Skip to main content
search

حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:طِفْتُ الآفَاقَ، حَتَّى بَلَغْتُ العِرَاقَ، وَتَصَفَّحْتُ دَوَاوينَ الشُّعَرَاءِ، حَتَّى ظَنَنْتُني لَمْ أُبْقِ فِي القَوْسِ مِنْزَعَ ظَفَرٍ، وَأَحَلَّتْنِي بَغْدَادُ فَبَيْنَمَا أَنَا عَلَى الشَّطِّ إِذْ عَنَّ لِي فَتَىً فِي أَطْمَارٍ، يَسْأَلُ النَّاسَ وَيَحْرِمُونَهُ، فَأَعْجَبَتْنِي فَصَاحَتُهُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلَهُ عَنْ أَصْلِهِ وَدَارِهِ، فَقَالَ: أَنَا عَبْسِيُّ الأَصْلِ إِسْكَنْدَرِيُّ الدَّارِ، فَقُلْتُ: مَا هَذا اللِّسَانُ؟ وَمِنْ أَيْنَ هذَا البَيانُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْعِلْمِ، رُضْتُ صِعَابَهُ؟ وَخُضْتُ بِحَارَهُ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ العُلُومِ تَتَحَلَى؟ فَقَالَ: لِي فِي كُلِّ كِنانَةٍ سَهْمٌ فَأَيَّهَا تُحْسِنُ؟ فَقُلْتُ: الشِّعْرَ: فَقَالَ: هَلْ قَالَتِ العَرَبُ بَيْتاً لا يُمْكِنُ حَلَّهُ؟ وَهَلْ نَظَمَتْ مَدْحَاً لَمْ يُعْرَفْ أَهْلُهُ؟ وَهَلْ لَهَا بَيْتٌ سَمُجَ وَضْعُهُ، وَحَسُنَ قَطْعُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ لاَ يَرْقَأُ دَمْعُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَثْقُلُ وَقْعُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَشُجُّ عَرْضُهُ وَيَأْسُو ضَرْبُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَعْظُمُ وَعِيدُهُ وَيَصْغُرُ خَطْبُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ أَكْثَرُ رَمْلاً مِنْ يَبْرينَ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ كَأَسْنَانِ المَظْلُومِ، وَالمِنْشَارِ المَثْلُومِ؟ وَأَيُّ بِيْتٍ يَسُرُّكَ أَوَّلُهُ وَيَسُوءُكَ آخِرُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَصْفَعُكَ بَاطِنُهُ، وَيَخْدَعُكَ ظَاهِرُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ لاَ يُخْلَقُ سَامِعُهُ، حَتَّى تُذْكَرَ جَوَامِعُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ لا يُمْكِنُ لَمْسُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَسْهُلُ عَكْسُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهِ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ مَهِينٌ بِحَرْفٍ، وَرَهِينٌ بِحَذْفٍ؟؟؟ قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَوَ اللهِ مَا أَجَلْتُ قِدْحَاً في جَوَابهِ، وَلا اهْتَدَيْتُ لِوَجْهِ صَوَابِهِ، إِلاَّ لا أَعْلَمُ. فَقَالَ: وَمَا لاَ تَعْلَمُ أَكْثَرُ، فَقُلْتُ: وَمَا لَكَ مَعْ هَذا الفَضْلِ، تَرْضَى بِهَذا العَيْشِ الرَّذْلِ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

بُؤْساً لِهَذا الزَّمَانِ مِنْ زَمَنٍ *** كُلُّ تَصَارِيفِ أَمْرِهِ عَجَبُ

أَصْبَحَ حَرْباً لِكُلِّ ذِي أَدَبٍ *** كَأَنَّمَا سَـاءَ أُمَّـهُ الأَدَبُ

فَأَجَلْتُ فِيهِ بَصَري، وَكَرَّرْتُ فِي وَجْهِهِ نَظَري، فَإِذَا هُوَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَقُلْتُ: حَيَّاكَ اللهُ وَأَنْعَشَ صَرْعَكَ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ بِتَفْسيرِ مَا أَنْزَلْتَ، وَتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلْتَ، فَعَلْتَ، فَقَالَ: تَفْسيرُهُ: أَمَّا البَيْتُ لا يُمْكِنُ حَلُّهُ فَكَثيرٌ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الأَعْشَى.

دَراهِمُنَا كُلُّها جَـيِّدٌ *** فَلا تَحْبَسَّنا بِتَنْقَادِهَا

وأَمَّا المَدْحُ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ أَهْلُهُ فَكَثيرٌ، وَمِثالُهُ قَوْلُ الهُذَلِيِّ:

وِلِمْ أِدْرِ مَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ رِداءَهُ *** عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلَّ عَنْ مَاجِدٍ مَحْضِ

وَأَمَّا البَيْتُ الذَّي سَمُجَ وَضْعُهُ، وَحَسُنَ قَطْعُهُ، فَقَوْلُ أَبي نُوَاسِ:

فَبِتْنَا يَرَانَا اللهُ شَـرَّ عِـصَـابَةٍ *** تُجَرِّرُ أَذْيَالَ الفُسُوقِ، وَلا فَخْرُ

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لاَ يَرْفَأُ دَمْعُهُ فَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ *** كَأَنَّهُ مِنْ كُلىً مَفْرِيَّةٍ سَرَبَ

فَإِنَّ جَوامِعَهُ: إِمَّا مَاٌء، أَوْ عَيْنٌ، أَوْ انْسِكَابٌ، أَوْ بَوْلٌ، أَوْ نَشيئَةٌ، أَوْ أَسْفَلُ مَزادَةٍ، أَوْ شِقٌّ، أَوْ سَيَلانٌ.

وَأَمَّا البَيتُ الَّذِي يَثُقلُ وَقْعُهُ فَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الرُّومِيِّ:

إِذَا مَنَّ لَمْ يَمْنُنْ بِمَنّ يَمُنُّهُ *** وَقَالَ لِنَفْسي: أَيُّها النَّفْسُ أَمْهِلي

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذي تَشُجُّ عَرُوضُهُ وَيَأَسُو ضَرْبُهُ فَمِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

دَلَفْتُ لَهُ بِأَبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ *** كَمَا يَدْنُو المُصَافِحُ لِلسَّلامِ

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَعْظِمُ وَعِيدُهُ وَيَصْغُرُ خَطْبُهُ فَمِثَالُهُ قَوْلُ عَمْرو ابْنِ كُلْثُوم:

كَأَنَّ سُيُوفَنا مِنَّا وَمِنْهُمْ *** مَخارِيقٌ بِأَيْدِي لاعِبينَا

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ رَمْلاً مِنْ يَبْرِينَ فَمِثُلُ قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:

مُعْرَوْرِياً رَمَضَ الرَّضْرَاضِ يَرْكُضُهُ *** وَالشَّمْسُ حَيْرَى لَها في الجَوِّ تَدْوِيمُ

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ كَأَسْنَانِ المَظْلُومِ، وَالمِنْشَارِ المَثْلُومِ؛ فَكَقَولِ الأَعْشَى:

وَقَدْ غَدَوْتُ إِلى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي *** شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَـوِلُ

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَسُرُّكَ أَوَّلُهُ وَيَسُوؤُكَ آخِرُهُ فَكَقَوْلِ امْرِئ القَيْسِ:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً *** كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَصْفَعُكَ بَاطِنُهُ وَيَخْدَعُكَ ظَاهِرُهُ فَكَقَوُلُ القَائِل:

عَاتَبْتُهَا فَبَكَتْ، وَقَالَتْ يَا فَتىً *** نَجَّاكَ رَبُّ العَرْشِ مِنْ عَتْبِي

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لا يُخْلَقُ سَامِعُهُ، حَتَّى تُذْكَرَ جَوَامِعُهُ، فَكَقَوْلِ طَرِفَةَ:

وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّتُهُمْ *** يَقُولُونَ: لاَ تَهْلِكْ أَسىً وَتَجَلَّدِ

فَإِنَّ السَّامِعَ يَظُنُّ أَنَّكَ تُنْشِدُ قَوْلَ امْرِئ القَيْسِ.

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ لَمْسُهُ فَكَقَوْلِ الخُبْزرُزِّيِّ:

تَقَشَّعَ غَيْمُ الهَجْرِ عَنْ قَمَرِ الحُبِّوَ *** أَشْرَقَ نُورُ الصُّلْحِ مِنْ ظُلْمَةِ العَتْبِ

وَكَقَوْلِ أَبي نُوَاسٍ:

نَسِيمُ عَبِيرٍ فِي غِلاَلَةِ مَاءٍ *** وَتَمْثَالُ نُورٍ فِي أَدِيمِ هَوَاءٍ

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَسْهُلُ عَكْسُهُ فَكَقَوْلِ حَسَّانَ:

بِيضُ الوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ *** شُمُّ الأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوُ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِه فَكَحَمَاقَةِ المُتَنَبي:

عِش ابْقَ اسْمُ سُدْ جُدْ قُدْ مُر أَنْه اسْرُفُهْ تُسَلْغِظِ *** ارْمِ صِبِ احْمِ اغْزُ اسْبِ رُعْ زَعْ دِلِ ابْنِ نَلْ

وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ مَهِينٌ بِحَرْفٍ، وَرَهِينٌ بِحَذْفٍ، فَكَقَوْلِ أَبِي نُوَاسِ:

لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ *** كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَهْ

وَكَقَوْلِ الآخَرِ:

إِنَّ كَلاَماً تَرَاهُ مَدْحـاً *** كَانَ كَلاماً عَلَيْهِ ضَاءَ

يِعْنِي أَنَّهُ إِذَا أَنْشَدَ ” ضَاعاَ” كَانَ هِجَاءً، وَإِذَا أَنْشَدَ “ضَاءَ” كانَ مَدْحاً.

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَتَعَجَّبْتُ واللهِ مِنْ مَقَالِه، وَأَعْطَيْتُهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَغْييرِ حَالهِ، وَافْتَرَقْنَا.

بديع الزمان الهمذاني

أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد المعروف ببديع الزمان الهمذاني ، (358 هـ/969 م - 395 هـ/1007 م)، كاتب وأديب من أسرة عربية ذات مكانة علمية مرموقة استوطنت همدان وبها ولد بديع الزمان فنسب إليها، يعتبر كتاب المقامات أشهر مؤلفات بديع الزمان الهمذاني الذي له الفضل في وضع أسس هذا الفن وفتح بابه واسعاً ليلجه أدباء كثيرون أتوا بعده.

Close Menu

جميع الحقوق محفوظة © عالم الأدب 2024