بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل

ديوان أبو الطيب المتنبي

بِنا مِنكَ فَوقَ الرَملِ ما بِكَ في الرَملِ

وَهَذا الَّذي يُضني كَذاكَ الَّذي يُبلي

كَأَنَّكَ أَبصَرتَ الَّذي بي وَخِفتَهُ

إِذا عِشتَ فَاِختَرتَ الحِمامَ عَلى الثُكلِ

تَرَكتَ خُدودَ الغانِياتِ وَفَوقَها

دُموعٌ تُذيبُ الحُسنَ في الأَعيُنِ النُجلِ

تَبُلُّ الثَرى سوداً مِنَ المِسكِ وَحدَهُ

وَقَد قَطَرَت حُمراً عَلى الشَعَرِ الجَثلِ

فَإِن تَكُ في قَبرٍ فَإِنَّكَ في الحَشى

وَإِن تَكُ طِفلاً فَالأَسى لَيسَ بِالطِفلِ

وَمِثلُكَ لا يُبكي عَلى قَدرِ سِنِّهِ

وَلَكِن عَلى قَدرِ المَخيلَةِ وَالأَصلِ

أَلَستَ مِنَ القَومِ الأُلى مِن رِماحِهِم

نَداهُم وَمِن قَتلاهُمُ مُهجَةُ البُخلِ

بِمَولودِهِم صَمتُ اللِسانِ كَغَيرِهِ

وَلَكِنَّ في أَعطافِهِ مَنطِقَ الفَضلِ

تُسَلّيهِمُ عَلياؤهُم عَن مُصابِهِم

وَيَشغَلُهُم كَسبُ الثَناءِ عَنِ الشُغلِ

أَقَلُّ بِلاءً بِالرَزايا مِنَ القَنا

وَأَقدَمُ بَينَ الجَحفَلَينِ مِنَ النَبلِ

عَزاءَكَ سَيفَ الدَولَةِ المُقتَدى بِهِ

فَإِنَّكَ نَصلٌ وَالشَدائِدُ لِلنَصلِ

مُقيمٌ مِنَ الهَيجاءِ في كُلِّ مَنزِلٍ

كَأَنَّكَ مِن كُلِّ الصَوارِمِ في أَهلِ

وَلَم أَرَ أَعصى مِنكَ لِلحُزنِ عَبرَةً

وَأَثبَتَ عَقلاً وَالقُلوبُ بِلا عَقلِ

تَخونُ المَنايا عَهدَهُ في سَليلِهِ

وَتَنصُرُهُ بَينَ الفَوارِسِ وَالرَجلِ

وَيَبقى عَلى مَرِّ الحَوادِثِ صَبرُهُ

وَيَبدو كَما يَبدو الفِرِندُ عَلى الصَقلِ

وَمَن كانَ ذا نَفسٍ كَنَفسِكَ حُرَّةٍ

فَفيهِ لَها مُغنٍ وَفيها لَهُ مُسلي

وَما المَوتُ إِلّا سارِقٍ دَقَّ شَخصُهُ

يَصولُ بِلا كَفٍّ وَيَسعى بِلا رِجلِ

يَرُدُّ أَبو الشِبلِ الخَميسَ عَنِ اِبنِهِ

وَيُسلِمُهُ عِندَ الوِلادَةِ لِلنَملِ

بِنَفسي وَليدٌ عادَ مِن بَعدِ حَملِهِ

إِلى بَطنِ أُمٍّ لا تُطَرِّقُ بِالحَملِ

بَدا وَلَهُ وَعدُ السَحابَةِ بِالرَوى

وَصَدَّ وَفينا غُلَّةُ البَلَدِ المَحلِ

وَقَد مَدَّتِ الخَيلُ العِتاقُ عُيونَها

إِلى وَقتِ تَبديلِ الرِكابِ مِنَ النَعلِ

وَريعَ لَهُ جَيشُ العَدُوِّ وَما مَشى

وَجاشَت لَهُ الحَربُ الضَروسُ وَما تَغلي

أَيَفطِمُهُ التَورابُ قَبلَ فِطامِهِ

وَيَأكُلُهُ قَبلَ البُلوغِ إِلى الأَكلِ

وَقَبلَ يَرى مِن جودِهِ ما رَأَيتَهُ

وَيَسمَعَ فيهِ ما سَمِعتَ مِنَ العَذلِ

وَيَلقى كَما تَلقي مِنَ السِلمِ وَالوَغى

وَيُمسي كَما تُمسي مَليكاً بِلا مِثلِ

تُوَلّيهِ أَوساطَ البِلادِ رِماحُهُ

وَتَمنَعُهُ أَطرافُهُنَّ مِنَ العَزلِ

نُبَكّي لِمَوتانا عَلى غَيرِ رَغبَةٍ

تَفوتُ مِنَ الدُنيا وَلا مَوهِبٍ جَزلِ

إِذا ما تَأَمَّلتَ الزَمانَ وَصَرفَهُ

تَيَقَّنتَ أَنَّ المَوتَ ضَربٌ مِنَ القَتلِ

هَلِ الوَلَدُ المَحبوبُ إِلّا تَعِلَّةٌ

وَهَل خَلوَةُ الحَسناءِ إِلّا أَذى البَعلِ

وَقَد ذُقتُ حَلواءَ البَنينَ عَلى الصِبا

فَلا تَحسَبَنّي قُلتُ ما قُلتُ عَن جَهلِ

وَما تَسَعُ الأَزمانُ عِلمي بِأَمرِها

وَلا تُحسِنُ الأَيّامُ تَكتُبُ ما أُملي

وَما الدَهرُ أَهلٌ أَن تُؤَمَّلَ عِندَهُ

حَياةٌ وَأَن يُشتاقَ فيهِ إِلى النَسلِ

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في ديوان المتنبي، شعراء العصر العباسي، قصائد

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات