Skip to main content
search

إنِّي ذكــــرتُكِ وفي ذكْـــــرايَ أشْـــــــــــــــجَاني..

قدْ هاجَتِ الرُّوحَ هُمومِي وأحْـــــــــزاني..

ما لي أراكِ تُســــــامِـــرينَ اللّــيلَ في كمَـــدٍ

كمَا تُســـــــامرُ مُهجتِي لوعَـــــــــــــةٌ لخِلَّاني..

أشجارُ تفّـــاحي أنا ما زلْتُ أعشَــــــــقُها..

عِشـــــقَ الطُّفــــــــولةِ في روضِ أحْضَاني..

أشجارُ تفّـــــاحي إنّي ما زلْـــتُ أذكُرُهــــــا

مَغروسةً في دمِي وفِكْري ووُجْــــــداني..

أشجارُ تفّـــــــــــاحي يا نُهـــــودَ طُفُـــولاتي..

فيكِ شَقاواتي وشَيءٌ مــــــــنْ بُطــُولاتي..

بهذهِ الأبياتِ المرتجَلةِ بوزنٍ أو دونَ وزنٍ- ولسْتُ ممَّن يُبالي بالأوزانِ- أبتـدئُ بَوْحِي بحَنينِي إلى مهْدِ الطُّفولةِ ومَلْهَى الصِّبا في ربوعِ قَريتي الَّتي تتربَّع عرشاً من عُروشِ الجمالِ في وطنِي..

قَريتِي جنَّةٌ من جنانِ اللهِ تَغْفو بينَ أحضانِ الوديانِ.. ترتَدي أبْهَى الحُللِ المطرَّزةِ بأشجارِ التُّفَّاحِ والتِّينِ والزَّيتونِ والعِنبِ والرُّمَّانِ..

للتّينِ نكْهةٌ تُغنِّيها زقْزقةُ العصافيرِ.. وللزَّيتونِ حِكايةٌ يَرويْها تَغريدُ البلابلِ بينَ الجداولِ والحقولِ.. وللكرومِ رواياتٌ تُردِّدُها ألسُنُ المحاريثِ في قَبْضةِ الفلَّاحِ من رحِمِ السِّنينَ.. وللرُّمانِ ابتِسامتُه حينَ تَعشقُ ثمارُه إشراقةَ الصَّباحِ وتغْفُو حالمةً على خدِّ الأصيلِ..

لكنَّ أشجارَ تفَّاحِي لها حكاياتٌ وقصصٌ ورواياتٌ وأشعارٌ تسيلُ فيضاً من الحبِّ على أغصانِ التِّينِ حينَ تعانقُها أغصانٌ منَ الزَّيتونِ.. وتستمرُّ حكايةُ العشقِ صامتةً حينَما تُغازلُها ذؤاباتُ عرائشِ الأعْنابِ صانِعةً تيجَاناً منْ عروشِ الجمالِ.. ومَن لا يَعشقُ جمالَ الطَّبيعةِ بصمْتٍ لم يذُقْ طعْمَ الهَوى، كمَا أنَّ الكلماتِ تَفقدُ مَعْناها الحقيقيَّ في التَّعبيرِ عنِ الحبِّ حينَ تُقالُ، على نحوِ ما عبَّر شاعرُنا الكبيرُ نزار قبّاني ( )

فإذَا وقفْتُ أمامَ حُسْنِكِ صامِتاً        فالصَّمْتُ في حَرَم الجَمالِ جَمـــالُ

كَلِمــــاتُنا في الحُـــبِّ.. تَقتُـــــلُ حُبَّنَا        إنَّ الحُـــروفَ تَمُــــــوتُ حينَ تُقَــــــالُ

والحياةُ جميلةٌ إذا نظرْنا إليها بعينِ الجمالِ.. ولنَا في فلسفةِ الحبِّ والجمالِ عندَ شاعرِنا المهْجريِّ إيليّا أبو ماضي عِبرةٌ ومَحجَّةٌ في الجَمالِ:

كَم تَشـــــــتَكي وَتَقـــــــــولُ إِنَّكَ مُعـــــــــــــدِمُ          وَالأَرضُ مِلكُكَ وَالسَـــــــما وَالأَنجُــــــــــــمُ

وَلَكَ الحُقـــــــولُ وَزَهــــــــــــرُها وَأَريجُـــــــها          وَنَســــــــــــيمُها وَالبُــــــلبُـــــــــــــــلُ المُتَرَنِّـــــــــــمُ

والمـــــــــــاءُ حَــــــــوْلَكَ فضَّــــــــــــةً رَقـــــــــــراقَةً          والشَّــــــمسُ فَوْقَــــــــكَ عَسْــجَـدٌ يتَضَرَّمُ

والنُّـــــــورُ يَبْني في السُّـــــــــفوحِ وفي الذُّرى          دُوراً مُـــزَخــــــــــــــرفةً وحيْــــــــنـــــاً يَهـْــــــــــدِمُ

فكأنّـــــــهُ الفنّــــــــــانُ يَعـــــــــــرِضُ عابثــــــــــــاً          آياتـِــــــــــــــــــــهِ قُـــــــــــــــــــدّامَ مَـــــــــن يتَعـــــــلّمُ

وكأنّــــــــهُ لصــــــفائِـــــــــــــــهِ وسَــــــــــنائـِـــــــــــــهِ          بحــــــــــــــــــرٌ تَعُـــــــومُ بهِ الطّيـــــورُ الحُــــــوّمُ

هشّتْ لكَ الدُّنيا فمَـــــــــــــا لكَ واجِماً؟          وتبسَّــــــــــــمَتْ فعَـــــــــــــــلامَ لا تتَبسَّـــــــــــمُ

إنْ كنْتَ مُكتئِباً لعــــــــــــــزّ قـــــــــــــدْ مَضَى            هيهـــــــــاتَ يُرجِـــــــعُه إليـــــــــــــــكَ تَنــــــــــدُّمُ

نعمْ إنَّ الحياةَ جميلةٌ.. وكلُّ إنسانٍ منَّا غنيٌّ بطبعِهِ وطبيعتِهِ الَّتي تُحيطُ به.. وأقولُ لمن أبعَدتْهُ سيوفُ الجهلِ والقهرِ عن موطِنهِ: لا تَحزنْ، فإنَّ الوطنَ لا يَموتُ ولا بدَّ لكلِّ الغُزاةِ أنْ يعْبُروا، ولا بدَّ أن يجرفَهم سيلٌ عرِمٌ.. وستَعودُ الطُّيورُ إلى أوكارِها مهْما ادلَهمَّتْ ليالي الزَّمانِ..

ولا بدَّ أن نَعودَ يوماً إلى أرضِنا وسمائِنا ونجومِنا وحقُولِنا، ونستحِمَّ بأشعَّتِها الذَّهبيَّةِ، ونترنَّمَ على أنغامِ بلابلِنا، وننْتشِيَ بأريجِ أزهارِنا، ونتطَّهرَ في فضَّةِ جداوِلِنا، ونُحلِّقَ بفكرِنا كمَا تُحلِّقُ طيورُنا، ولا بدَّ أن تَهشَّ لنا الدُّنيا كمَّا هشَّت لمنْ لا يَعرفُ طعمَ الحياةِ، ولا بدَّ أن تبتسِمَ لنا كمَا ابتَسمَتْ لوجُوهٍ لا تُدركُ معْنى الابتِسامةِ، ولا بدَّ أن يَعودَ عزٌّ سلبتْهُ منَّا كلُّ يدٍ آثمةٍ فاجِرةٍ!!

أنا لسْتُ مُتنبِّئاً ولا مُنجِّماً ولا فيلسُوفاً.. أنا إنسانٌ علَّمتْني الأشجارُ معْنى الحياةِ، ومنَحَتْني الطُّيورُ حُرَّيةَ التَّغريدِ، وحبَتْني الأزهارُ أريجَ المحبَّةِ، وصقلَتْني أشعَّةُ الشَّمسِ بحرارتِها، وأرضعَتْني الحقيقةُ لبانَهَا في وضحِ النَّهارِ، ووَشَى القمُر إليَّ أسرارَ عشْقِه الأبديِّ الّذي يَجْري في عروقِي ما نَبَضَ خافِقي!

كلُّنا مُهاجرٌ، وكلُّنا مُبْعدٌ عن أهلِه وأجملِ ذكرياتِه وتاريخِه.. بعضُنا مَن هاجرَ بحثاً عن لُقمةِ العيشِ الّتي أضحَتْ سُمَّاً نتجرَّعُه.. فخسِرْنا عُمْرَنا، ومالَتْ شمْسُنا للأصيلِ، ولم نجْنِ ثمَنَ حبَّةِ عرقٍ من عرقِ جبينِنا.. ولم نجْنِ غيرَ الحِرمانِ والقهرِ والذُّلِّ والمهانةَ.. أضعْنا كلَّ شيءٍ: هُويَّتَنا، ثقافتَنا، سعادتَنا، انتماءَنا إلى ذواتِنا..

وبعضُنَا مَن شرَّدتْهُ حروبُ الغبَاءِ بينَ داحِسَ والغَبراءِ، وبينَ أبطالٍ صنَعتْهُم ذاكرتُنا المتخلِّفةُ، واقتَتَلْنا منْ أجلِهم.. فقُتِلَ الأبرياءُ ورُحِّلَ الأنقِياءُ وشُرِّد الأوفِياءُ.. فلم يبْقَ في ساحةِ الصِّراعِ إلّا الأبطالُ الَّذين صنعتْهُم ذاكرةُ التَّلْقينِ والتَّدجينِ مدعُومةً من شياطينِ بَني قنِيقاعَ على امتِدادِ الكرةِ الأرضيَّةِ.. وتستَمرُّ مِحنةُ الأرضِ والسَّماءِ.. ويَضيعُ الوطنُ، وتَحترقُ أشجارُ التُّفاحِ والتِّينِ والزَّيتونِ وكرومُ اللَّوزِ والجَوزِ والعِنبِ.. وتتَشتَّتُ الأرواحُ في البحارِ وخلفَ المحيطاتِ.. ولا يظلُّ في الذَّاكرةِ إلَّا قِصصُ ورواياتُ الحدائقِ والجداولِ والمعاولِ وتَغريدِ البـلابلِ وزقْزقةِ العصافيرِ..

يَضيعُ الوطنُ بحثاً عنِ المناصبِ والمكاسبِ.. ويموتُ المواطنُ الَّذي مِن أجلِهِ خُلِقَ الوطنُ، ومِن أجلهِ سُخِّرتِ المناصِبُ والمكاسِبُ..

غبيٌّ مَن يظنُّ أنَّهُ وطنيٌّ منَ الطِّرازِ الرَّفيعِ وغيرُه خونَةٌ وعُملاءُ.. وأغْبى منهُ مَن يظنُّ أنَّهُ خليفةُ اللهِ على الأرضِ، قدْ كلَّفتْهُ السَّماءُ بنشرِ تعاليمِ السَّماءِ بالسَّيفِ وقوَّةِ السِّلاحِ.. فالدِّينُ، أيُّ دينٍ سماويٍّ أو أرضيٍّ، لم يُبْعثْ بالقوَّةِ، بل دخلَ نفوسَ النَّاسِ بالحِكمةِ والموعظةِ الحسنةِ.. والتَّاريخُ شاهِدٌ على ما أقولُ..

فالشُّعوبُ الّتي قِيدَتْ إلى حظيرةِ الأديانِ بالقُوَّة، سَرْعانَ ما خرجَتْ من تلكَ الحظيرةِ بعدَ حينٍ منَ الزَّمان.. أو ارتدَّتْ وعادَتْ إلى جاهليَّةٍ أقذرَ من جاهليَّتِها الأُولى!

وأعودُ لأشجارِي الَّتي استَوطَنَتْ ذاتِي، وسكنْتُ في ذاكرةِ جُذورِها ومشاعرِ أغصانِها وحديثِ وُريقاتِها..

أنا مُواطِنٌ لا يَملكُ سِوى ذاكرةِ الأشجارِ والطُّيورِ والجداولِ والحقولِ.. قدْ تمرُّ عواصِفُ الغدْرِ لاقتلاعِنا منَ الجذورِ، ولكنَّنا سنبْقَى صامِدينَ في ذاكرةِ التَّاريخِ، نُقاومُ كلَّ حملاتِ البرابرةِ والمغولِ والتَّتارِ.. أنا مُواطِنٌ أُعشِّشُ في حقُولي.. أنا مُواطنٌ رضعْتُ الوطنيَّةَ مذْ كنْتُ رضيْعاً منْ أثداءِ أرضِي وكُرومِي..

أنا مُواطنٌ مُفْردٌ رضعْتُ فلسفةَ الوطنِ منْ عرقِ جبِيني.. أنا ثورةٌ على كلِّ مَن يُلقِي علَيْنا دروسَاً في الوطنيَّةِ.. أنا ثورةٌ على كلِّ مَن يدَّعي أنَّهُ ظِلُّ اللهِ على الأرضِ!!

 الشارقة في 16 /6/ 2017                  

Close Menu

جميع الحقوق محفوظة © عالم الأدب 2024