمُّوا بمصائرِ الشّرفاء الأنقياءِ، ويقتلُوا في ذواتِهم أيَّ إحساسٍ بالوطن، وأيَّ انتماءٍ إليه.

وربّما نجد قصصَ الإيثار عندَ الحيوانات ومشاعرَ إنسانيّةً لا تُقارن بمشاعرِ هؤلاءِ الطّغاة المجرمين، فالحيواناتُ تمتلك جيناتِ الإيثار الّتي تؤهّلها للتَّطوّر، وتحفظُ لها بقاءَ النّوع، وهذا ما عبرّ عنه لويس توماس بقوله: “تمتلك الحيواناتُ جيناتٍ للإيثار، وقد تمَّ اختيارُ هذه الجيناتِ في تطوّر العديدِ من الكائناتِ بسبب الميزةِ الّتي توفّرُها لاستمرارِ بقاءِ النّوع”.

ومن أعظم منافعِ الإيثار أنّه يحقِّقُ للمؤثرينَ على أنفسِهم سعادةً ومحبّة وإبداعاً وإنتاجاً وعلاقاتِ ودٍّ تنعكسُ على صحّةِ هؤلاء، وهذا ما أكّدتْه الدّراساتُ المعاصرة، كما في قول جريتشين روبين: “تُظهر الأبحاثُ المعاصرة أنّ الأشخاصَ السّعداء هم أكثرُ إيثاراً وأكثر إنتاجيّةً ومساعدةً، وأكثر محبّةً، وأكثر إبداعاً، وأكثر مرونةً، وأكثر اهتماماً بالآخرينَ، وأكثر ودّيّةً وصحّة. الأشخاصُ السّعداء يصنعونَ أصدقاءَ وزملاءَ ومواطنينَ أفضل”.

ومن أروعِ ثمار الإيثارِ حينَما يقترنُ بالحكمة أنّه يُشرق بشمسِ الحقّ من ذاتِ الإنسان، فيرتقي العقلُ البشريُّ من ظلماتِ الأثرةِ والجهل؛ ليحلّقَ في عنانِ السّماء بجناحي الحكمةِ والإيثار، كما عبّر عن ذلك المؤلّفُ والمربّي الكولومبيّ سمائيل عون وير: “تشرقُ شمسُ الحقّ في الإنسان، وتنيرُ عالمَه عندما يرفعُ عقلَه من ظلمةِ الجهل والأنانيّةِ إلى نورِ الحكمةِ والإيثار”.

أمّا الاستئثارُ أو الأثرةُ فأنانيّةٌ قاتلة مدمِّرة للأفرادِ والمجتمعاتِ والحضارات، وهي نقيضُ الإيثار، وإن أردْنا اختصارَ الحديثِ حولَها، فواقعُ البشريّة اليومَ يعكسُ أسوأَ صورِها وأشكالِها وآثارها.

فتنافسُ المافياتِ الدّوليّة والمحلّيّة لاحتكارِ الثّروات ومراكزِ القوّة والسّلطة ليس إلّا عقدةً نفسيّةً تنطوي على الأنانيّةِ والأثرة!

وتنافسُ الدّولِ الغنيّة لاستثمارِ مواردِ الدّول الفقيرةِ ليس إلّا جريمةً تختزلُ أسوأَ صور الاستئثار!

وتنافسُ إمبراطوريّاتِ العصر لتكونَ القطبَ الأوحدَ للتَّحكُّم بمصير الأمم ونهبِ ثرواتها، ليس إلّا أردأَ لعنةٍ تقذفُ سمومَها أنانيّةٌ بغيضةٌ وأثرةٌ حقيرة!

وتنافسُ الصّبيانِ للاستئثار بالحكمِ والقضاءِ على كلّ حكيم ولو كان أباً أو أخاً أو عمّاً أو خالاً أو خليلاً، ليس إلا أحطَّ نرجسيّةٍ تعرفُها البشريّةُ منذ قتلِ قابيلَ لأخيهِ هابيل!

وليس احتكارُ زعماءِ الطّوائف والقبائلِ للعرشِ إلا سيفاً مسلولاً من معدنِ الأثرةِ مسلطاً على رقابِ الشُّعوب، لا يمكن تطعيمُه بشيءٍ من ذهبِ العدلِ والمساواة!

وليس احتكارُ مؤسّساتٍ خدْميّةٍ، ولو كانت في أدنى مراتبِها، كمؤسّسة المراحيضِ العامّة، لأشخاصٍ يمثّلون تيّار ممانعةِ تثفُّل الكريّاتِ الحمراء في الدّم، سوى أنانيّةِ الخوفِ والرّعب من انتشار حركةِ التَّمرُّد من الكريَّاتِ البيضاء!

وأختتمُ مقالتي ببيانِ طبيعةِ النّفس البشريّةِ المجبولةِ على الأثرةِ والأنانيّة، وأقول لو أنَّ البشريّة تحلّت من الإيثارِ بربعِ ما تتحلّى به من الأثرةِ، لعاش الكونُ بسلامٍ، وزالتِ الحروبُ، وتقلَّصت مساحةُ الفقراءِ والمعدمين إلى حدٍّ كبير، لكنّ الحقيقةَ مرّة تلخِّصُها الأقوالُ والأفعال:

نحن نفشلُ في حسابِ حقيقةِ الطّبيعةِ البشريّة. بطبيعتِنا، نحن أنانيُّون. عالمُنا يدورُ حولَنا. لا أحدَ منّا هو إيثارٌ كامل. غاري تشابمان

نحن أنانيُّون عندما نكونُ مهتمّين في الغالبِ بالخيرِ لأنفسِنا. نحن نتحلّى بالإيثار عندما نكون مهتمّين في الغالبِ بمصلحةِ الآخرين. مورتيمر جيروم أدلر

لا تُخاضُ الحروبُ أبداً لأسبابِ الإيثار. سوزانا أرونداتي روي كاتبة هنديّة وناشطة سياسيّة.

سرُّ التّنوير هو اللُّطفُ والعطاءُ غيرُ الأنانيّ. بدونِ ذلك، إنّها مجرّدُ كلماتٍ، أليسَ كذلك؟ فريدريك ليندمان.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ…

تعليقات