Skip to main content
search

ما أكثرَ المواقفَ الطّريفةَ في حياةِ البشرِ! تلك المواقفُ التي تحدثُ أحياناً ببساطةٍ وعفويّةٍ، أو عن جهلٍ أعمى، وربّما عن تجاهلٍ. وكلُّها تثيرُ الدّهشةَ والاستغرابَ، وتبعثُ على الضّحِك والسُّخريةِ، وربّما تُضفِي جِدّةً وجمالاً على صفحاتِ الحياةِ الرّتيبةِ المملّةِ.

فمِن تلك المواقفِ الطّريفةِ الّتي شاهدتُها بأمِّ عيني، حينما كنتُ وأخي في رحلةٍ بالحافلةٍ من حمصَ إلى دمشقَ. ففي حافلةِ الرّكّاب الكبيرةِ (البولمان)، جرتْ مشاجرةٌ بين أربعةٍ من الرّكّابِ: اثنانِ منهم يقولان: إنّ هذا المقعدَ، ورقمُه (31-32) لنا.. وها هي تذكرتُنا! والآخرانِ يقولان: إنّ هذا المقعدَ مقعدُنا، وهذه تذكرتُنا تحملُ الرّقمَ ذاتَه (32-31).

وعلا صوتُهم وصراخُهم.. فأمّا الجالسانِ على المقعدِ، فكانا رجلينِ في منتصفِ العمرِ، يرتديان الزّيَّ العربيَّ التّقليديَّ، وأمّا الآخرانِ الواقفانِ، فكانا شابّينِ في مِيعةِ الصِّبا.. وتدخّلَ بعضُ الرّكّاب بينهم لفضِّ النّزاعِ، دون أن ينتبِهَ أحدٌ إلى مضمونِ التّذكرة، فالكلُّ انتبهَ فقط إلى رقمِها المدوّنِ بخطٍّ عريضٍ (31-32)، وكلا الطّرفينِ يحملُ التّذكرةَ ذاتَ الرّقمِ السّابق.

وبعد أن احتدمَ الصّراعُ على المقعدِ، ذهب أحدُ الشّابّينِ لإحضارِ مراقبِ الخطِّ، وكم كانت دهشةُ المراقبِ كبيرةً، حينما نظرَ إلى الرّجلينِ وهما يصيحانِ بأعلى صوتِهما، فقال لهما: تَفضّلا بالنُّزولِ من الحافلةِ؛ لأنّها ليست حافلتَكم، فأنتما إلى حلبَ، وهذه الرّحلةُ إلى دمشقَ، فنظرَ الجميعُ إليهما، وقد علتِ البسمةُ والضِّحكةُ الوجوهَ.

وبعد أن انتهتِ المشكلةُ إلى الحلِّ، وأخذَ كلُّ مسافرٍ مقعدَه مطمئِنَّ البالِ، دون ظهورِ منافسينَ عليه، انطلقتْ بنا الحافلةُ صوبَ دمشقَ.

وفي الطـّريقِ راح الجالسونَ يتبادلُون أطرافَ الأحاديثِ، وكلٌّ يغنّي على ليلاهُ، وأنا رحتُ أغنّي على ليلايَ، تارةً أستنضحُ خيالي، متأمِّلاً الحياةِ وما فيها من تناقضاتٍ وصراعاتٍ، وتارةً أخرى أستحضرُ ما فيها من طرائفَ ومواقفَ مضحكةٍ يكون أبطالُها من عامّةِ النّاس يمثّلُون الأدوارَ دون تقنيّاتِ المسرحِ وألاعيبِه، ودون إعدادٍ وتحضيرٍ للمشهدِ، وتارةً ثالثةً ألتفتُ إلى أخي وأطارحُه همومَ الحياةِ، وأبادلُه بعضَ الهمساتِ والنّكاتِ والابتساماتِ والضّحكاتِ، إلى أن توقَّفتْ عجلاتُ الحافلة على ساحةِ إحدى الاستراحاتِ في مدينةِ ديرِ عطيّة.

نزل الرّكّابُ لقضاءِ حاجاتِهم، وبعد مُضيِّ وقتِ الاستراحةِ، صعِدَ الرّكّابُ الحافلةَ، وظلّ المِقعدُ المجاورُ لنا خالياً من ركّابِه، وهو ذلك المقعدُ الذي تمَّ النّزاعُ عليه بين الشّابّينِ وبين الرّجلينِ المسافرينِ إلى حلبَ، وقد تأخّرت الحافلةُ في الانطلاقِ بسببِ غيابِ الشّابّينِ، ومللْنا الانتظارَ، لكنّ المللَ سرعانَ ما تبدّد، وتحوّل اليأسُ إلى مسرحيّةٍ أخرى للابتسامةِ والضّحكِ، عندما علمْنا أنَّ الشّابّينِ غادرا الاستراحةَ في حافلةٍ أخرى متَّجهةٍ إلى دمشقَ ظنّاً منهما أنّها الحافلةُ ذاتُها التي انطلقتْ بهما من حمصَ.

ومثلُ هذا الخطأِ خفيفُ الظّلِّ، طيِّبُ الذّكرى، ملطّفٌ لجوِّ الأماكنِ التي يحدثُ فيها؛ لأنّه خطأٌ عفويٌّ صادقٌ يعبّر عن همومِ المواطنِ العاديِّ وتطلُّعاتِه الّتي لا تتجاوزُ مجرّدَ التّفكيرِ في لقمةِ العيشِ أو ركوبِ حافلةٍ لضرورةٍ مُلِحَّةٍ في السّفر.

ولكنْ تصوَّروا معي لو أنّ هذا الخطأَ حدث حولَ مقعدٍ في دائرةٍ حكوميّةٍ أو في مجلسٍ من مجالسِ الدُّمى العربيّةِ، أو في عرشِ الإلهِ المقدَّسِ الّذي يُطحَنُ من أجلِه شعبٌ بأكملِه!! ماذا سيحدثُ لا سمحَ اللهُ؟؟

بالطّبعِ لن يحدثَ إلّا أمرٌ بسيطٌ ألِفَه الإنسانُ العربيُّ عبرَ أزمنتِه وعصورِه، لن يحدثَ إلّا قصفٌ يسيرٌ بالطّائراتِ على المدينةِ الّتي جاء منها الخطأُ، أو اقتحامٌ بالدّبّاباتِ والمدرّعاتِ وشتّى أنواعِ الأسلحةِ الثّقيلةِ ومحاصرةُ كلِّ مدينةٍ تخالفُ أوامرَ العـرشِ الملكيِّ، وسيُحرَقُ كلُّ مَن يفكِّرُ مجرّدَ تفكيرٍ في هـذا الحقِّ المقدَّسِ للعرشِ؛ لأنّه إرثٌ منحتْه الآلهةُ اليونانيّةُ القديمةُ لأبطالِها الأسطوريّين الّذين يُحرَّمُ على كلِّ أمّهاتِ الأرضِ أن تُنجبَ أمثالَهم.

ولو استعرضْنا أخطاءَ الأرقامِ، لألفيْناها أكثرَ مِن أن تُعدَّ أو تُحصَى، وهذهِ الأخطاءُ على أشكالٍ وألوانٍ، بعضُها يُبكي الجِنَّ لو نظرُوا، وبعضُها يَستضحِكُ الأمواتَ لو نطقُوا، وبعضُها يُبكي ويُضحِكُ لا حزناً ولا فرحاً.

والأرقامُ كالبشرِ، بعضُها عامٌّ كسوادِ البشرِ، لا يُنظَرُ إليها بعينِ الاحترامِ والرّضا، وبعضُها خاصٌّ يُحرَّمُ النّظرُ إليها، كما يُمنَعُ النّقاشُ أو مجرَّدُ الحديثِ عنها؛ لأنّها مقدَّسةٌ تُضارعُ أصحابَها جلالةً ومهابةً، وتُطاول عنانَ السَّماءِ بغاربِ.

وما أكثرَ الغواربَ في عالمٍ غريبٍ تتصارعُ فيه الأضدادُ، وتكونُ الغلبةُ للحقيرِ على النَّبيلِ، وللوضيعِ على الشَّريفِ، وللحثالةِ على الأكابرِ، وللشُّذّاذِ على الأصالةِ، وللعُهرِ على الطّهارةِ، وللباطلِ على الحقِّ، وللدَّيجورِ على النُّور، وللضّلالةِ على الهُدى، وللجُنونِ على صحّةِ الفهمِ والعقولِ، وللمجرمينَ على الضّحايا، وللجُناةِ على الأبرياءِ، وللهمجيَّةِ على الإنسانيّةِ، وللوحوشِ الضّاريةِ على الحِمْلانِ الوديعةِ، وللأعاصيرِ الهوجاءِ على النَّسائمِ العليلةِ، وللبراكينِ الثّائرةِ على كلِّ هوامدِ الطّبيعةِ، وللزّلازلِ على سكونِ الأرضِ والكائناتِ، وللبِحارِ على اليابسةِ، وللشرِّ على الخيرِ، وللقُبحِ على الجمالِ، وللإجرامِ على البراءةِ، وللكدَرِ على الصَّفاءِ، وللَّوثةِ على النّقاءِ.

ومن طرائفِ قصصِ الأرقامِ ما جَرى معي ذاتَ يومٍ، حينَما كنتُ عائداً من عملي عندَ المساءِ، وقد سلكتُ بسيّارتي طريقاً مزدحمةً، وكان طابورُ السّيّاراتِ يمتدُّ كالنّهرِ.

فرأيتُني منهَكاً من ساعاتِ العملِ، فقرّرتُ تغييرَ مساري، وكان المسارُ الأيمنُ خالياً من السّيّاراتِ، فغمزتُ إلى اليمينِ، وخـرجتُ بسرعةٍ، منتبهاً إلى القادمينَ من خلفِي، وفجأةً تقدَّمتْ نحوي سيّارةٌ فخمةٌ تُوحي بالنّعمةِ والثّراءِ أو السُّلطةِ، وخرجتْ هذه السّيّارةُ إلى الرّصيفِ المتساوي في المستَوى مع الطّريق، ودخلتْ أمامي، وقطعتْ عليَّ الطّريقَ بشكلٍ انتهازيٍّ يُوحي بقلّةِ الأدبِ، وفجأةً انفتحتْ نافذةُ السّيّارةِ، وامتدَّ رأسٌ يرتدي غُترةً بيضاءَ وعقالاً ممّا يرتديه أكابرُ النّاسِ، وراحَ يَبصُقُ نحوي ويشتُمُ، ممّا قد أثارَ انتباهَ جميعِ الواقفينَ على الإشارةِ من سائقِي السّيّارات على اختلافِ أجناسِهم وأعمارِهم وثقافاتِهم ومستوياتِهم.

ومضتْ دقائقُ ومازالَ يقطعُ الطّريقَ عليَّ معرقِلاً السّيرَ من خلفِه، تمالكتُ نفسي وصلّيتُ على النّبيِّ تخفيفاً من حدّةِ غضبي، ونظرتُ إلى رقمِ السَّيّارةِ لعلَّني أعرفُ شيئاً عن هُويّةِ سائقِها، فرأيتُ الرّقمَ يُوحي بالقوّةِ والخصوصيّةِ العاليةِ في رمزيَّتها، وكان الرّقمُ اثنينِ وسبعينَ (72).

وهذا يَعني أنّني دخلتُ في دائرةِ المجهولِ، وحسابِ النَّتائجِ، وحلّلتُ الأمرَ في فكري بدقّةٍ، وقلتُ في نفسي: لو كان صاحبُ السّيّارةِ مسؤولاً كبيراً، لما كان بهذا المستوى من الإسفافِ الأخلاقيِّ، ولما بدرَ منه أيُّ إحراجٍ للآخرينَ، وقد خبِرتُ هذا البلدَ العظيمَ الّذي يكِنُّ خاصّتُه قبلَ عامّتِه كلَّ الاحترامِ لكلِّ مقيمٍ، بغضِّ النَّظرِ عن انتمائِه ومستواهُ وجنسِه؛ لأنّهم يتحلَّوْن بالأخلاقِ الإسلاميّةِ، وينظرُون إلى كلِّ غريبٍ على أنّه ضيفٌ، وله حقُّ الضِّيافةِ من الاحترامِ والتَّقديرِ، وتقديمُ يـدِ العونِ والمسـاعدةِ إن وجـدُوه في محنةٍ، وهذهِ حقيقةٌ يعترفُ بها جميعُ المقيمينَ على أرضِ هذه الدَّولةِ العربيّةِ الرّاقيةِ.. وهذا هو أهمُّ الأسبابِ الّتي دفعْتني إلى التَّمسُّكِ بالبقاءِ في كنفِ ورعايةِ هذه الدَّولةِ الحضاريّةِ وشعبِها الطّيِّبِ.

وقلَّبتُ الأمرَ أكثرَ، فقلتُ في نفْسي ربّما يكونُ صاحبُ السَّيّارةِ من أثرياءِ البلدِ، واستبعدتُ الاحتمالَ؛ لأنّني على يقينٍ تامٍّ بأنَّ أبناءَ الأثرياءِ لا يقعُون في مثلِ هذهِ الحماقةِ، فنزلتُ من سيّارتي تاركاً البابَ مفتوحاً مع وميضِ غمّازاتِ السّيّارة، وذهبتُ إليه بهدوءٍ، وما إنْ وصلتُ إلى جانبِ سيّارتِه، حتّى رفعَ زجاجَ النّافذةِ، فطرقتُ النّافذةَ عليه طرقاتٍ تُوحي بالقوّة، فأبى أن يفتحَ النّافذةَ، ورحتُ أُشيرُ إليه بيديَّ وشفتيَّ، لعلّه يفهمُني ماذا أقولُ له، لكنّه أبى، وراحَ يؤشِّرُ بيدِه بأنّه لا يستطيعُ، فخفّفْتُ من لغةِ الإشارةِ وابتسمتُ له، وأومأتُ إليه بأنّني أريدُ أن أشكرَه، فأنزلَ زجاجَ السّيّارةِ بمقدارٍ لا يسمحُ بوصولِ اليدِ إليه في حالةِ انقباضِها، فقلتُ له: شكراً على حسنِ أخلاقِك، وشكراً على البصاقِ أمامَ النّاسِ في الشّارع.. أهكذا علّمَك دينُك؟؟ هل هـذا التَّصرُّف من شيمِ المسلمين؟؟ أم هل يستطيعُ فعـلَه ابنُ الإماراتِ الحقيقيُّ.. على كلِّ حالٍ سامحَك اللهُ، افسحِ الطّريقَ للآخرينَ ووفّقَك اللهُ!

وعدتُ إلى البيتِ وأنا أفكِّرُ فيما حدثَ، هل كنتُ في حلمٍ، أم أنَّ الأرقامَ تعودُ إلى الذّاكرةِ لتصنعَ الأحداثَ الكوميديّةَ المضحِكةَ من جديدٍ، وهل الأرقامُ الخاصّةُ تخدعُ النّاسَ، أم تخدعُ أصحابَها؟ لم أجدْ جواباً واضحاً في ذاتي، وإنّما كلُّ ما وجدتُه تساؤلاتٌ دفعتْني إلى شيءٍ من الاستغرابِ والدّهشةِ والمرارةِ المتراكمةِ في أعماقي عن واقعِ بلدانٍ عربيّةٍ أخرى ما زالتْ عقليّةُ الأرقامِ والأحذيةِ العسكريّةِ والشّرطةِ البوليسيّةِ والمخابراتيّةِ تعشّشُ في وعيِ النّاسِ، وتشكّلُ ثقافةُ القرونِ الوُسطى في أوروبّا، من حيثُ التّسلُّطُ والقمعُ والاستبدادُ والطّغيانُ على حرّيّةِ الفكرِ والعقيدةِ والسّياسةِ والاجتماعِ والاقتصادِ، أهمَّ سماتِها ومزاياهَا.

وحمدتُ اللهَ على رحمتِه؛ لأنَّ الرّقمَ الّذي شاكسَني كان في دولةٍ مدنيّةٍ حضاريّةٍ، ولم يكن في دولٍ سنسكريتيّةٍ تعجزُ الأفهامُ عن فكِّ طلاسمِها المعقّدةِ عُقَدَ التّاريخِ المجهولِ الذي صنعَها!

عجمان في 5/4/2006

Close Menu

جميع الحقوق محفوظة © عالم الأدب 2024