إليك بعد انقضاء الجد واللعب

ديوان القاضي الفاضل

إِلَيكَ بَعدَ اِنقِضاءِ الجِدِّ وَاللَعِبِ

عَنّي فَلَم أَرَ بي ما يَقتَضي أَرَبي

ما زالَ جارُكَ ذو القُربى الفُؤادُ وَقَد

وَلّى الصِبا لَم يَسَل عَن جارِكَ الجُنُبِ

وَالعُمرُ كَالكَأسِ وَالأَيّامُ تَمزُجُهُ

وَالشَيبُ فيهِ قَذىً في مَوضِعِ الحَبَبِ

أَقولُ إِذ فاضَ مِنّي فيضُ فِضَّتِهِ

يا وَحشَتي لِشَبابٍ ذاهِبِ الذَهَبِ

نارٌ وَإِن لَم تَكُن كَالنارِ مُحرِقَةً

فَإِنَّ في الشَعرِ مِنها آيَةَ اللَهَبِ

وَلّى صِباهُ وَأَبقى شُهبَ لَيلَتِهِ

وَالصُبحُ لَيسَ بِمَأمونٍ عَلى الشُهُبِ

ماذا يَعُدُّ عَلى دُنيا شَبيبتِهِ

تُريهِ وَجهَ الرِضا عَن خاطِرِ الغَضَبِ

أَبكي الشَبابَ فَأَمحو لَيلَ صِبغَتِهِ

بِذائِبٍ مِن ضِياءِ الشَيبِ مَنسَكِبِ

مَفلولُ حَربٍ صَقيلُ الشعرِ أَبيَضُهُ

فما أَتَمَّ الَّذي اِستَحلَيتُ مِن سَنِبِ

هَذا رَبيعُ لِآلِ فَصلِهِ

فَيا لَهُ مِن رَبيعٍ حَلَّ في رَجَبِ

وَيا لِغارَةِ أَيّامٍ سُلِبتُ بِها

شَبيبَتي وَمَضى المَسلوبُ في السَلَبِ

إِذا سَمِعتَ أَنيني عِندَ مُنصَرِفٍ

رَأَيتَ جَيشَ صَروفِ الدَهرِ ذا لَجَبِ

أَثارَ غارَتُها ما بِالمَفارِقِ مِن

عَجاجَةٍ وَعَلى الأَعضاءِ مِن تَعَبِ

أَصبَحتُ حَيَّ زَمانٍ مِثلَ مَيِّتِهِ

حَيَّ التَأَسُّفِ فيهِ مَيِّتَ الطَرَبِ

يا لَيلَةً ما أَظُنُّ الصبحَ يَذكُرُها

شَيَّبتِ رَأسي وَرَأسُ الفَجرِ لَم يَشِبِ

إِنّي أَمُتُّ إِلَيهِ لَو رَعاهُ بِما

بَينَ الهُمومِ وَبَينَ اللَيلِ مِن نَسَبِ

أَما رَأَيتَ قَميصَ الصُبحِ يا شَفَقاً

إِلّا أَتَيتَ عَلَيهِ بِالدَمِ الكَذِبِ

وَخَيمَةُ العُمرِ إِن شَدَّ الصَباحُ لَها

عَمودَهُ كانَ حَبلُ الشَمسِ كَالطَنُبِ

وَنَحنُ نَأمُلُ أَسبابَ الحَياةِ بِما

مَثَّلتُهُ وَأَراهُ أَضعَفَ السَبَبِ

وَجُمَّةُ العُمرِ أَكدارٌ فَإِن غَلِطَت

بِالصَفوِ دُنياكَ فَاِعدُدهُ مِنَ التَعَبِ

يُحِبُّكَ الناسُ إِن أَمسَكتَ عَن طَلَبِ

وَاللَهُ يَمقُتُ إِن أَمسَكتَ عَن طَلَبِ

إِن كانَ رِزقٌ بِماءِ الوَجهِ مُجتَلَباً

فَرِزقُ رَبِّكَ يأِتي غَيرَ مُجتَلَبِ

