النقد البلاغي للشعر 

آثرت أن أكتب في هذا الموضوع لأسباب ذاتية و أخرى موضوعية ،فالذاتية تتجلى في الحنين إلى ذلك الماضي الجميل أيام التحصيل والدرس ،والموضوعية تتجلى في كون الموضوع لم يعد يعنى به كما كان الشأن في وقت سابق ،ولا أدري عما إذا كان طغيان المناهج الحديثة في النقد الأدبي للشعر أزاحته وأبعدته عن تناول النص الشعري لانتهاء صلاحيته أم ماذا؟!!!

الموضوع الذي أعنيه هنا هو النقد البلاغي للشعر،وبالخصوص للقصيدة العمودية،إذ ونحن فتية فتحنا الأعين على هذا النوع من النقد في المدرسة ومنه تعلمنا ملامسة القصيدة العمودية ملامسة ذات بعد فني ،ومنه كذلك بدأنا في تلمس تذوقها على المستويين الموسيقي والمضموني.ومنه للمرة الثالثة بدأنا التعرف على أعلام الشعراء وفطاحلته الذين برزوا في قرض الشعر ،وبإيجاز :لقد علمنا النقد البلاغي أن ندخل القصيدة بدون تهيب وأن نمتح منها ما يمكن متحه من أسلوب متين وفخامة لفظ و رقة إحساس ومضمون منتقى بعناية يناسب سننا ويزرع فينا حب الشعر ومعه حب اللغة التي كتب بها.

وسأتحدث في البداية عن كيف كانت تقدم القصيدة إلى الطالب ثم أتحدث من بعد ذلك عن معمارية النقد البلاغي فيما يخص اشتغاله على القصيدة .

كانت القصيدة تقدم إلى الطالب بالشكل التالي:

1ـ التعريف بالشاعر:

إعطاء نبذة عن حياة الشاعر :مولده،موطنه ،دراسته،نشاطه وفاته(إن كان متوفى).

2 ـ جو النص:

يتم فيه الحديث عن القصيدة من حيث مضمونها ثم تصنيفها هل هي من الشعر العاطفي أو الاجتماعي أو السياسي أو الملحمي الخ…

3ـ مجمل الأفكار:

ويتم هذا بتقسيم القصيدة إلى فقرات ،كل فقرة ذات مضمون معين و فكرة محددة،والقيام بتبسيط كل فكرة وإيضاحها حتى تنفتح القصيدة مضمونيا أمام الطالب،بحيث في الأخير يخرج هذا بإلمام عام بمحتوى القصيدة،حتى إذا قرأها كان ملما بماجاء فيها من أفكار.

4 ـ اللغة:

وفيها يتم التطرق إلى الألفاظ الصعبة بالشرح،فكل لفظ له معنى أو معان،وليس يخفى بأن شرح الألفاظ مفتاح لا يمكن تجاهله لفتح باب القصيدة ،فكم من لفظ غامض أو مبهم كان سببا في تأفف الطالب من القصيدة أو من الشعر ككل.

5 ـ الشرح:

وفيه تقدم القصيدة بطريقة نثرية ، طريقة تعمل على الإحاطة بكل ما جاء في القصيدة من معان،محاولة قدر الإمكان أن لا تخل بمضمونها.

أما النقد البلاغي فله معماريته الخاصة حينما يعمد إلى قراءة القصيدة ،وسأتحدث عن بعض لبنات المعمار فيه ،وأتمنى أن لا يخل الإيجاز بتوضيح أي لبنة:

1 ـ الأفكار:

لا شك أن القصيدة حمالة أفكار عدة ،وفي النقد البلاغي تتم لملمة هذه الأفكار وعرضها عرضا يمتاز بالمتانة والوضوح،إذ هنا يتم عرض القصيدة وكأنها نص نثري لا مجال فيه للإبهام والغموض وركوب الصعب من الألفاظ.

2 ـ العاطفة:

الشاعر في القصيدة لا يعرض أفكاره عرضا ذهنيا وحسب،بل إنه يمزج الأفكار بالعاطفة في صورة إحساسات و مشاعر ،وعلى الناقد البلاغي أن يشير إلى هذه العاطفة ويعيّنها في القصيدة ويبين مدى قوتها وضعفها ومدى صدقها من زيفها.

3 ـ الأخيلة والصور:

من مقومات الشعر التخييل والتصوير،والإخلال بهذين يكاد يكون إخلالا بالشعر نفسه ،والناقد البلاغي عليه أن يبرز التصوير خاصة ما يعتمد منه على الكناية والتشبيه والاستعارة،أو على التصوير ذلك الذي يعتمد على الإجادة في التعبير فيرسم لنا صورة مادية أو صورة عاطفية.

4 ـ التعبير :

فالشاعر أحيانا يوفق في قول ما يريد وأحيانا لا يوفق ،فاختياره للألفاظ ينبغي أن يكون ملائما للمعنى الذي يتغياه،والعبارات ينبغي أن تكون موحية وفيها دقة وبراعة في التصوير.

4 ـ الموسيقى:

القصيدة لها موسيقى داخلية وهي تتمثل في علاقة الألفاظ فيما بينها ومدى تناغمها وانسجامها مع بعضها البعض،والجمل فيما بينها أيضا وكذلك العبارات ،وتتمثل الموسيقى الخارجية في الوزن والعروض ،والناقد البلاغي عليه أن يبين في هذا الصدد ما هو بحر القصيدة وعما إذا كان الشاعر قد وفق في اختيار البحر الذي يوائم الجو النفسي لقصيدته ،فهناك بحور ذات إيقاع حزين وهناك بحور ذات إيقاع راقص باعث على السرور وهناك أخرى ذات إيقاع جاد وصاخب لا يصلح للهزل…

5 ـ المآخذ:

قد تكون في القصيدة بعض المآخذ كإسناد كلمة إلى أخرى غير ملائمة لها أو استعمال كلمات تبدو نشازا في جسم القصيدة ،كأنها بقع سوداء في بياض القصيدة.

أتمنى أن أكون قد أعطيت لمحة ولو بسيطة عن النقد البلاغي الذي كان له دور بارز في الدرس الشعري قبل أن يطفح الكيل بالمناهج الحديثة من سيميولوجية وتفكيكية وبنيوية وموضوعاتية إلى آخر هذه التسميات والتي زادت القصيدة الحديثة وخاصة قصيدة التفعيلة وما يسمى بقصيدة النثر غموضا في غموض مما أربك المشهد الشعري العربي الحديث إرباكا فعانى الشعر به ومنه وما زال يعاني إلى حد الساعة.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

تعليقات