فَما تَمَيَّزَ لي فِعلانِ بَحرُ نَدىً

يُمِدُّ مَوجَ الظُبا لِلعَيشِ وَالعَطبِ

بَحرٌ وَما قُلتُ تَشبيهاً وَكَيفَ بِهِ

إِنَّ البَحارَ لِذاكَ البَحرِ كَالقُلُبِ

صَرِّح بِذِكراهُ وَاِصدَح بِاِسمِ حَضرَتِهِ ال

سامي فَإِنَّ اِسمَهُ يَكفي عَنِ اللَقَبِ

إِن لَم يَكُن في سَبيلِ المَجدِ هِمَّتُهُ

إِذاً ثَنى بِسِلاحٍ غَيرِ مُختَضِبِ

كَأَنَّ جودَ يَدَيهِ عَينُ مَكرُمَةٍ

كِلاهُما ما عَداهُ مُسبَلُ الحُجُبِ

وَرُبَّ حاسِرِ رَأسِ البَغى أَلبَسَهُ

عِمامَةً لِلرَدى مُحمَرَّةَ العَذَبِ

وَرُبَّ راجِلِ رِجلِ الرُشدِ أَركَبَهُ

ظَهراً أَقامَ بِلا سَرجٍ وَلا قَتَبِ

ماضي المَراسيمِ مَدلولُ الفُؤادِ عَلى

ما لا تَرى العَينُ في الأَسرارِ مِن حَرَبِ

كَأَنَّما سَيفُهُ المِرآةُ في يَدِهِ

فَكُلُّ غائِبِ أَمرٍ عَنهُ لَم يَغِبِ

وَما رَأَيتُ صُروفَ الدَهرِ إِن أَخَذَت

طَريقَها لَم تَجِدهُ آخِذَ الأُهُبِ

فَضائِلٌ إِن تُشَم فَالنَجمُ في صَعَدٍ

وَنائِلٌ إِن يُسمَ فَالنيلُ في عَبَبِ

فِكرٌ عَلى رَصَدِ الأَخطارِ مُرتَقِبٌ

لَكُلِّ واقِعِ أَمرٍ غَيرِ مُرتَقَبِ

حَزمٌ يُعِدُّ لِنارِ الحَزمِ لُجَّتَهُ

كَم مُسعِرٍ وَيُلاقي النارَ بِالحَطَبِ

تُريهِ عُقبى لَياليهِ أَوائِلُها

وَفارِسُ الرَأيِ مَن يُلقي عَلى العُقُبِ

عَجائِبُ الدَهرِ لا تَفنى فَلا عَجَبٌ

إِلّا لِيَومِكَ إِذ يَفنى بِلا عَجَبِ

أَمّا البَشاشَةُ في أَفلاكِ أَنعُمِهِ

فَإِنَّها لِمَدارِ الفَضلِ كَالقُطُبِ

حَسبُ الحَسيبِ بِها لِلمَجدِ صاقِلَةً

وَما البَشاشَةُ إِلّا صَيقلُ الحَسَبِ

في وَجهِهِ نَجمُ جَدٍّ غَيرُ مُنكَدِرٍ

وَوَعدُهُ بُرجُ سَعدٍ غَيرُ مُنقَلِبِ

لَم أَلقَ دَهري بِأَحمى مِن عِنايَتِهِ

وَلا بِأَحنى عَلى المَجفُوِّ مِن أَدَبِ

إِلَيكَ عَنّي فَلا جَدبٌ وَلا رَهَبٌ

فَإِنَّني في ذِمامِ اللَهِ وَالسُحُبِ

لَو لَم تَكُن سُحُبُ الإِحسانِ تُمطِرُني

ما كانَ يُنبِتُ طَرسي مِثلَ ذا العُشُبِ

وَما أَزالُ عَلى إِحسانِ دَولَتِكُم

مُثني الحَقائِبِ لا بَل مُثني الحِقَبِ

فَجَرِّدوها عَلى الأَعقابِ دافِعَةً

ما لا يُدافِعُ عَنها أَقطَعُ القُضُبِ

وَاِستَثمِروها عَلى الأَحقابِ مُثمِرَةً

ما لَيسَ مُستَثمِراً مِن أَصفَرِ القَصَبِ

لَيسَ الكُنوزُ عَلى الأَموالِ مُشفِقَةً

فَاِستَودِعوها لَدى الأَحرارِ وَالكُتُبِ

وَبَيتُكَ العامِرُ المَغشِيُّ مَشهَدُهُ

يَجَلُّ مِقدارُهُ عَن بَيتِهِ الخَرِبِ

يَموتُ شِعرٌ وَما جَفَّ اليَراعُ بِهِ

وَبَعضُ ما قيلَ مَذبوحٌ عَلى النُصُبِ

لا أَشتَكي نُوَبَ الدُنيا وَكَيفَ بِها

لَو راوَحَت بَينَها يَومَينِ كَالنُوَبِ

المُشرِقاتُ بَنوها حينَ تَسمَعُها

تَرى بِها وَجَناتِ الخُرَّدِ العُرُبِ

حَنَّت إِلَيكَ قَوافي الشِعرِ وَاِستَلَبَت

مِنّا العِنانَ حَنينَ الوُلَّهِ السُلُبِ

ما أَغرَبَت في صَوابٍ وَهوَ عادَتُها

وَما إِصابَةُ مَرمى سَهمِكَ الغَرَبِ

إِذا أَصَبتَ بِسَهمٍ قَد رَمَيتَ بِهِ

وَما اِعتَمَدتَ فَذاكَ السَهمُ لَم يُصِبِ

ماءٌ مِنَ السُحبِ أَشطانُ اليَراعِ غَدَت

تَمتاحُهُ مِن قُلوبٍ هُنَّ كَالقُلُبِ

جَرَّ النَسيمُ بِمَعناها الذُيولَ وَلا

زالَت مُوَشَّحَةَ الغُدرانِ بِالعُشُبِ

حَلَّت دِيارَكَ آمالُ العُفاةِ وَلا

حَلَّت يَدُ الدَهرِ مِنها مَعقِدَ الطُنُبِ

وَكَم يَدٍ تَحمِلُ الأَقلامَ قاصِرَةٍ

عَن حَقِّها فَتُرى حَمّالَةَ الحَطَبِ

إِمامُكَ الصُبحُ كَم يَشكو دُجىً وَوَجىً

فَظاظَةُ الشَوكِ قَد تُفضي إِلى الرُطَبِ

قِصارُ أَقلامِهِ يَصنَعنَ في كُتُبِ

بِالعَقلِ ما تَصنَعُ القُضبانُ في كُثُبِ

كأَنَّ أَحرُفَهُ كَأسٌ يَدورُ بِها

ساقي يَراعٍ عَلَيها الشَكلُ كَالحَبَبِ

فَاِعجَب لِذا السُكرِ تَزدادُ العُقولُ بِهِ

نَعَم إِذا الخَمرُ كانَت لِاِبنَةِ الأَدَبِ

صَديقَةُ العَقلِ مِنها يُستَفادُ وَما

عَدَاوَةُ العَقلِ إِلّا لِاِبنَةِ العِنَبِ

وَهيَ المَعاني الَّتي الأَسيافُ تَخدُمُها

مَسلولَةً وَهِيَ لِلأَلفاظِ في القُرُبِ

ما الثَيِّباتُ مِنَ العُجمِ الَّتي جُلِيَت

عَلَيكَ بِالأَمسِ مِن أَبكارِها العُرُبِ

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في ديوان القاضي الفاضل، شعراء العصر الأيوبي، قصائد

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات